مسلسل «House M.D»: للعبقرية آثار جانبية
دكتور هاوس هو مسلسل أمريكي، بدأ عرضه في 2004، واستمر لـ 8 مواسم حتى عام 2012. حقق خلالها نجاحاً هائلاً، ونجح في الترشح لـ 9 جوائز جولدن جلوب، فاز منها بجائزتي أفضل ممثل لـ «هيو لوري»، وكذلك فاز بـ 5 جوائز إيمي من أصل 26 ترشيح، ويحتل المركز 102 في قائمة أفضل 250 عملاً تليفزيونياً (وثائقي، فني، حواري) في التاريخ على موقع IMDB، بتقييم 8.7 من 10.
هاوس House هو اسم بطل المسلسل، ويأتي من عبارة H.O.U.S.E التي يتم استخدامها كرمز طبي يشير إلى مدمني المخدرات، ويعني تاريخ من التعاطي أو History of Use، مما يعد إسقاطاً على شخصية دكتور هاوس، الذي يقضي المسلسل مُدمناً لعقار Vicodin المُسكن، وذلك للهروب من الألم الجسدي والنفسي.
قصة المسلسل
يدور المسلسل حول الطبيب العبقري «جريجوري هاوس»، ومغامراته الطبية مع أعجب وأغرب الأمراض والحالات. لديه قوة خارقة في تشخيص المرضى. هو الأفضل في مجاله على الإطلاق ولا مثيل له، لذلك هو رئيس وحدة التشخيص أو Diagnostic Medicine في المستشفى، حيث تدور أحداث المسلسل، ويعمل تحته فريق من أطباء شباب يكافحون من أجل اللحاق بقطار فكره السريع، بالأساس ليتعلمون منه خلال فترة العمل تحت إمرته، وكل حلقة عبارة عن سباق جديد لتشخيص حالة بمرض مختلف تماماً، من خلال مجموعة من الأحداث والتقلبات.
المسلسل أكبر من مجرد حلقات منفصلة أو قصة هشة مثل أغلب المسلسلات الطبية، أو المسلسلات البوليسية، حيث هناك جريمة في كل حلقة، يقوم المحققون بحلها. اتهم البعض المسلسل بقليل من الرتابة خلال المواسم الثلاثة الأولى، لقلة الشخصيات وتشابه الأحداث، لكن مع بداية الموسم الرابع، بدأ ضم شخصيات جديدة وأمراض وحالات أكثر إثارة، مما ساهم في امتداد أحداث المسلسل في أكثر من اتجاه حول المخالطين للدكتور هاوس.
عناد دكتور هاوس وسخطه وكرهه للحياة وتحديه للسلطة والمنطق، تجعله في حربٍ دائمة مع الجميع من حوله، حتى في حربٍ مع المرضى. ويعيش في ألم مستمر بسبب إعاقة في رجله، ومن حوله يعانون أيضاً بطريقتهم الخاصة، بشكل مباشر أو غير مباشر، وأولهم صديق هاوس المقرب -والوحيد- ويلسون، مروراً بأعضاء الفريق ومديرة المستشفى، وكذلك المرضى في الحلقات المختلفة أيضاً.
من أين جاءت شخصية هاوس؟
في مكتب د. ويلسون صديق هاوس المقرب، ومفتاح أسراره والباب إلى عالم هاوس المنعزل، حيث تتم أحداث كثيرة من المسلسل، يوجد على الحائط الملصق الإعلاني لثلاثة من أهم الأفلام الكلاسيكية في تاريخ السينما، واثنين منها ضمن قائمة أفضل 250 فيلماً على الإطلاق، صدرا في نفس العام، 1958، Touch of Evil وVertigo، الفيلمان بشكل أو بآخر عن محقق عبقري وناجح في مجاله، ولكنه مُعذَّب في حياته ويعاني من الهوس والعزلة، بجانب فيلم Ordinary People، إنتاج 1980.
هذه الأفلام تمثل بعناية شخصية هاوس، وتعتبر مرجعية لتوضح حالته في العمل والحالة العاطفية والنفسية للطبيب المميز.
الفيلم الثاني Vertigo، أو الدوار (الدوخة الدورانية)، من إخراج السير ألفريد هيتشكوك، وبطولة جيمس ستيوارت، أحد الأوجه المشرقة للسينما الكلاسيكية. تدور القصة حول «سكوتي فيرجسون» محقق شرطة، يضطر للتقاعد مبكراً بعد إصابته المفاجئة بفوبيا الأماكن العالية، ثم يقبل طلباً من صديقه أن يتبع زوجته لحمايتها من الخطر، لكن ينتهي به الحال واقعاً في حبها، حتى تموت، ولكنه يقابل امرأة تشبهها ويحاول تحويلها لمحبوبته الميتة. يعاني فيرجسون من إعاقة أيضاً، وهي الدوار وفقدان السيطرة، والتي تقلب حياته رأساً على عقب، وأيضاً امرأة يعشقها تتركه ويعيش مُعذباً من دونها، مثل هاوس تماماً، ويمثل الفيلم الحالة العاطفية لدكتور هاوس، وبحثه المضني عن المرأة المثالية -التي لا وجود لها- والتي تُشبع حاجاته النفسية، وتستطيع التعامل مع شخصيته المُعذبة، مما يؤدي به في النهاية إلى الانعزال والعيش وحيداً، وفقدان أي فرصة حقيقية في السعادة.
فيلم «لمسة من الشر» أو Touch of Evil من إخراج وتأليف وبطولة الأسطورة «أورسون ويلز»، يناقش باختصار تهريب المخدرات على الحدود المكسيكية الأمريكية، وفساد الشرطة الأمريكية وتعاونها مع المهربين، ما يهم من الفيلم هي شخصية ويلز (هانك كوينلان) محقق شرطة أعرج يتبع حدسه دائماً في حل القضايا، ويتجاهل كل القواعد وحتى يستخدم أساليب غير قانونية في إدانة من يظن أنهم مجرمون، وكذلك دائم الشرب والسُّكر، ومدمن كحوليات وصاحب شخصية مظلمة قوية منفرة، يعيش وحيداً ويخشاه الجميع بالرغم من اعترافهم بكفاءته، ما عدا صديقه ومساعده المخلص، الذي يدافع عنه دائماً ويبرر أفعاله. ورغم تلفيق الأدلة وتحدى السلطة، إلا أن كوينلان دائماً ما يكون على صواب، وينجح في حل قضايا يعجز أي محقق آخر عنها، بالإضافة إلى أنه في عذاب دائم بسبب فقدان زوجته -قُتلت في الماضي- ويعيش وحيداً منذ ذلك. هل يبدو ذلك مألوفاً؟
الفيلم الثالث Ordinary People، أو أناس طبيعيون، وهو فيلم دراما وتراجيدي من إخراج أحد نجوم هوليوود الكبار في التمثيل والإخراج، روبرت ريدفورد، وترشح لـ 6 جوائز أوسكار، فاز منها بأفضل فيلم وأفضل ممثل مساعد وأفضل مخرج وأفضل كتابة، ويحكي الفيلم عن مراهق غارق في الشعور بالذنب، ويعاني من مشاكل نفسية ونزعة انتحارية، بعد مقتل شقيقه الأكبر وأعز أصدقائه في حادثة بالبحر، ويعيش في عذاب وتشتت بين أمه التي تعامله بجفاء لتفضيلها الشقيق الأكبر، والأب صاحب القلب الطيب الذي يحاول جمع شتات العائلة.
يمثل هذا الفيلم حالة الصراع النفسي التي يعيش بها هاوس، وعجزه عن المُضي قدماً بحياته، بينما يحاصره الألم والعذاب دائماً، ويخفي شخصيته ومشاعره الحقيقة بهالة من السخرية والتهكم والانغماس في العمل، بالرغم من أنه في الحقيقة مثل طفل خائف يحتاج المساعدة، لكنه يخشى طلبها، ومع الوقت يبدأ بفقدان الأمل، والاستسلام لتدمير الذات، بينما يحاول صديقه ويلسون صاحب القلب الطيب مساعدته، في ظل الماضي الأليم والمشاكل العائلية، والمرض والعجز الذي يعيش فيهما.
هاوس وشرلوك هولمز
يعد شرلوك هولمز من أشهر وأعقد الشخصيات الخيالية على الإطلاق. محقق فذ يخوض مغامرات عديدة، ويواجه مؤامرات ومجرمين وقتلة، لكنه في نفس الوقت منعزل عن العالم ويحاول الابتعاد عن الناس، والعيش وحيداً للتركيز على عبقريته.
مع مشاهدة هاوس، لا يمكن إلا أن تلاحظ الرابط الواضح بينهما، وعزلتهم عن العالم وتجنب العلاقات العاطفية، والهرب من المجتمع، وظهور شخصيات بأسماء بعض أبطال قصص شرلوك هولمز مثل مورياتي وأدلر في هاوس.
بداية مع تشابه الاسمين في الكتابة House وHolmes، وأنهما من الأسماء غير المعتادة لم يتم استخدامهما من قبل وجود الشخصيتين، حيث أراد صناع المسلسل الخروج بشخصية عبقرية، باسم غريب مستوحاة من شرلوك هولمز.
جيمس ويلسون هو صديق هاوس الوحيد، وأقرب الناس إليه ولا يثق في أحد غيره، وكذلك يتحمل عناء هاوس وتصرفاته المرهقة، كذلك جون واطسون، صديق شرلوك الوحيد أيضاً، والرابط بينه وبين الواقع، ويمثل ضميره وناصحه، تطابق الاسمين واضح تماماً، والدور الذي يقوم به كل منهما.
من الحقائق الشهيرة جداً عن شرلوك هولمز، أنه يعيش في عنوان واحد بجميع الروايات والأفلام والمسلسلات، B-221، كذلك أيضاً عنوان هاوس في المسلسل، بالرغم من أنه لا يعيش هناك طوال الأحداث، إلا أنه منزله الرئيسي.
الصورة المعروفة للمحقق شرلوك هولمز، أنه يرتدي معطف وقبعة ويدخن Pipe، لكن ربما لا ينتبه أغلب الناس إلى أنه مدمن أيضاً، وتوضح سلسلة مغامرات شرلوك هولمز إدمانه على المورفين والكوكايين، واستخدام تلك العقارات لتخفيز وإثارة عقله، كذلك هاوس مدمن لعقار Vicodin المُسكِّن بشكل كبير، للتغلب على الألم الذي يعانيه من إصابته، وقد تعدى الأمر الألم وأصبح يتناوله من أجل حالة الذروة.
بالإضافة إلى ممارسة عملهما، هاوس وشرلوك بارعان في استخدام الأدوات الموسيقية، هاوس يلعب البيانو باقتدار، وشرلوك يلعب الكمان في أوقات فراغه.
عبقرية «هيو لوري»
خلال اختبارات الأداء لاختيار الممثل للدور الرئيسي في المسلسل، وبعد مقابلة عدد كبير من المتقدمين، شاهد المنتجون شريطاً أرسله ممثل مغمور يُدعى «هيو لوري»، قام بتصويره في حمام أحد الفنادق في أفريقيا، حيث كان يصور دوراً صغيراً في فيلم Flight of the Phoenix، حينها قام أحد منتجي المسلسل Bryan Singer -وهو مخرج ومنتج كل من: The Usual Suspects وX-Men وBohemian Rhapsody- صائحاً «هذا هو ما نريد، شخص أمريكي مناسب»، لكنه لم يكن يدرك أن هيو في الحقيقة إنجليزي وليس أمريكياً.
لم يكن أحد يتوقع أن مثل تلك الواقعة الطريفة، سوف تغير التليفزيون الأمريكي للأبد، وتنتج واحداً من أفضل الشخصيات في التاريخ، فقد كان لوري يتقاضى 50 ألف دولار عن كل حلقة في الموسم الأول، وصولاً إلى 400 ألف دولار في الموسم الرابع، حتى وصل في الموسم الثامن والأخير إلى 700 ألف دولار في الحلقة الواحدة.
يكفي أن لوري أيضاً يحمل الرقم القياسي في موسوعة جينيس كأكثر بطل مسلسل تم مشاهدته في التليفزيون على الإطلاق! بعدما حقق المسلسل نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة، بالأساس بفضل هذا الممثل العبقري، حيث أعاد تعريف الشخصية الساخرة والمتسلطة في نفس الوقت، بإقناع شديد وواقعية مؤثرة، وفي نفس الوقت يحسن تصوير الألم بالتعبيرات الوجهية المميزة والتأثر بالشخصية المكتوبة.
ليس من السهل أبداً تمثيل شخصية عنيدة، وعميقة بهذا الشكل، خاصة لممثل إنجليزي يُعيِد اكتشاف نفسه في أمريكا، براعته في إخفاء اللهجة البريطانية وإتقان اللهجة الأمريكية، إلى حدٍ خادع، كما نجح في خداع المنتجين، حيث قال عن ذلك «إن تغيير اللهجة كلعب التنس باليد اليسرى، أو كأن الجميع يحملون مضرب تنس، وأنت تحمل سمك سلمون»، حتى استخدام العصا خلال أحداث المسلسل تُوحى بالعَرَج الحقيقي، حتى وهو يمسكها بالاتجاه المخالف للرجل المريضة، كعلامة لعناد شخصية هاوس وتجاهل القواعد.
لوري بنى سمعة وتاريخاً من دور واحد فقط قام بعمله، نجح في الوصول لأعماق الشخصية درامياً بشكل مثير للاهتمام، رغم أن أعماله التي سبقت المسلسل، كانت أعمالاً كوميدية، وقام بعدها بمجموعة من الأدوار الصغيرة، وأصدر رواية The Gun Seller عام 1996، حتى جاءته الفرصة أخيراً، وأخرج لنا واحدة من الشخصيات الخالدة، التي ستظل مدى الحياة في قلوب المشاهدين وثناء النقاد، مثل «والتر وايت» في Breaking Bad، و«توني سوبرانو» في The Sopranos، و«مايكل سكوفيلد» في Prison Break، و«تريون لانستر» في Game of Thrones، وغيرها من الشخصيات المميزة.