أشباه الجسيمات: إلى أي حد يمكن أن تصل غرابة عالم الكم؟
لنبدأ من شيء نعرفه جميعًا، إنها الفقاقيع التي تملأ كوب الماء حينما تلقي به شيء ما، هنا يمكن أن نسأل: ما هي الفقاعة؟ الإجابة عن هذا السؤال محيرة، لأنه لا يوجد شيء واضح محدد داخل كوب الماء نسميه فقاعة، بل هي حالة تنشأ بسبب طبيعة كل من الماء والهواء التي تحتم عليهما ألا يمتزجا، فإذا قررت بعض قطع الهواء، لسبب ما، أن تدخل إلى الماء فستصنع فقاعة.
الفقاعة إذن ليست شيئًا محددًا، ليست مثل الكوب أو عصير المانجو أو الجسيمات دون الذرية، لكنها فراغ داخل الماء. على الرغم من ذلك، يجب أن نتعامل مع الفقاعة على أنها شيء، لأن لها خصائص تميزها عن غيرها وتفصلها عن بقية العالم الخارجي، فهي على سبيل المثال تميل أن تكون كروية، وترتفع دائمًا لأعلى حتى تلتقي مع الهواء، ولها قدر من الطاقة ولها زخم كذلك، وتصطدم مع الفقاقيع الأخرى داخل الكوب، فإذا كانت الصدمة كبيرة كفاية تتدخل الفقاعتان معًا … إلخ.
فقاقيع كمومية
في فيزياء الجسيمات، يمكن أن نستخدم هذا التشبيه للتعبير عما نسميه بـ«أشباه الجسيمات -Quasiparticles»، لفهم الأمر يمكن أن نتأمل معًا جزءًا مهمًّا من آلية عمل هاتفك الذكي، حيث يحدث – في بعض الأنواع من أشباه الموصلات – حينما نجمع شبكة من الذرات أن تتشابك إلكتروناتها معًا لتصنع ما يشيه بحرًا أو سحابة من الإلكترونات التي تغلفها وتتحرك خلالها، كما تعرف فإن أية ذرة تتكون من نواة موجبة (بسبب البروتونات) وإلكترونات سالبة تدور حولها.
الآن سنقوم بنزع واحد من تلك الإلكترونات، هنا تحدث فقاعة أو فجوة موجبة، تتحرك تلك الفجوة مثل الإلكترونات بالضبط، ونرصد أثرها وكأنها إلكترون بالفعل لكنه موجب الشحنة، الآن لا ترتبك فنحن لا نتحدث عن «البوزيترونات» هنا، وهي المادة المضادة للإلكترونات، لا نتحدث عن جسيمات كالتي نعرفها ونراها في النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات، بل نتحدث عن فقاقيع يبدو وكأن لها هوية خاصة بها، تسمى أشباه جسيمات، هذا النوع تحديدًا منها يسمى بـ«الفجوة – Hole Particle»، وهناك أنواع أخرى كثيرة منها.
لكن قبل الخوض فيها دعنا نتعرف على ما نسميه بـ«المنظومة المتعقدة – Complex System»، ولنضرب، لغرض التقريب، مثالًا بسيطًا. تخيل أنك قمت بتفكيك كل أجزاء السيارة ووضعتها جنبًا إلى جنب، هل يمكن للسيارة أن تعمل؟ بالطبع لا، تعمل السيارة فقط حينما يتم ترتيب أجزائها بطريقة محددة بالنسبة لبعضها البعض.
عند ترتيبها بهذا الشكل المحدد، فإن أجزاء السيارة تعمل معًا في تناغم لإنتاج سلوك جديد إضافي لم يكن أي جزء من السيارة ليمارسه وحيدًا، وهو سير السيارة للأمام ما إن تضغط على دواسة الوقود، ورجوعها للخلف ما إن تغير ناقل الحركة على وضع «رجوع». تسمى هذه المنظومات التي تطرأ عليها صفات جديدة بـ «المنظومات المتعقدة»، ويشبه الأمر أن تضع الكلور (السام) مع الصوديوم (السام) لينتج تفاعلهما كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) الذي يمتلك صفة جديدة لا يمكن لأي من مكوناته أن يحملها منفردًا، وهي أنه غير سام.
تأثيرات جمعية
بنفس الفكرة تعمل بعض الجسيمات – حينما تنتظم في ترتيبات محددة – بسلوك كلي، لكن مع اختلافات جذرية تتعلق بطبيعة العالم دون الذري، وكذلك طبيعة تفاعلاتها معًا، كما قلنا فإن المثال غرضه فقط التقريب، في تلك الحالات تسري الشحنة أو اللف، بين مجموعة الجسيمات وكأن هناك جسيمًا ما يتحرك.
الشحنة Charge خاصية للجسيمات، كاللون مثلًا، يكون الشيء أحمر أو أخضر أو أصفر، كأن نقول إنه من خصائص الكائنات الحية أنها تنمو وتتكاثر، أما «اللف – Spin» فيشبه الأمر أن تدور الأرض حول نفسها، ليس الأمر كذلك تحديدًا؛ لكنه أقرب مثال نعرفه، مع فرق هام، تدور الأرض لأنها دُفعت للدوران في بداية حياتها في المجموعة الشمسية، أما لف الجسيم فهو خاصية جوهرية محددة له، لا يدور؛ لأن أحدهم دفعه للدوران؛ لكنه مستمر دائمًا في ذلك، يشبه الأمر الخاص بالشحنة أو اللف صوتك أو ضحكتك، إنه أمر في تركيبك كبشري، لكل جسيم نمط لف محدد لا يتغير أبدًا.
جميل جدًا، قد تتبادل الإلكترونات الشحنة أو اللف فيما بينها، وهذا التبادل قد يحدث بطرق عديدة ما يجعل هناك أنواعًا عديدة لأشباه الجسيمات، «الفونونات» – على سبيل المثال – هي حالة اهتزازات كمومية تحدث في الشبكات البلورية الصلبة، يشبه الأمر تلك الموجات التي تسري بين الجماهير في مدرجات كرة القدم، شخص واحد لا يمكنه أن يمارس سلوكًا شبيهًا، لأن الفونونات هنا ليست أشخاصًا، بل هي الموجة المتحركة نفسها، ولها خصائص الجسيمات بحيث يمكن أن نرصدها، بالضبط كما نرى الفقاقيع في كوب الماء.
أما «الماجنونات» فلا علاقة لها بالجنون من قريب أو بعيد، ولكنها عبارة عن تغير يسري في اللف الخاص بتجمع من الذرات في شبكة بلورية، يشبه الأمر نفس المثال السابق الخاص بموجات الجماهير، حيث يكون لف المجموعة كلها باتجاه محدد، لكن هناك لفًّا معاكسًا يسري في المنظومة كلها. وفي بعض الحالات الأخرى، عند تبريد الهيليوم إلى درجات حرارة شديدة القسوة، يمكن أن نلاحظ أثر وجود جسيمات وكأنها البوزون هيجز، لكنها فقط صفة طارئة على المنظومة، وليست جسيمًا بالمعنى المفهوم.
نطاق بحثي نشط
يحاول المختصون في هذا النطاق البحث خلف خصائص تلك الحالات العجيبة، على سبيل المثال، تمكن فريق بحثي مشترك من جامعة ميونخ للتكنولوجيا ومؤسسة ماكس بلانك للفيزياء، عبر محاكاة رياضياتية، من التوصل – فقط قبل عدة أيام – إلى أن أشباه الجسيمات لا تتحلل حتى تفنى نهائيًا، وانما تعيد ترتيب ذاتها مرة أخرى، ما يعني أنها لا يمكن أن تفنى بالمعنى المفهوم.
وجاءت النتائج، التي نُشرت في دورية «نيتشر فيزكس» مؤخرًا، لتقول إن ذلك لا يخرق القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يشير إلى أن الأنظمة تنزع للفوضى مع الزمن (الإنتروبيا)، ببساطة لأن تلك ليست جسيمات بالمعنى المفهوم. لفهم فكرة القانون الثاني للديناميكا الحرارية، يشبه الأمر أن تترك حجرتك لمدة ثلاثة أشهر ثم تعود إليها من جديد، لن تجدها أكثر انتظامًا، بل ستكون في حالة من الفوضى، أما إذا وجدتها أكثر انتظامًا فإن ذلك يعني أن أحدهم تدخل وقام بذلك، لأن الأشياء – بطبيعتها – تنزع للفوضى.
قبل هذه الدراسة الجديدة، كان الشائع بين العلماء هو أن أشباه الجسيمات تتحلل مع الزمن حتى تفنى، بالضبط كأي جسيم لأنها تمتلك خصائص جسيمية، لكن عبر محاكاة تتضمن تحليلًا عدديًا توصل الفريق الألماني المشترك إلى أن تلك الحالة قد تتوقف عن التحلل، ثم تعيد بناء جسيمات جديدة بانتظام جديد.
كذلك كان فريقًا بحثيًا من عدة جامعات أمريكية قد حاول اختبار خصائص أشباه الجسيمات قبل حوالي العام عبر صدم شبه جسيم مع شبه جسيم مضاد له والبحث عن أي خصائص إضافية لتلك الكيانات، لكن النتائج – والتي نشرت بدورية نيتشر – أكدت أن التصادم كان شبيهًا بلقاء إلكترون مع إلكترون مضاد، فقد محا كل منهما الآخر وظهرت فوتونات.
حديقة جديدة
ويتصور فريق من الباحثين أن تلك الأنواع الخاصة جدًا من الكيانات دون الذرية قد تتدخل لحل واحدة من أكثر المشكلات التي تواجه فيزيائيي الكونيات، وهي طبيعة المادة المظلمة، حيث يمكن تصوُّر المادة المظلمة على أنها نتاج لأثر اهتزاز اللف الخاص بالجسيمات، والذي يتسبب في موجات من الطاقة في الكون كله.
تمتلك أشباه الجسيمات ميزة خاصة جدًا تجعل من دراستها شأنًا هامًا اقتصاديًا، حيث إنها مسئولة عن الخواص الكهربية أو المغناطيسية للكثير من المواد المستخدمة حاليًا في الهواتف والحواسيب والحواسيب الكمومية المستقبلية كذلك والموصلات التي يأمل العلماء أن تحل محل الموصلات المعاصرة، ما يجعلها نطاقًا بحثيًّا معاصرًا نشطًا.
لذلك فإن البحث عن الجديد منها لا زال مستمرًا، وكان فريق من المصادم الهادروني الكبير، قبل عام ونصف تقريبًا، قد كشف عن شبه جسيم جديد يدعى «الأوديرون» (افتُرض وجوده في سبعينيات القرن الماضي)، وهو كبقية رفاقه عبارة عن حالة تظهر عند حدوث تجمع لأعداد فردية من الجلوونات، الجسيمات الأولية المسئولة عن الربط بين الكواركات وبعضها البعض (القوى النووية القوية).
في كل الأحوال، فإن عالم الكوانتم لا زال قادر دائمًا على إبهارنا، ورغم أن هذا النوع من التأثير الكلي مُلاحظ في كل شيء تقريبًا بداية من المنظومات الحيوية مرورًا بعوالم الانتظام الذاتي والكيمياء الحيوية، وصولًا إلى نطاقات علم الاجتماع وحكمة الحشد وخصائص الجماعات ككل، إلا أن أعاجيب عالم الكوانتم لا زالت ذات طبيعة خاصة جدًا تنفصل عن أي شيء آخر ولا يمكن حتى أن ندَّعي أنها تشبهه، لا زلنا نستخدم الأمثلة فقط للتقريب، أما ما يقبع هناك فلا مجال لرصده وفهمه بالكامل إلى الآن، وربما أبدًا.
*في بعض الحالات تسمى تلك التغيرات بأشباه الجسيمات، وفي حالات أخرى تسمى بـ«الإثارة الكلية – collective excitation»، والفارق بينهما غير هام الآن، لأن الآلية تقريبًا واحدة.