«سيبوكو»: فلسفة الانتحار اليابانية
كتب «يوكيو ميشيما» (1925-1970)، الأديب الياباني القدير، هذه الفقرة، في قصته القصيرة «وطنية»، المنشورة عام 1961. بعد خمس سنوات تقريبًا، سيحولها إلى فيلم قصير بالاسم نفسه، يخرجه ويلعب بطولته. لكن بعد خمس سنوات أخرى، سيؤدي ميشيما المشهد واقعيًا، بعد فشله في قيادة انقلاب عسكري يستعيد سلطات إمبراطور اليابان. وذلك جزء من طقس الـ«سيبوكو» (يسمى أحيانًا «هاراكيري»، والمصطلحان يعنيان «بقر البطن»)، بالصورة المنصوص عليها في الـ«بوشيدو»، وهو ميثاق شرف محاربي الساموراي.
في الواقع، يحتل الانتحار في اليابان مكانة متميزة، مقارنة بسائر الأمم، سواء من المنظور الديني والثقافي والاجتماعي، نتيجة تراث تاريخي معقد وفريد، ما تزال آثاره مستمرة إلى اليوم. ويعد السيبوكو أبرز تجسيد لهذه الخصوصية الثقافية. لذا، نبدأ بموجز لتاريخ الطقس الانتحاري، وصورته وأنواعه، قبل إبراز خصوصية فلسفة الانتحار اليابانية مقارنة بالنظرة الغربية.
إطلالة تاريخية
مر السيبوكو بأطوار عدة، قبل الاستقرار على عدد من الصور النموذجية، تختلف باختلاف المناسبة. في البدء،نقلت أخبار هذه الممارسة على استحياء في الفترة ما بين القرن السابع والقرن الثاني عشر الميلادي، التي شهدت عددًا محدودًا منها، متناثرة جغرافيًا وتاريخيًا، غير موحدة الهيئة ولا الهدف، ولا محصورة في فئة محددة.
مثل حادثة تنسب إلى «ياسوسوكي فوجيوارا»، سليل العائلة الأرستقراطية العريقة، الذي مارس السرقة حتى افتضح أمره بين الناس. فلما حاصرت الشرطة منزله، ولم يعد من السقوط بد، دخل غرفته الخاصة، وتناول سيفًا صغيرًا قطع به أحشاءه، في عام 989. لكن مع انهيار الحكم الأرستقراطي التقليدي في القرن الثاني عشر، وشيوع الفوضى والجرائم وضعف الحضور العسكري المنظم، ظهرت الساموراي كطبقة أرستقراطية عسكرية، وجماعة وظيفية، تعنى بالأمن والإدارة المحلية.
كان قوام هذه الطبقة مجموعة من العائلات التي حملت السلاح، لحفظ الأمن وإنفاذ العدل. بعدها، كثرت حوادث السيبوكو بين طبقة الساموراي، لأسباب متعددة أبرزها الهزيمة، إذ لجأ إليها المحارب كبديل مشرف عن الأسر وخزيه. بلغت حوادث السيبوكو ذروتها في مواجهة الغزو المغولي في القرن التالي.
خلال هذه الفترة، وقعت إحدى حوادث السيبوكو العسكرية المبكرة، حين اشترك «ميناموتو تاميتومو» – محارب الساموراي- في «تمرد هوجين» قصير الأمد عام 1159، لينفى بعدها إلى جزيرة بعيدة. لكن المحكمة الإمبراطورية لاحقًا، أرسلت 300 محارب لأسره. فلما استحكمت حلقاتها، رغم بسالته في المقاومة، تقهقر المحارب إلى غرفته، حيث نزع أحشاءه وألقاها في وجوه الأعداء، عام 1170.
مع مجيء حقبة «إيدو باكوفو» من التاريخ الياباني القديم، الممتدة من القرن السابع عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، جرت بلورة البوشيدو، ميثاق شرف محاربي الساموراي. خلالها، اكتسب السيبوكو وظيفة جديدة بدمجه في المنظومة القضائية، يمنح به الساموراي المذنب فرصة للهرب من عار الإعدام على يد الأغيار. لكن مع انتشاره المستمر بين محاربي الساموراي الذين يفقدون سيدهم، بوفاة طبيعية أو اغتيال، بهدف إثبات ولائهم المطلق، كره الحكام خسارة المحاربين المتمرسين، فأصدروا أحكامًا بتجريم هذا النوع، لكن دون أثر يذكر.
في النهاية، حذف السيبوكو عام 1874، من قائمة العقوبات القانونية، مثلما ألغيت طبقة الساموراي، وحظر حمل السيوف، خلال حقبة «ميجي» الإصلاحية (1868-1912) – نسبة إلى الإمبراطور ميجي العظيم – ذات التوجه القيمي الغربي. لكن عقب وفاة الإمبراطور، لجأ إلى السيبوكو «نوجي ماريسوكي» (1849-1912)، القائد العسكري والبطل الشعبي، مع زوجته، للحاق بسيدهما المعظم، في مفارقة قوية الدلالة.
الطقس وأنواعه
في البداية، يحكم المحارب قبضته على منتصف نصل سيف قصير، وبينهما قماشة تقي يده الأذى، خشية الارتخاء. يغرز المحارب سلاحه في الجانب الأيسر من أسفل البطن، ويقود الشفرة في طريقها حتى الجانب الأيمن، ثم إلى الأعلى. بعدها يمد الساموراي رقبته، ليتولى الـ«كايشاكونين» – المساعد الحاضر لهذه المهمة – جز عنقه إلى المنتصف. وبالذبح يقع الموت السريع، وإلا استمر النزيف والألم فترة طويلة قبل الوفاة، وليس العذاب في ذاته هدفًا من الطقس على الإطلاق.
هذه صورة السيبوكو الأشهر على الإطلاق: «جيكيتسو»، وهو طقس تطوعي عند الهزيمة العسكرية. أما سائر الأنواع، فتختلف صورها في وضعية المحارب، وعدد الشقوق التي يحدثها في البطن، واتجاهاتها. فيما يلي قائمة بهذه الصور، مقسمة إلى فئتين، ما يقع تطوعًا من الفرد، وما يقع عقوبة إلزامية.
السيبوكو تطوعًا – «جيجن»
1. «جيكيتسو»: عند الهزيمة الحربية.
2. «إنسيكي»: تحملاً للمسؤلية عن تبعات خطأ ما.
3. التضحية: حقنًا لدماء الجماعة.
4. «كانشي»: اعتراضًا على سوء تصرف السيد.
5. «ميمبوكو»: تأكيدًا على البراءة.
6. «جونشي»: لحاقًا بالسيد المتوفى.
السيبوكو عقوبة – «تسوميبارا»
1. «مونينبارا»: عقابًا على الفشل في مهمة.
2. «فونبارا»: تحملاً للمسؤولية عن أخطاء الغير.
3. «كيشي»: عقابًا قانونيًا على جناية.
فلسفة الانتحار في اليابان
العوامل الثقافية
يكشف استعراض التاريخ الياباني عن دور كبير للمنظومة الدينية والقيمية في تهيئة الفكر الياباني لقبول وتبني هذا الطقس الانتحاري. حتى إن وقائع السيبوكو الأولى لم تظهر إلا في القرن السابع، بعد عقود قليلة من دخول البوذية إلى اليابان. لتنتهي سيطرة الأساطير المبكرة، الخاصة بديانة الشينتو اليابانية القديمة، التي ترسم للحياة الأخرى صورة مظلمة مدنسة. خاصة في «يومي»، أرض الأموات الموحشة الجحيمية.
أما البوذية التي تحمل في جوهرها رؤية سلبية وزاهدة – بألطف تعبير – تجاه الحياة كلها، فالحياة عندها معاناة محضة ووهم عظيم، مصدرها التعلق بالأشياء، كما أن المعاناة كامنة في كل شيء، سواء اللذة والعذاب. وبالفعل، نجد أن حقبة «كاماكورا» اليابانية (1185–1333)، حيث جرت محاولات مبكرة لإنتاج ميثاق شرف الساموراي، قد شهدت انتشارًا وسيطرة ملحوظة لفلسفة الزن البوذية، ذات النظرة الساخرة من سؤال الحياة والموت، الداعية إلى التسامي فوقه، والتي لا تعد بحياة بعد الموت.
علاوة على التعاليم الكنفشيوسية المنتشرة، التي تضع واجبات الفرد تجاه الجماعة وانتمائه إليها في مكانة مرتفعة، لا تدنو منها أي منفعة أو احتياج فردي، كما تحض بقوة على «فضيلة» التضحية بالنفس. كان لذلك كله دور كبير في إكساب الموت مكانته المركزية الملحوظة في ميثاق شرف محاربي الساموراي وأدبياته، والثقافة اليابانية بشكل عام.
لماذا الانتحار؟
يشكل الانتحار في اليابان الحديثة مشكلة حقيقية، لذا تواصل الحكومات المتعاقبة استحداث تشريعات من شأنها تحجيم الظاهرة، بعد أن بلغ معدل انتحار اليابانيين قبل عقود قليلة مرحلة خطيرة. إذ لم يقتصر الأمر على السياق الحربي، بما يستثيره من أعمال بطولية ونزعات فدائية. ففي هذا المجال، لا ينكر أحد تميز الروح القتالية اليابانية.
ظهر ذلك بوضوح خلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، حينما اختار كثير من الجنود وبعض المدنيين طقس السيبوكو بديلاً عن الوقوع في الأسر. وكذلك فعل طيارو الكاميزاكي، الذين فجروا طائراتهم في سفن الحلفاء، مدفوعين بالهزائم القاسية التي تكبدتها اليابان مؤخرًا.
لكن خارج هذا السياق، تشهد اليابان الحديثة عامة أنواعًا كثيرة من الانتحار، منها الجديدة، مثل انتحار الأسر المفلسة، والانتحار بالاستغراق في العمل، وانتحار العجائز. ومنها تنويعات على أنواع القديمة، مثل انتحار المسؤولين الحكوميين والمدراء الذين ارتكبوا أخطاء إدارية فادحة أو خطايا شخصية فاضحة. ومنها العتيق، مثل انتحار العشاق الذين يستحيل اجتماعهم في حياة مستقرة.
إن خصوصية الحالة اليابانية تجعل من عدسة الطب النفسي الغربي أداة قاصرة عن القراءة الدقيقة للظاهرة. ينظر الطب النفسي الغربي إلى الانتحار على أنه نوع من خيانة الثقة، والفرار من المسؤولية، وعصيان المطلق أحيانًا. بينما يمثل الانتحار هناك أعلى درجات تحمل المسؤولية.
إنه فعل مستحق للتقدير، حتى أن المرء يغسل به ما ألحقه بنفسه وبأهله – وهو الأهم – من عار وخزي، أو يثبت براءته، أو يفدي جماعته. مثل حادثة انتحار ميشيما، فرغم سخرية الجنود من محاولته لإشعال عصيان عسكري، لا شك أنهم قد شاركوا أكثر اليابانيين في رثائه والتعاطف معه بعد ميتته البطولية. الانتحار خطاب من الأفراد اليابانيين إلى جماعاتهم، كل برسالة مختلفة.
فإذا بقر الياباني المظلوم بطنه – مكمن الروح وفق النظرة التراثية – كان قصده تحرير روحه وإطلاق سراحها، يكشفها نقية وطاهرة أمام الآخرين. وإذا فعلها الياباني المهزوم، كان يقي بذلك نفسه من خزي الأسر ويقي قومه من عبء الفدية.
تستبطن الإدانة الغربية للانتحار إعلاء لقيمة الفرد على الجماعة، بينما الوضع في اليابان على النقيض تمامًا. هناك، يعمل الفرد من أجل كيان يفوق وجوده ورغباته أهمية، يمنح للحياة قيمتها وللوجود أهمية. لذا يمكن القول إن الانتحار فعل اجتماعي محض. يظهر ذلك في إيكال بعض المراسم الانتحارية في السيبوكو إلى الغير، مثل المساعد الذي يجز الرقبة. ويتضح تمامًا في صور الانتحار الجماعي، التي تألفها الثقافة اليابانية التقليدية.
هناك، تلجأ الأسر المفلسة في كثير من الأحيان إلى الانتحار الجماعي عوضًا عن عار العيش في مستوى اقتصادي أقل. كما يستخدم المراهقون في اليابان شبكة الإنترنت، للتواصل مع غيرهم، ممن قد لا يربط بينهم سوى الرغبة في الموت، من أجل الانتحار الجماعي. إلى جانب ذلك، تتشابه دوافع انتحار كبار السن مع محارب ساموراي قد أحكم عليه العدو الخناق. فعندما لا يصبح من الموت بد، يلوذ الساموراي بالسيبوكو، تحديًا للموت.
إن في ذلك نوع من خلق الاختيار في مواجهة الحتمي، وتأكيد الإرادة في مواجهة القهري. هناك، ساعتها، يحكم المحارب قبضته على زمام حياته، ويستعيد سلطته على مسارها ونهايتها. لكن أليس هذا وضع اليابانيين العجائز، الذين يواجهون السرطان والأمراض العضال، بلا أمل في الشفاء؟ لا فرق بين بريق سيوف العدو في اقترابها المعجز، وبريق الإبر التي تطعن عروقًا اسود لونها في معركة لا يرجى لها سوى الموت نهاية.
في النهاية، رغم ما يحققه الغزو الناعم للقيم الغربية، وجهود الحكومة التوعوية في الثقافة وعلم النفس، ستظل فلسفة الانتحار اليابانية مؤثرة في المجتمع. فبعد أن كان أثرها في السابق يتبدى بوضوح في لحظات البطولة والتضحية والملاحم الحربية، سيتبدى اليوم في لحظات الضعف الإنساني، والإنهاك، واليأس، والمرض النفسي، كخيار فردي رومانسي، يشي بحنين عظيم إلى الماضي، وتفرد ثقافي حقيقي، مع التأكيد على ضرورة تغيير النظرة الشعبية إلى الأمراض النفسية، التي ما تزال علامة عند الكثيرين – رغم ما بلغته اليابان من تقدم تقني – على ضعف الروح وفسادها. حتى أن كثيرًا ممن يفشلون في محاولة الانتحار، لا يتلقون دعمًا كافيًا من الأهل، لأن هذا الفشل غالبًا ما يزيد المكانة الاجتماعية سوءًا، على السوء الذي كان يهدف الانتحار بالأساس إلى إزالته.
- Mili T. The Origins of Japanese Harakiri. Journal of Social Sciences & Humanities Research. 2016 Jul 12 [last modified: 2016 Jul 16]. Edition 1.
- Fusé, T. Soc Psychiatry (1980) 15: 57. https://doi.org/10.1007/BF00578069