اللغات شبه العربية: رحلة لغة عالمية ما بين مد وجزر
تعرضت عديد من اللغات حول العالم لتغييرات كثيرة على مر الزمان وتأثرت بدرجات متفاوتة بغيرها من اللغات لظروف سياسية ودينية واقتصادية وغيرها، وكانت العربية من أكثر اللغات انتشارًا في الماضي؛ فمنذ بداية الفتوحات الإسلامية حمل الفاتحون لغتهم وثقافتهم إلى الشعوب المختلفة، بخاصة في آسيا وأفريقيا.
ومع توسع العرب في الرحلات التجارية، بخاصة عن طريق البحر سادت لغتهم وغلبت على ألسنة الكثيرين حول العالم، فظهرت للعربية شقيقات كثر تأثرن بها واقتبسن منها نسبة كبيرة من الكلمات، وفي أحيان عديدة تمت كتابتها بالحروف العربية.
وعلى الرغم مما فعله الاستعمار الأوروبي بلغات الشعوب المحتلة، وحرصه الشديد على اقتلاع اللسان العربي ومحو تأثيره العالمي الهائل، وكذلك ظهور الدول القومية بشكلها الحديث ونشوء الهويات الوطنية الخاصة، فإن التأثير العربي ظل عصيًا على الإلغاء والمحو على الرغم مما اعتراه من ضعف واضح وكبير نتيجة عمليات الإحلال اللغوي المؤسسية الممنهجة وما بُذل من جهود ضخمة في هذا السبيل على مدار عشرات السنين.
واليوم تحمل عديد من اللغات تأثيرات هائلة من العربية؛ كاللغة المالطية التي يتحدث سكانها الأوروبيون بلهجة أهل المغرب العربي، والأُردية اللغة الرسمية في باكستان ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم، والكردية التي تعد اللغة الأم لعشرات الملايين يتوزعون على عدد من الدول، والبنجابية في شرق باكستان التي تكتب بخط شاه مُكهِي العربي، والسندية في جنوب شرقي باكستان، والبلوشية في جنوبها الغربي وجنوب شرقي إيران، والبشتونية في أفغانستان، والكشميرية التي يتحدثها شعب إقليم كشمير المحتلة في الهند.
وكانت اللغتان الإندونيسية والماليزية تكتبان بالخط الجاوي العربي، لكن أسهم الاحتلال الهولندي والبريطاني في اعتماد الحروف اللاتينية، وروج لأن ذلك يفتح آفاق التطور لهذه الشعوب عند استخدام أبجدية الدول الأكثر تقدمًا، لكن ما زال البعض يستخدمون الخط الجاوي حتى اليوم في كتابة اللغة في بروناي وماليزيا وجنوب تايلاند وإندونيسيا وسنغافورة، وكذلك يستعمله المسلمون في جزر جنوب الفلبين.
وتشهد اللغة العربية إقبالاً كبيرًا على دراستها وتعلمها من جانب ملايين الطلبة الإندونيسيين؛ لأنها لغة القرآن والدين، بل إن البعض يتعلم اللهجات العربية كاللهجة المصرية العامية، وتنتشر كتب لتعليمها، ويجتهد البعض في حفظ وتعلم النكات والأمثال الشعبية؛ لتسهيل التواصل مع الشعوب العربية على الرغم من أن جهود العرب لنشر لغتهم تكاد لا ترى من شدة تواضعها وتتسم غالبًا بطابع المبادرات الفردية أو الحماسات الوقتية.
وقد فقدت لغة الضاد كثيرًا من مكانتها في دول كانت شعوبها تتحدث بلغات شبه عربية؛ فبدافع من رغبة التمايز عن الجوار العربي والإسلامي عمل حكام تركيا وإيران في السابق على الابتعاد ما أمكنهم عن تأثيرات لغة القرآن على ألسنتهم.
من اللغة العثمانية إلى التركية الحديثة
حين أراد الأتراك كتابة لغتهم في السابق اختاروا لها الأبجدية العربية وتكونت اللغة العثمانية من الحروف العربية الثمانية والعشرين فضلًا عن أحرف چ، ژ، گ، ڭ، پ، ڭ.
وانتشرت اللغة العربية أيضًا في الدولة العثمانية في المدارس والجامعات إلى نهاية عهد السلطنة وصعود العلمانيين وسيطرتهم على مفاصل الدولة؛ فبعد إعلان الجمهورية التركية عام 1923 قرر الرئيس المؤسس مصطفى كمال أتاتورك إبدال وجهة الدولة من الشرق إلى الغرب، وعمل على تكريس الاقتداء بالأوروبيين في كل المجالات والتخلص قدر الإمكان من كل ما هو عربي وإسلامي.
وجاءت الضربة القاصمة للعربية في نوفمبر/تشرين الثاني 1928، حين منع أتاتورك كتابة اللغة التركية بالحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية لتتخذ الشكل الذي نراها عليه اليوم، ومنع قانون العقوبات الصادر عام 1928 طبع الكتب التركية بالأبجدية العربية، وأصبحت «مناصرة العربية» جريمة قد يُعتقل مرتكبها ويُغرم، ولما شكا أصحاب المكتبات للحكومة من خسائرهم جراء هذا القرار أمر أتاتورك بالقبض على مقدمي الشكاوى بتهمة معارضة سياسة التتريك.
وأطلقت الدولة حملة صارمة لتعليم وفرض الأبجدية اللاتينية، روج لها أتاتورك على أنها حملة محو أمية، إذ إن الأتراك كلهم تحولوا فجأة إلى أميين بسبب قراره الصادم، وفي عام 1932 تأسس مجمع اللغة التركية وعمل على تطهير اللغة من الكلمات العربية واستبدال كلمات من لغات أخرى بها، بخاصة الفرنسية والإنجليزية، وعلى الرغم من ذلك ظلت اللغة التركية من أقرب اللغات إلى العربية وبقيت فيها آلاف الكلمات منها حتى اليوم.
وارتبط هذا الانقلاب اللغوي بتغييرات أيديولوجية وثقافية عميقة؛ فبسبب عدم وجود عدد كافٍ من الأتراك الذين يعرفون اللغة العثمانية حدثت فجوة بين الأجيال الجديدة والقديمة، وصدق الناس الدعاية السلبية التي انتشرت في العهد الجمهوري لتشويه تاريخ السلطنة، بل إن كثيرًا من الأتراك اليوم لا يفهمون عددًا من كلمات النشيد الوطني لبلادهم لأنه كُتب باللغة العثمانية ولا يفقهون شيئًا عن معظم تاريخهم.
وفي عهد حزب العدالة والتنمية الحالي انتشرت دورات تعليم العثمانية على الإنترنت وعلى أرض الواقع، بخاصة في السنوات الأخيرة، وتدرب كثير من الشباب على قراءة الأرشيف العثماني الذي لم يكن غالبيتهم يفقهون عنه شيئًا.
ومع وجود أعمال تلفزيونية تهتم بهذا الجانب، بات المواطنون يتعلمون بعض الكلمات العربية/العثمانية من المسلسلات التركية التاريخية كمسلسلي «أرطغرل» و«السلطان عبد الحميد»، كما يعمد مسؤولو حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى استخدام بعض المفردات العربية في خطاباتهم عن عمد؛ بهدف نشرها وتشجيع استخدامها.
وتبنى الرئيس رجب طيب أردوغان مشروعًا لإعادة اللغة العثمانية في المناهج الدراسية «حتى لا تفقد الأجيال القادمة ارتباطها بموروثها الثقافي»، مما أثار انتقادات حادة من العلمانيين واتهموه بالتخطيط لـ«إحياء الأبجدية العربية في تركيا» وبمحاولة إحياء لغة لا تفيد إلا في قراءة شواهد القبور القديمة لكنه دافع عن هذه النقطة تحديدًا قائلًا:
اللغة الفارسية الحديثة
تكتب اللغة الفارسية بالحروف العربية الثمانية والعشرين، بجانب 4 حروف أخرى هي چ، ژ، گ، پ، وقد بدأ استعمالها بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس بفترة من الزمن، وظلت لغة أدب وثقافة وانتشرت وأثرت في عديد من المناطق الآسيوية.
لكن في عهد الشاه رضا بهلوي الذي استمر بين عامي 1925 و1941، شهدت اللغة الفارسية تجربة مماثلة للغة العثمانية، فقد اتخذ رضا بهلوي نظيره التركي قدوة له، فحاول تقليده في محو الأثر العربي من لغة بلاده، وأنشأ مجمع اللغة والأدب الفارسي عام 1935 لهذا الغرض.
لكن رضا بهلوي لم يلغِ الكتابة بالأبجدية العربية، وبحسب يوسف عزيزي فإن السبب الذي منعه من فرض الكتابة بالحرف اللاتيني تقليدًا لأتاتورك هو تحذيرات النخبة الفارسية من أن ذلك سيفتح الباب لتأثر أتراك إيران بالأدب والفكر في تركيا، وبالتالي قد يقوي ذلك نوازعهم الانفصالية ويكرس تبعيتهم الثقافية لبني جنسهم في تركيا.
وقد استخدم النظام الإيراني اللغة لتكريس هوية وطنية جامعة للمواطنين ومانعة من تواصلهم مع الشعوب المجاورة؛ إذ تتكون إيران من شعوب متنافرة لا يجمع بينها عرق ولا لغة ولا مذهب، فقد اعترف حاجي بابائي، وزير التعليم في عهد الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد (2005- 2013) بأن 70 في المائة من سكان البلاد مزدوجو اللغة، أي إن من يتكلمون بالفارسية فقط ولا يتكلمون معها بلغتهم الأم لا يشكلون إلا 30 في المائة من السكان.
ولا يزال الأثر العربي باقٍ بقوة في اللغة الفارسية حتى إن العرب يستطيعون في بعض الأحيان فهم الكلام بشكل تقريبي من دون دراسة الفارسية.
وبصفة عامة توجد نسختان للغة الفارسية؛ برزت الأولى بعد فترة من الفتح الإسلامي لإيران ما بين القرن الثاني والرابع الهجري بعد عصر طويل من السكوت (أي عدم الكتابة باللغة الفارسية)، إذ يقول الكاتب الإيراني المعاصر، ناصر بوربيرار، إنه لم يكن في بدايات القرن الثاني الهجري أي شيء مكتوب بالفارسية، مشيرًا إلى أن معاداة العرب ظاهرة حديثة العهد في إيران نشأت خلال القرن الماضي في عهد الشاه رضا بهلوي، حيث حاول المثقفون مسايرة رغباته في هذا الأمر.
ولبوربيرار كتاب بعنوان «12 قرنًا من السكوت». وهو يعني السكوت الحضاري خلال حكم الأخمينيين والإشكانيين والساسانيين الذي استمر 12 قرنًا قبل أن يدخل الإسلام فيمنح إيران ثقافتها المعروفة.
وأتى هذا الكتاب ردًا على كتاب «قرنان من الصمت» لعبد الحسين زرين، الذي تصدر قبل ذلك قائمة أكثر الكتب مبيعًا في إيران، وفيه يزعم الكاتب أن الفتح الإسلامي وما صاحبه من اضطهاد للفرس أطفأ جذوة تألق الأدب الفارسي؛ مما يفسر عدم وجود إنتاج أدبي فارسي في تلك الفترة، ويتبنى ذلك التفسير هربًا من الاعتراف بفضل الحضارة العربية على ثقافة الفرس، وقد اعترف المؤلف نفسه لاحقًا بأن كتابه كان مليئًا بالعنصرية والأخطاء لعجزه عن الاعتراف بانهزام إيران.
واتسم العهد البهلوي ليس فقط بالنسخة الأكثر بعدًا عن العربية، بل بتفشي روح الاستعلاء الفارسي المنتشر في معظم الأدبيات وصعود التطرف القومي وكراهية العرب.
وبعد الثورة الإيرانية عام 1979، دخلت كلمات عربية مجددًا إلى القاموس الفارسي، إذ ضمّن المسؤولون الدينيون خطاباتهم وكتاباتهم عبارات عربية، لكن عمليًا ظلت لغة الضاد تواجه إقصاءً متعمدًا من جهاز الدولة وظلت سياسات التفريس الإجباري مفروضة على القبائل العربية جنوب غربي البلاد حتى اليوم لنفس الدوافع التي حركت رضا بهلوي، فعلى العكس من تركيا لا يتبنى النظام الإيراني أي خطط لاسترجاع التأثير العربي اللغوي بل إن هناك اتجاهًا ثقافيًا للعودة إلى النسخة الأقدم من اللغة قبل دخول الإسلام!