كره الذات عند المهاجرين الجدد: حوار مع «سلام الكواكبي»
حول ظاهرة النقد الشديد وازدراء القيم والتقاليد والثقافة العربية الإسلامية بين المهاجرين الجدد من شمال أفريقيا وآسيا إلى المجتمعات الغربية، وظاهرة كره الذات، تحاور «إضاءات» سلام الكواكبي، الباحث السوري في العلوم السياسية، ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس.
أجرت الحوار: أماني الصيفي، طالبة دكتوراه اللغة الإنجليزية وآدابها، جامعة برلين الحرة.أستاذ سلام، لقد قمتَ بتقديم أمسية ثقافية مؤخرًا من تنظيم مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في برلين بعنوان: «ظاهرة كره الذات في أوساط المهاجرين الجدد»، فهل ترى أن ظاهرة كره الذات وازدراء الثقافة العربية والإسلامية وقيمها وتقاليدها في أوساط المهاجرين ظاهرة قديمة صاحبت تعرف الشرقيين العرب/المسلمين على الثقافة الغربية بقيمها الحديثة المختلفة عن ثقافتهم، أم أننا نشهد ظاهرة جديدة تمامًا؟
أنا لا أعتقد أن ظاهرة كره الذات كانت موجودة في الأزمان السابقة ولكنها ظاهرة حديثة. نعم، كان هناك التساؤل والنقد الذاتي ومحاولة البحث عن أسباب أمراض العرب والمسلمين، ولكن لم يكن هناك ظاهرة كره الذات.
نشأة تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة مرتبطة بنشوء اليمين المتطرف في الدول الغربية. وبعض أبناء الهجرة حاولوا أن يكونوا على يمين اليمين المتطرف، بل وأن يزيدوا في عملية النقد المجاني الذي يصل إلى حد الشتيمة بحق الثقافة التي أتوا منها، أو الدين الذي اعتنقوه بالولادة في ثقافتهم. وهنا أقول إن هناك تراجعًا في الثقافة من مرحلة النقد الذاتي المعمق والتفكير البحثي الذي قام به أمثال «رفاعة الطهطاوي» و«محمد عبده» و«عبد الرحمن الكواكبي» و«جمال الدين الأفغاني».. إلخ، إلى مرحلة صرنا نقرأ فيها مقالات شتائمية للثقافة العربية الإسلامية، لمجرد البحث عن الظهور أو البحث عن منصب أو عن وظيفة في الحد الأدنى.
عملتَ مؤخرًا مع مجموعة من الباحثين، على دراسة بعنوان: «الاعتراف والإنكار السياسي للأقليات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، وترون أن السلطات وغيرها من الفاعلين من لهم مأرب وأهداف متعددة يسعون لتأجيج التفرقة والانقسام بين الطوائف المختلفة والأقليات، هل ترى هنا أيضًا سياسة مشابهة في التعامل مع الأقليات العربية والمسلمة من قبل السياسيين؟ أو أن الإعلام الغربي يركز على صورة نمطية سلبية للعربي/ المسلم تؤدي بالنهاية لنفور المهاجرين الجدد من بعضهم البعض؟
هذا السؤال يحمل جوانب عدة، فأنا عندما أبحث في مسألة الأقليات والطائفية أبحث أساسًا عن دور السلطات الوطنية في تأجيج النعرات الطائفية والانقسامات بين مكونات الشعب، تطبيقًا للقاعدة الاستعمارية «فرّق تسد»، ولا أحمّل الغرب عمومًا إلا مسؤولية بسيطة في هذا. وإن حصل تدخل في هذا الاتجاه من الغرب، فهو يستند إلى أرضية تهيؤها الأنظمة المستبدة. السلطة المستبدة تأخذ الأقليات كرهائن تستخدمهم وتوظف خوفهم في العملية السياسية الساعية للهيمنة على المجتمع ومقدراته.
من جانب آخر، قد شهدنا في الفترة الأخيرة أعمالًا وحشية قامت بها «داعش» ومثيلاتها من المنظمات الإرهابية. والقول بأن ليس في داعش من الإسلام شيء هو كما القول بأن ليس في الصليبية من المسيحية شيء، وكلا القولين خطأ. فداعش فيها من الإسلام ما في الصليبية من المسيحية. لذلك يجب أن نكون واعين لمواجهة الأمر بعقلانية بعيدًا عن صد التهم بتهم مقابلة.
هؤلاء المجرمون يستخدمون نصوصًا دينية لتبرير أعمالهم الوحشية، لذا وجب علينا إعادة قراءة هذا النص وتحليله والاجتهاد بتفسيره استنادًا إلى السياق التاريخي ليكون نفينا لمسؤوليتهم عن المسلمين مستندًا إلى قواعد متينة، ولا نكتفي بالقول: «إنه لا علاقة للمسلمين بهم».
من جهة أخرى لا يمكن أن نتحدث عن وجود شرق وغرب ككتل متجانسة. يوجد إعلام موضوعي وآخر شعبوي في كل دول العالم. وبالطبع، استغلال الفرصة من قبل اليمين المتطرف والصحافة الصفراء لبعض التصرفات الشاذة من قبل متطرفي الأديان، مهما يكن هذا الدين، هو موضوع تسويقي وبرنامج سياسي أكثر من كونه موضوعًا أيديولوجيًا.
ولذلك لا أعتقد بوجود سياسة غربية أو ثقافة غربية تود إظهار المسلمين على أنهم خطر يهدد حياة الغرب وقيمه. غير أني أعود لأؤكد على أن التركيز على الصور الشاذة والسلبيات هو دور الإعلام. ومع ذلك ومن خلال اطلاعي على الإعلام الفرنسي والألماني على الأقل، أستطيع أن أقول بأن هناك تركيزًا، بل وأحيانًا مبالغة، في كل من يبرز ومن يحقق نجاحًا بين المهاجرين الجدد خصوصًا، لتهدئة الرأي العام المتخوف والذي قد يتأثر بالخطاب اليميني المتطرف.
إذن، في رأيكم، ما الأسباب التي قد تسبب هذا النفور بين المهاجرين العرب والمسلمين، وخصوصًا المهاجرين الجدد، من بعضهم البعض في الدول الأوروبية؟
المهاجرون الجدد قدموا ومعهم إرث ثقافي رسّخه الاستبداد السياسي والديني في بلادهم الأصلية، فلم تكن هناك ثقافة التعاون خارج حدود المعتقد ولا حرية التعبير عن الرأي وحرية التجمع. كما أن الشك كان قاعدة والخوف ثقافة. وبالتالي يشك هؤلاء القادمون الجدد ببعضهم البعض وهذا طبيعي. ولا يجب أن ننسى جانبًا آخر مهم وهو أن الكثير من القادمين الجدد عايشوا أحداثًا مأساوية، وهذا قد يدفعهم في كثير من الأحيان إلى الرغبة في تأسيس حياة جديدة بعيدة عن كل من وما يربطهم بذلك الماضي المأساوي.
وهذا إن كان من حقهم، إلا أنه لا يخلو من شيء من الأنانية قد لا يأخذها الكثيرون في الحسبان، وخصوصًا أننا لم نعرف ثقافة المسؤولية الاجتماعية وتقديم المعونة للآخر إلا في الإطار الديني المحصور. نعم، فنحن نقدم الزكاة والأضاحي كمسلمين لغيرنا من المسلمين، ولكننا لم نتبنّ ثقافة العمل المدني الذي يتجاوز الانتماءات.
ولذلك على النخب منهم الانتظام في جمعيات مدنية لنشر الفكر الحر الواعي ولمحاولة فتح قنوات للتواصل بين هؤلاء المهاجرين الجدد، ليس فقط لإدماجهم في الحياة الجديدة، ولكن أيضًا لفتح نقاشات تؤهلهم للاختيار المبني على قناعة ووعي. وهنا أقصد اختيار احتفاظهم بثقافتهم الأصلية وإغنائها بالثقافة الجديدة، أو اختيار التخلي عن الثقافة الأصلية وتبني الثقافة الجديدة، أو اختيار التمسك بثقافتهم الأصلية ورفض الثقافة المضيفة. والخيار الأخير هو خيار صعب جدًا فلا يمكن العيش في بيئة ما ورفض ثقافتها بشكل كامل.
وهنا يأتي سؤال يسأله كل فرد من القادمين إلى بلاد جديدة لنفسه وهو: كيف ننتمي؟ هل أصبح مفهوم «الانتماء» الآن وفي وقتنا الحالي يحمل بالضرورة شحنات سلبية؟
الانتماء، كما الهوية، هو اختيار ذاتي. أنا لا أؤمن بانتماء جمعي. الانتماء الجمعي يصبح موضوعًا أيديولوجيًا، موضوع تعبئة، وهذا مضاد لحرية الإنسان. ولكن القادمين الجدد كونهم لم يمارسوا ثقافتهم الأصلية بالأساس بشكل حر، فهم غير قادرين على تقبل الثقافة الجديدة. فيعتبرون أنها مضادة للثقافة التي قدموا منها والتي لا يعرفونها بالضرورة.
التقوقع على انتماء معين أو هوية معينة غير مفيد أبدًا في عملية الاندماج ومسألة الاستمرار والتطور في الحياة الجديدة والتي اختاروها أو أجبروا عليها. هناك مشاكل كثيرة تنجم عن محاولة الاستفادة من كل ما يقدمه المجتمع المضيف مع المحافظة على كل ما حملوه من المجتمع الأم والثقافة القديمة، وهنا يحدث التناقض والصدام وهو ما يجب السعي لتجاوزه قدر المستطاع.