الفصل بين الدعوي والسياسي (1/ 4): توطئة تاريخية
بات موضوع «فصل الدعوي عن السياسي» حديث ساعة في أوساط الحركات الإسلامية وأنصارها ودارسيها والمهتمّين بها عموما، فمنذ أعلن الزعيم التاريخي لحركة النهضة التونسية راشد الغنوشي عن اعتزام حركته التحوّل لحزب سياسيّ، وبالتالي التطبيق العمليّ للفصل بين الدعويّ والسياسي واختيار السياسيّ وترك الدعويّ لأجسام أخرى في المجتمع، توالت التعليقات والتحليلات، وكان لافتا تصريح القيادي الإخواني جمال حشمت أن الإخوان في مصر يدرسون خيارا من هذا القبيل، ومن المتوقّع أن يحظى هذا الموضوع بنقاش متزايد، سيشمل –كعادة النقاشات في أوساط الإسلاميين- استعادة جدالات قديمة لم تُحسَم حول العلمانية والإسلام والدين والدولة والوطن والأمة، ونأملُ أن يُضاف إلى ذلك نقاشات مستجدّة أكثر نضجا تتجاوب مع حجم تضحيات الإسلاميين التاريخية، وكذلك مع حجم مأزقهم الراهن.
وإذا كان فصل الدعوي عن السياسيّ مما لا يُتوقَّع نقاشُه بجدية خارج الإخوان المسلمين والجماعات والأحزاب التي انبثقت عنهم، فهو في الحقيقة ليس جديدا على الحركة الإسلاميّة الحديثة ومكوّنِها الأهمّ جماعة الإخوان المسلمين، بل قد شهد جدلا واسعا ترتّبت عليه نتائج عملية في بعض البلدان. بعض هذه النتائج كان بتخطيط الإخوان، وبعضُه كان خارجا عن إرادتهم، إلا أنّ هذا الجدل وُجِد بالفعل وترتّبت عليه أحداث مفصليّة في تاريخ الحركة الإسلامية بعموم.
فعلى سبيل المثال، تندرج خطوة تأسيس حزب «جبهة العمل الإسلامي» في الأردن في هذا السياق، ومع أنّ الحزب نشأ بقرار إخوانيّ، إلا أنّ إنشاءه لم يخلُ من نقاشات بالغة الحدة داخل الإخوان، أما الحزب الإسلامي في العراق فكان تجربة أشدّ وعورة، إذ انضاف إلى السؤال المزمن، حول ما يستبطنُه الفصل بين الدعوي السياسي من فصل بين الدين والدولة، سؤالٌ أخرُ شديدُ الوطأة على الإسلاميّين، وهو صوابية الانخراط في عمل سياسيّ في ظلّ الاحتلال الأمريكي. وفي اليمن، كان التجمع اليمني للإصلاح حصيلة توازنات قبليّة وسياسية شديدة التأثر بخصوصيّة وضع اليمن. ومن التجارب اللافتة بالفعل في هذا السياق، تأسيس «حزب الخلاص الوطنيّ الإسلاميّ» في فلسطين، بدعم من حركة حماس وبتصدّر من بعض رجالاتها، إبان تأسيس السلطة الفلسطينية بُعيد اتفاق أوسلو، وهذه تجربة لافتة بوجه خاص، فحماس هي بدورها امتداد مستقلّ للإخوان المسلمين، وذات ظروف شديدة الخصوصيّة من قبيل كونها جماعة مسلّحة وعملها في ظل وجود الاحتلال، ولكنّها مع ذلك شعرت في مرحلة ما بضرورة معيّنة لجسم من هذا النوع.
أمّا في مصر، حيث تأسّست جماعة الإخوان، فقد شهدت محاولةَ «انفصال» للسياسي عن الدعوي، متمثّلة في «حزب الوسط الإسلاميّ» الذي قادته وجوه إسلاميّة قريبة من الإخوان فكريا أو تنظيميا، وخصوصا من موجة الحركة الطلابيّة التي انضمت للإخوان في السبعينات عقب فتح السادات الجزئيّ والتكتيكي للمجال السياسيّ أمام الإسلاميّين. ومع أنّ حزب الوسط أصر باستمرار أنّ إنشاءه ليس قرار إخوانيا، وأنّ أعضاءه مختلفون بشدة مع نهج الإخوان، إلا أن الدولة البوليسية ظلّت تعتبرهم خطة إخوانية بديلة، وعلى كل حال، فالحزب مظهرٌ من مظاهر العلاقة القلقة بين السياسيّ والدعويّ في الحركة الإسلامية المصرية، سواء أدّى هذا القلق إلى فصل إراديّ بين الدعوي والسياسي، أو انفصال ذي طبيعة انشقاقية من قِبَل من يرون أنفسهم منخرطين في مجال أكثر من الآخر، ويعتقدون أن الجمع بينهما ضارّ ومُعطِّل.
هل كانت الرغبة بـ «الفصل» تأتي دائما من ناحية «السياسي»؟
حين تُناقَش مسألة الفصل، يتبادر إلى الأذهان دائما أن هذه الدعوة إلى الفصل، أو الشعور بضرورة الفصل، يأتيان دائما من جهة «السياسيّ»، أي أن الحركة الإسلاميّة ذات طابع دعوي، وهذا يعيقُها عن التعامل مع السياسة والشأن السياسيّ بالأدوات المناسبة والخطاب الملائم والاستراتيجيات الناجعة، بل كثيرا ما تتمّ مقاربة هذا الموضوع باعتباره «ابتزازا علمانيا» أو «رضوخا لمطالب الدولة الحديثة» أو «وقوعا في شرك السياسة». لكن، لفهم هذه القضية المزمنة في أوساط الإسلاميين وإدراك التوازنات القلقة التي تحكمُها، علينا أن نتنبّه إلى أن الضغط كثيرا ما كان يأتي من الناحية المقابلة، أي من ناحية «الدعويّ»، بل يجادل كاتب هذا المقال في أنّ هذا الضغط كان أكبر حجما وأبلغ أثرا في مسيرة الحركة الإسلامية وخياراتها الفكرية والتاريخية.
ولأنّ مولد الحركة الإسلاميّة الحديثة يُؤرَّخُ له بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، فمن المهمّ التذكير بفكرتين مركزيّتين حكمتا جماعة الإخوان منذ نشأتِها: النهوض بدور الإطار المعنويّ الذي يشكّل مظلّة جامعة تعوّض انهيار رابطة الخلافة، وتمثيل شمولية الإسلام وعمومه لسائر مظاهر الحياة، حتى المتقابلة منها، فهو دين ودولة، عقيدة وحقيقة، أصالة ومعاصرة، التزام واجتهاد. هذا ضَمِن للدعويين، أو العلماء والمشايخ وطلبة العلم الشرعي والوعاظ، مكانا دائما ومتميِّزا داخل نسيج الإخوان، سواء في المناصب القيادية العليا و مجالس الشورى، أو في تشكيل الرأي العام الإخوانيّ بما لهم من حضور دعويّ واجتماعي وبلاغة خطابيّة، يُضاف إلى ذلك أن المواقف الصلبة المنسجمة مع نفسها، والتي تأخذ جانب الصمود والثبات على المبادئ وعدم الاستسلام للتغيرات والتقلبات، تحظى بميل نفسي لدى الإسلاميين بوجه عام.
وتبعا لذلك، كثيرا ما كانت الجماعة تُتَّهم بأنها تنحرف نحو السياسية وضروراتها ومتطلباتها، وأنّها تفقد نقاءها ومبادئها، وأنّها تُفرّط في تربية الأفراد روحيا لصالح تثقيفهم سياسيا، وأنّها لا تبذل الجهد الكافي لتزويد شبابها بالعلم الشرعيّ، وأنها مفرِّطة في تعليم العقيدة، وتختلف هذه المَلامات للجماعة كمّا ونوعا حسب ظروف الجماعة في كلّ بلد، ويختلف «العلم الشرعي» أو «العقيدة» أو «التربية» المطلوبُ الاهتمام بها حسب اختلاف خلفيات المنتمين للجماعة والتكوين الفكري لـ «الدعويين» فيها، فالاتجاه المراد الاهتمام به صوفيّ أحيانا، وسلفيّ أحيانا، وأشعري متمذهب أحيانا.
ليس لدينا إحصاء بحجم وتأثير الانفصالات والانشقاقات والانسحابات، الناعم منها والصاخب، من جماعة الإخوان في اتجاه السياسي أو الدعويّ، لكنّنا نعتقد أنّ هذه الانفصالات في اتجاه الدعويّ، والمدفوعة بسخط على انخراط الجماعة المبالغ فيه في السياسيّ، لا تقلّ أهمية -إن لم تزد أهمية- عن الانفصالات في الاتجاه الآخر، أي في اتجاه السياسيّ بدافع السخط على عجز الجماعة عن مواكبة التغيرات السياسية والتعامل مع السياسة بما تقتضيه من أدوات ومقاربات مختلفة.
مآلات الفصل تاريخيا
كتقييم عام، لم تنجح حالات الفصل أو الانفصال التي شهدتها الحركة الإسلامية وأشرنا إليها سابقا في تحقيق أهدافها، وتراوحت بين أن تكون فصلا شكليا خاويا من المضمون الفعلي، بأن يظلّ الجسم الجديد تابعا للجماعة الأمّ ولا يخوض تجربة حقيقية، أو ألا يحظى بدعم كاف من الجماعة الأم ومنظريها، أو أن يكون عبارة عن محاولة بنصف عقل ونصف قلب دون اعتراف حقيقي بأهمّية «السياسي».
والدلائل على فشل محاولات الفصل أو الانفصال السابقة كثيرة، منها أن الجدل ما يزال يتجدّد حول الموضوع، بل حتى ليكاد يبدو جديدا وغير مألوف هذه المرة في أوساط بعض الإسلاميين، فلو كانت التجارب السابقة حقيقية لما بدا الموضوع وكأنه يُطرَحُ ويناقَش لأول مرة. ومن دلائل الفشل أن عباءة «الإسلام السياسي» ظلّت تنتج أجساما تحاول الاضطلاع بمهمة «السياسي» حتى في بلدان كان ينبغي لجسم سابق فيها أن يضطلع بهذا الدور، ففي الأردن، ظهرت مبادرة «زمزم» لتعلن أن حزب جبهة العمل الإسلامي لم يقم بالمهمة، وفي العراق خرج كثير من الإخوان من عباءة الحزب الإسلامي وتحالفوا سياسيا مع إياد علاوي، الشيعي العلماني، وفي مصر استقلّ عبد المنعم أبو الفتوح بحزب «مصر القويّة» رغم وجود حزب الوسط. أما في فلسطين، فقد شهدت التجربة مآلا عكسيّا، إذ أُعيدَ حزب الخلاص الوطنيّ الإسلاميّ إلى الحركة الأمّ حماس، حيث جمّدَ الحزب نفسَه وأغلق مقرّاته وعاد معظم المنتمين له إلى صفتهم التنظيميّة الأصلية أعضاءً وأنصارا في حركة حماس، وهي خطوة لم تخلُ بدورها من جدل ومعارضات.
كخلاصة تاريخيّة، رغم أنّ الحركة الإسلاميّة الحديثة توصَف باستمرار بـ «الإسلام السياسيّ»، إلا أنّ الجانب السياسيّ في نشاطِها ظلّ الأكثر قلقا والتباسا، سواءٌ في تعريفها لنفسها أو في تعامل الآخرين معَها، وألقى ذلك بظلاله على تطوّرِها التاريخي وتفاعلاتها الداخليّة والخارجيّة، ولذلك أبعادٌ فكريّة وتاريخيّة شديدة التداخل والتركيب، وهو ما سنحاول أن نعالجه في المقالات التالية من هذه السلسلة.