«سابع جار» وحياة بلا تألّه
تابعت مسلسل سابع جار وشاهدت حلقاته كلها، وترامى إلى مسامعي الجدل الدائر حوله من بعض الأصدقاء ما بين مؤيد بشدة ومعارض بشدة. والحقيقة أنني لم أسمع دويًا لهذا الجدل في الواقع كما هو متصور عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنني من البداية طاف بخاطري الكتابة عن هذا المسلسل لأنني وجدته معبرًا عن بعض القضايا التي تجول داخلي ولها أثر على المستوى الاجتماعي أيضًا، كما أنها تصب في قضية تصور حقائق الإيمان وكليات الدين.
كلما شرعت في الكتابة عنه أجدني مترددًا؛ إنني لن أحلل المسلسل تحليلًا نقديًا مجردًا، ولهذا لم أجد في المسلسل برغم انشغالي به مشهدًا أو حلقة أو حتى مجموعة حلقات بها من الكثافة الشعورية ما يمكنها فضح مكونه الداخلي وتجليته، وأظن أن هذا كان باعث ترددي. كذلك ليس من شأني التحليل وفقًا لتصنيفات الثنائية الساذجة ما بين مؤيد ومعارض، والتي غالبًا ما تتعرض للأمر من زوايا غير أصيلة – حتى وإن كانت صحيحة – مثل أن هذه ليست أخلاق الطبقة المتوسطة من جانب المعارض، أو إنها هي فعلًا أخلاقيات الناس حاليًا ولكننا نُعمي أعيننا عن الحقيقة، وهذا ما يقوله من أبهره المسلسل بسبب التمثيل غير المُتَكلَف الذي لم نعهده من قبل.
من أمثلة التفسيرات التي قد تكون صحيحة ولكنها لم تنفذ إلى المنطلق الحقيقي الكامن للعمل، المقطع الذي قدمه «أحمد بحيري» مقدم برنامج «تعاشب شاي» على «يوتيوب»، حين تعرض للمسلسل بالتحليل قال: «إن كتابة السيناريو ركيكة وتُمَثِل حالة رزع في الكتابة، ولا يوجد تفاعل حقيقي بين الممثلين»، وحين تعرّض لأحد أهم المشاهد التي تعبر بوضوح عن المنطلق الكامن للمسلسل – حديث الأختين «ليلى» و«لمياء» – عن الطب النبوي وحديث الذبابة، تهكم على الحوار لكونه غير مترابط؛ فأخت تتكلم عن الذبابة، والأخت الأخرى ترد عن كون العسل فيه شفاء للناس، حتى وصف الحوار وكأنه «مكتوب بالأوتوكوريكت بتاع الموبايل»، إضافة إلى الحبكة التي ليس لها خط درامي واضح، وغيرها مما يدل على ركاكة المسلسل، وكونه لا يمثل الطبقة المتوسطة، وخَلُص إلى أن المسلسل ليس بقوة التأثير المثارة حوله، والدليل هشاشته التي أوضحها في تحليله.
الحقيقة أن هذا النوع من التفسير قد يكون صحيحًا ولكنه ليس أصيلًا؛ وبالأصالة أعني أنه لم يلمس مكمن الأمر ومنطلقه، ولهذا أجدني أتحفظ على هذا النوع من التفسيرات وأحاول جاهدًا وضع يدي على حقيقة الأمر في كل ما أقرأ وأشاهد وأتأمل، لعدة أسباب أهمها أن التفسيرات الصحيحة غير الأصيلة – والتي لا تنطلق من أكثر النقاط أصالة في العمل تعمل كطبقة سميكة – بتكرارها وتماسكها وقبولها مجتمعيًا عازلة للوصول للمنطلق الأصيل الذي يحدد ماهية الأمر، والأسئلة التي علينا الالتفات إليها في الوقت الحاضر.
أما الأمر الثاني، فإن جل الأعمال المعروضة باتت تخاطب مناطق جوانية عميقة في النفس الإنسانية، لا يجدي معها الحديث على مستوى أقل أصالة مما اخترقه العمل مثل «سابع جار» في حالتنا تلك، فالمسلسل في تقديري يمثل مانيفيستو لهواجس الواقع الحالي التي تجول في صدور جل الشباب خاصة، ولهذا فإن له أهمية كبيرة – بغض النظر عن كون أثره قد امتد إلى المستوى الخارجي أم لا – وهذا ما سيأتي ذكره.
إن مشهد الذبابة من المشاهد التي حفزتني على تأمل العمل كثيرًا؛ إنه يمثل حالاً جوانيًا شديد العمق لما يعتمل في الصدور، ويعبر عن تجليات كثيرة لعلاقة الأفراد بعضهم ببعض، وبالتالي يجسد المشهد ضمنًا إخفاق جدوى اللغة في التعبير، ولا يعول على رجاء من التواصل الإنساني… إلخ.
هذا التشظي اللغوي بين الشخصيات – حين تتحدث الأخت عن حديث الذبابة فترد الأخرى عن العسل وفائدته – يعبر تعبيرًا جليًا عن حالة من اعتباطية العلاقة بين الكلمات ومدلولها الخارجي، التي دشنها «نيتشه» في العصر الحديث وأثراها «دريدا» من بعده في حديثه عن رقص الدوال اللغوية، وهذا بدوره يعطي تصورًا عن أحدث صورة للإنسان في العصر الحديث في المجتمع العربي المسلم.
إن صورة الإنسان التي يحاول المسلسل حفرها وتأكيدها على المستوى الشعوري هو إنسان بلا رب، إنسان لا معنى لوجوده، لذا لا ضرورة من إقامة علاقات حقيقية مع غيره، ولهذا فالتواصل متشظٍ والاجتماع متفكك بلا غاية ولا هدف، وبالتالي إذا غاب التألُّه لله عز وجل فكل شيء مباح.
لكنني في الحقيقة لا أريد الوقوف كثيرًا عند هذا المشهد، لأنني أريد الوقوف على مشهد آخر أعتبره مشهدًا نموذجيًا يبرز صورة الإنسان فاقد الإله، وهو مشهد مصالحة «طارق» لـ«نهى» على شاطئ البحر. سَرَت في نفسي قشعريرة في هذا المشهد بسبب واقعيته وكثافته الشعورية، وبعد تأمل وتفكير في النمط الكامن وراءه وجدته متقنًا جدًا وماكرًا جدًا؛ فهو يمثل ذروة الحالة الشعورية والواقعية على مستوى الصورة، وماكر جدًا على مستوى الابتزاز العاطفي؛ فهو أشبه بلعب السامري على احتياج بني إسرائيل للتفاعل بمقتضى مشاعر التأله داخلهم، ولمعرفته بعدم جديتهم تمكن من توجيه هذا الشوق الجواني لديهم لعبادة العجل.
إن الاجتياح العاطفي في المشهد قد امتلك أكثر المناطق المؤثرة عند المُشَاهِد، والإنسان – في أغلب الأحيان – حين يتم اجتياحه شعوريًا لا يتساءل كثيرًا ولا يتشكك، وبعد ذلك تم ربط معنى التحرر بصورة خلع طارق لحجاب نهى، ورؤية الُمشاهد لهما وكأنها في حالة تجاوز لكل الضيق – المتجسد ضمنًا في حالة التزام نهى – وفي هذا إيماءة لحالة التدين المراد تجاوزها. إن خلع حجاب نهى يدفع ضمنًا على التحرر من حالات التدين القديمة التي لم تعد مناسبة للحياة، مثل آخر مشهد في خطوبة دعاء كذلك ولكنني لن أُفصل في الحديث عنه.
هذا المشهد لن تستطيع أساليب النقد الغاضبة توجيه سهامها له؛ فالشاطئ كان خاليًا من الناس وبالتالي ما فُعِل ليس حرامًا على المستوى الظاهر، فلم يُحدث انتهاكًا شرعيًا في أكثر المشاهد انتهاكًا لصورة الإنسان الرباني – كما يصفه «المسيري» – ووضع صورة للإنسان غير المكترث لوجود حال التأله لله في حياته.
إن المسيري قد نحت نموذجًا تفسيريًا أسماه «الحلولية بلا إله»؛ أي سيادة نمط تذوب فيه العلاقة بين الإنسان وربه وتُحسم لصالح الإنسان، ولكن هذا يحدث في غياب للإله في المنظومة العقدية، كما هو الحال في البوذية في الديانات القديمة، والإنسان في فلسفات ما بعد الحداثة على غرار الحلولية في النسق المسيحي أو اليهودي، حيث يوجد إله وتوجد علاقة بينه وبين الإنسان.
هذا النموذج يسري بقوة في مسلسل «سابع جار»، فعنوان المسلسل يفضح هذا النموذج الكامن، كما هو في المثل المشهور النبي «وصّى على سابع جار»، إن غياب الشطر الأول من المثل في المسلسل يوحي بقوة بهذا النموذج، ففي اجتماع بلا نمط يحكمه، ولا معاني يصبو إليها، يعد اجتماعًا بلا نبي ولا وصية، إنه اجتماع أشبه بحبات العقد المنفرطة التي اجتمعت عشوائيًا في مكان واحد بلا غاية ولا هدف.
كثيرًا ما كان يشغلني سؤال: لماذا حين أقرأ للفلاسفة الغربيين والعلمانيين والعرب – مع تحفظي على مصطلح العلمانيين العرب لأسباب ليس هذا المقال محلها – أجد أقوالهم لها مقدرة تفسيرية عالية لحال المسلم المعاصر على مستوى الممارسات الفردية والمجتمعية؟ ولماذا هذا المسلم يرفض هذا الكلام ويغضب للإسلام حين يُعرض عليه كلامًا من عينة أن الجنس هو المحرك الرئيسي للإنسان، و«البخاري» فيه أحاديث غير صحيحة والقرآن تاريخي… إلخ، في حين أن معظم ممارساته قريبة جدًا من تلك الدعاوى في صورتها العملية؟
أظن أن سبب الغضب من التنظيرات الفكرية الغربية والعلمانية العربية بشكل واعٍ، في حين التفاعل معها بشكل لا واعي، يتمثل في عدة أسباب أهمها أن الإنسان لا تحركه أفكاره وحدها حتى وإن ادعى ذلك، فالباعث الأهم هو الحال الجواني، والذي كثيرًا لا يلتفت إليه الإنسان ولا يحاول صياغته، فتظل مشاعر هائمة داخله تحركه دون وعي منه.
إن مسلسل سابع جار» يمثل تطبيقًا جوانيًا لفلسفات «نيتشه» و«دريدا» ومتتاليات حتمية لمقولات «نصر حامد أبو زيد» و«علي حرب» وغيرهما. إننا هنا لا نتحدث عن نظريات المؤامرة، فإنسان هذا العصر مُشبع بما يكفي بآثار تلك المقولات التي تُعَدِد من الظنون وتضعها محل الأصول، وتشكك في الأصول وتؤصل للوهم… إلخ. وهذا يجعلني أرى المسلسل عملًا متقنًا حين أدقق النظر على المنطلق الذي اجتهد طاقم العمل في تجليته وإبرازه بشكل غير واعٍ فيما أظن.
يدفع المسلسل جوانيًا المشاهِد لحسم الكثير من القضايا المحيرة له، وأهمها تصوره عن علاقته بربه وعلاقة الحياة من منظور غياب التأله، ويستغل هذا التيه بتصدير صورة متسقة من اللامعنى واللاغاية، وأظنه أنجع في هذا الدفع من غيره من المحاولات العلمانية العربية التي نظّرت كثيرًا، ولكنها سُجنت في مساحات ضيقة من الشد والجذب، فالغالب من المصريين لا يعرفون نصر حامد أبو زيد مثلًا.
إن النمط الساري في بنية المسلسل في درجة حسمه لنزع التأله عن الوجود لا يعبر فعلًا عن حال المجتمع، ولكنه في الوقت نفسه يخاطب حالة غير محسومة في صدور الكثير من أفراده فعلًا، ومن خلال الصورة الواقعية والحوار والأزياء والديكورات غير المُتَكَلفة التي تشبه كثيرًا حال المجتمع – وخاصة الطبقة المتوسطة – قد ينجح بقدر ما في الدفع نحو الحسم الجواني الساري في بنيته لحالة الحيرة والتيه في صدور المتلقين، وقد ينجح في نشر تلك الحالة بسلاسة ويسر، فيما أخفق فيه غيره من المنظرين العلمانيين العرب وفلاسفة الغرب حين طُرحت أفكارهم الصلبة على المجتمع العربي فُرفضت، وهذا مما نسأل الله السلامة منه والتجمل بالإيمان في مواجهة محن الزمان.
في النهاية، إن غياب النبي ووصيته يُسوغ كل شيء، ويجعل من الركاكة وغياب النمط في العلاقات واعتباطية الحوار مكونات معبرة، حتى الحديث وقتها عن جودة العمل في ظل غياب معيارية المعنى الذي عمد المسلسل إلى تكثيفه يصبح بلا قيمة هو الآخر، فمثل تلك الكلمات الصلبة كالقيمة والجودة تذوبان في سريان اجتماعي بلا معنى؛ لأنه لا يصبو إلى تأله الله عز وجل، والله أعلم.