أيلول الأبيض
يعتقد الكثير أن سبتمبر/أيلول هو شهر الانكسارات الفلسطينية؛ لما يحمله من آلام وأحداث مأساوية ألمت بالشعب الفلسطيني وقضيته على مدار سنوات عديدة، فقد تجرع فيها الفلسطينيون من المرارة والمعاناة ما جعل منه شهرًا ثقيلاً مفعمًا بالأحداث التاريخية الفارقة في معاناة ذلك الشعب المكلوم.
وهو الأمر الذي دفع «إضاءات» لتخصيص ملف كامل عن أيلول والقضية الفلسطينية، تم إلقاء الضوء فيه على أبرز فصول ذلك الشهر التي شهدت على صبر وصمود ذلك الشعب المثابر، ولأنه مثابر ولأن روح المقاومة ما زالت تنبض في عروقه، فقد شهد هذا الشهر أيضًا أحداثًا إن دلت على شيء إنما تدل على قوة وصلابة وعدم استسلام هذا الشعب لما يتعرض له من مآسٍ جعلت منه شعبًا حمولاً مقاومًا ومقدامًا.
ثورة أيلول الفلسطينية (1936م)
تعد ثورة 1936م من أضخم الثورات الشعبية التي قام بها الشعب الفلسطيني ضد المستعمر البريطاني واليهودي، ومن أهم أسبابها رفض الفلسطينيين لفكرة إقامة وطن قومي لليهود، وقد استمرت لثلاث سنوات متواصلة ابتداءً من عام 1936م إلى عام 1939م.
ومنذ العام الأول للثورة، شهد أيلول سلسلة من المعارك التي أدت لثبات الثوار لثلاث سنوات متواصلة لم يدخروا خلالهم جهدًا لدحر المحتل، والانتقام منه.
ففي 3 سبتمبر/أيلول 1936م، وقعت معركة بلعا شرق طولكرم، وبعدها، في 19 سبتمبر/أيلول 1936م وقعت معركتان في يوم واحد؛ هما معركة ترشيحا في قضاء عكا، والجاعونة في قضاء صفد. وإزاء هذه النقلة النوعية في أعمال الثورة التي أضرت بهيبة الجيش البريطاني، قررت حكومة لندن إخماد الثورة بالقوة، فأرسلت تعزيزات عسكرية إلى فلسطين بقيادة الجنرال «جون غرير ديل» في 13 سبتمبر/أيلول 1936م.
واعترض الثوار الدفعة الأولى من التعزيزات وهي في طريقها من ميناء حيفا إلى القدس في جبع في 24 سبتمبر/أيلول 1936م، ووقعت معركة استمرت يومًا كاملاً شارك فيها مقاتلون من جميع القرى المجاورة، ولم يستطع الجيش تطويق الثوار، لكن القتال لم يتوقف، وتجمع الثوار في بيت أمرين، وقررت القيادة العسكرية البريطانية محاصرتهم وتمكنت من إحكام الطوق عليهم في 29 سبتمبر/أيلول 1936م، غير أن النجدات التي وصلت من القرى أنقذت الموقف وفرضت على الجيش الانسحاب في اتجاه نابلس.
وقد بلغت الثورة ذروتها في سبتمبر/أيلول من عام 1938م، حين تمكن الثوار الفلسطينيون من تحرير البلدة القديمة في القدس من سيطرة البريطانيين، واستمرت البلدة محررة لأكثر من أسبوع.
فبعد نجاح الثورة في الريف وتوسعها وسيطرتها على المناطق الجبلية، نشطت عمليات الثوار داخل المدن وراحت تشن حملاتها على المراكز والمعسكرات في داخلها مدعومة بتنسيق بين داخل وخارج المدن. وبدأت أولى المعارك حينما سيطر الثوار على الخليل في فبراير/شباط 1938م، وبئر السبع في 9 سبتمبر/أيلول 1938م، والقدس القديمة في 20 سبتمبر/أيلول 1938م.
وقد نجح الثوار في بسط نفوذهم في المناطق الجبلية وبلغ من قوة الثورة أنها منعت أبناء القرى الذهاب للمحاكم، وشكّلت بدلاً منها محاكم شعبية ونجحت في حل الخصومات بين الناس، كما أنها أمرت بوقف المطالبة بسداد الديون، ومنع الملتزمين من التعهد للحكومة بشق الطرقات العامة، أو بناء مراكز البوليس، وأمر الثوار بعدم الاستجابة لطلب الحكومة من الأفراد بالحصول على الهويات الخاصة، وأنذرت أبناء المدن بلبس الكوفية والعقال بدلاً من الطربوش حتى يختفي الثوار ولا يسهل القبض عليهم، وقد تغلغلت الروح الوطنية والقومية لدرجة أن قائد الجيش الجنرال «هايننغ» الذي حل محل الجنرال «ويفل» قال في 9 أبريل/نيسان 1938م، «إن روحًا ثورية عميقة الجذور اكتسحت العرب وحفزتهم إليها الدعوة إلى حرب مقدسة».
ومن القدس انطلقت المرحلة الثانية من الثورة عبر سلسلة كبيرة من الهجمات التي نفذها الثوار ضد دوريات الجيش والشرطة البريطانية، فبلغت فعاليات الثورة في القدس ذروتها في سبتمبر/أيلول 1938م، وذلك حين تمكن الثوار الفلسطينيون من تحرير البلدة القديمة في القدس من سيطرة قوات الاحتلال البريطاني.
واستمرت البلدة محررة رغم قيام الطائرات البريطانية بإلقاء منشورات على القدس وضواحيها، مُوقعَة من القائد العسكري البريطاني لمنطقة القدس، ويدعو فيها جميع السكان في البلدة القديمة إلى إلقاء السلاح والتزام منازلهم ضد الثوار. هجمات عديدة لقوات الاحتلال البريطاني التي حاصرت البلدة، وأحكمت الطوق عليها، ولكن البريطانيين الذين اقتحموا البلدة بعد ذلك اضطروا إلى الخروج منها مجددًا لثلاثة أيام، قبل أن يقوموا بشن هجوم كبير عليها ومعاودة احتلالها.
انضمام فلسطين لجامعة الدول العربية
في سبتمبر/أيلول لهذا العام 2016م، تمر الذكرى الـ 40 لانضمام فلسطين لجامعة الدول العربية، فبناءً على اقتراح مصر بقبول منظمة التحرير الفلسطينية عضوًا كامل العضوية في جامعة الدول العربية، أصدر مجلس الجامعة الذي انعقد بالقاهرة على شكل مؤتمر لوزراء خارجية العرب في 9 سبتمبر/أيلول 1976م، قرارًا بانضمام فلسطين للجامعة، وبذلك أصبحت فلسطين عضوًا كاملًا، لها ما لكل الأعضاء من حقوق وعليها ما عليهم من واجبات.
قبل ذلك التاريخ شهد حصول فلسطين على عضوية الانضمام لجامعة الدول العربية عقبات ومراحل كثيرة، وقد بدأت هذه العقبات مع المادة الأولى من ميثاق الجامعة والتي تنص على أن «تتألف جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة الموقعة على هذا الميثاق».
أما بالنسبة لانضمام فلسطين فتم لها إقرار ملحق خاص، ورد فيه بأنه «نظرًا لظروف فلسطين الخاصة وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلاً، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله».
وبعد نكبة 1948م واحتلال إسرائيل لجزء كبير من الأراضي الفلسطينية، لم يتغير وضع فلسطين داخل المجلس، وثار خلاف قانوني حول عضويتها، إلى أن أصدر مجلس الجامعة قرارًا عام 1952م اعتبر المندوب الفلسطيني مندوبًا عن فلسطين، وليس مندوبًا عن عرب فلسطين كما كان الحال من قبل.
واستمر هذا الأمر حتى عام 1964م حينما اعترف مؤتمر القمة العربي الأول الذي عقد بالقاهرة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي أُنشئت عام 1963م ممثلاً شرعيًا للشعب الفلسطيني، واعتبر المجلس رئيس المنظمة ممثلاً لفلسطين لدى الجامعة.
وفي مؤتمر الدار البيضاء الذي انعقد بعد حرب 1973م، اعترف الملوك والرؤساء العرب المجتمعون في المغرب بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، ليس فقط في الجامعة العربية، وإنما في الأمم المتحدة وعلى الصعيد الدولي. وبناءً على اقتراح مصري، وفي عام 1976م تم قبول المنظمة الفلسطينية عضوًا كامل العضوية، ولها ممثل في مجلس الجامعة، من حقه أن يصوت في كل القضايا التي يناقشها المجلس.
انتفاضة الأقصى 2000
في 28 سبتمبر/أيلول 2000م، اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية عقب اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «أرئيل شارون» المسجد الأقصى ومعه قوات من جيش الاحتلال.
تجول شارون آنذاك في ساحات الأقصى، وقال إن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية؛ مما أثار احتقان وغضب الفلسطينيين، فاندلعت المواجهات بين المصلين والجنود الإسرائيليين، واستشهد سبعة مقاومين وجُرح 250 آخرون، كما أُصيب 13 جنديًا إسرائيليًا.
ويعتبر الطفل الفلسطيني «محمد الدرة»، رمزًا للانتفاضة الثانية، فبعد يومين من اقتحام المسجد الأقصى، أظهر شريط فيديو التقطه مراسل قناة تلفزيونية فرنسية، في 30 سبتمبر/أيلول 2000م، مشاهد إعدام حية للطفل محمد الدرة (11 عام)، الذي كان يحتمي إلى جوار أبيه ببرميل إسمنتي، في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة.
فاندفعت الانتفاضة الثانية، وتميزت بكثرة المواجهات وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال. وشهدت تطورًا في أدوات المقاومة الفلسطينية مقارنة بالانتفاضة الأولى التي كان أبرز أدواتها الحجارة والزجاجات الحارقة.
عملت فصائل المقاومة خلال الانتفاضة الثانية على توسعة أجنحتها العسكرية، وقامت كتائب «عز الدين القسام» بتطوير أسلحتها في الانتفاضة الثانية، وتمكنت من تصنيع صواريخ لضرب المستوطنات الإسرائيلية. وقام بعض المقاومين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باغتيال وزير السياحة بالحكومة الإسرائيلية «رحبعام زئيفي»، وكانت تلك العملية من أبرز أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وتعرضت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة -خلال الانتفاضة- لاجتياحات عسكرية وتدمير آلاف المنازل والبيوت، وكذا تجريف آلاف الدونمات الزراعية.
عمل شارون على اغتيال أكبر عدد من قيادات الصف الأول بالأحزاب السياسية والعسكرية الفلسطينية؛ في محاولة لإخماد الانتفاضة وإضعاف فصائل المقاومة وإرباكها، وفي مقدمتهم مؤسس حركة حماس، الشيخ «أحمد ياسين». إلى أن تراجعت انتفاضة الأقصى في فبراير/شباط من عام 2005م بعد أن أظهر أبناء الشعب الفلسطيني بسالة وصمود، استمر لخمس سنوات متواصلة دون كلل أو ملل.
وطبقاً للأرقام الرسمية، فقد أسفرت الانتفاضة الثانية عن استشهاد 4.412 فلسطينيًا، وإصابة 48.322 آخرين، بينما قُتل 1.069 إسرائيليًا، وجُرح 4.500 آخرون.
وبعد، فعلى الرغم من المحن التي مرت على الفلسطينيين في هذا الشهر والتي تم تفصيلها في ملف كامل، إلا أن الأحداث التي تناولها في هذا التقرير تنم عن أن جذوة المقاومة الفلسطينية كانت وما زالت مشتعلة، وأن ذلك الشعب الباسل ما زال حيًا يتنفس بروح المقاومة، وأن أيلول ما زال أبيض.
- نور إسماعيل، «الذكرى الـ 38 لانضمام فلسطين للجامعة العربية: ميثاق الجامعة يشترط حصول الدولة على الاستقلال»، موقع بوابة فيتو، 9 سبتمبر 2014.
- محمد عبد العاطي، "جامعة الدول العربية: المبادئ والأهداف"، موقع الجزيرة نت، 3 أكتوبر 2004.
- انتفاضة الأقصى: 15 عامًا من الصمود، موقع الجزيرة نت، 28 سبتمبر 2015.
- «انتفاضة الأقصى»، موقع وكالة قدس برس للأنباء، 28 سبتمبر 2015.