تلقّف العرش: مشروع قيس سعيد الذي لم ينتبه له أحد
حين تولى المعتمد بن عباد الحكم مكان أخيه المعتضد وقف خطيبًا في الناس الذين استبشروا بقدوم المعتمد ليّن الطباع وشاعر الغزل والمحب للترف مكان المعتضد محب السلطة والقاتل لكل من يعارضه، أخبرهم المعتمد أن للعرش طبائع منفصلة عن طباع السلطان، فإن وافقت طبائع السلطان طبائع العرش كان المعتضد الدموي، لكن إذا خالفت فهو المعتمد الهادئ، إلا أن طبائع العرش ثابتة وتفرض نفسها على السلطان غالب الوقت، فعليهم أن لا يأمنوا جانبه فقد يُحوّله العرش للمعتضد في أي لحظة.
وفي تونس يبدو أن طبائع السلطة قد فرضت نفسها على الأستاذ الجامعي والأكاديمي قيس سعيد الذي تولى السلطة بانتخابات نزيهة اختاره فيها التونسيون لأنهم يئسوا من الوجوه السياسية المعتادة. لكن في الأسابيع الأخيرة فاجأ قيس سعيد الجميع بقرارات تجميد البرلمان ووضع السلطة في يده، في قرارات أقرب للديكتاتورية منها للدبلوماسية، وتتشابه كثيرًا من انقلاب دستوري هدفه تركيز كافة السلطات في يد الرجل.
فهل كان الأمر مفاجئًا حقًا؟ أم أن الرجل منذ أيامه الأولى ينزع للسلطوية ويرى نفسه الأجدر بقيادة البلاد منفردًا؟
ضد الانتخابات والبرلمان من 2019
لقد كان الرجل منذ شهور في صراع مع البرلمان والحكومة، فقد عطل العديد من تشريعات البرلمان، وسدّ الطريق أمام الحكومة في مواضيع مختلفة. لأن الرجل منذ وصوله للسلطة لم يكن مقتنعًا بنظام الحكم في تونس الذي يوزع السلطات بين الرئيس والحكومة والبرلمان، وكان يرغب دائمًا في نظام رئاسي تصبح القرارات مرتبطة فيه بكلمة من رئيس الجمهورية.
يؤكد ذلك الوثيقة المسربة التي نشرها موقع ميدل إيست أي منذ شهور قبل قرارات سعيد. تقول الوثيقة إن الرجل سوف يُقدم على انقلاب دستوري لصالح الرئاسة، وأنه سوف يعتقل العديد من المعارضين السياسيين، وخصت الوثيقة عددًا من رجال حركة النهضة.
وبعيدًا عن الوثيقة فقد عبر سعيد بتصريحات مباشرة وجريئة عن تقزّزه من الطبقة السياسية التونسية، التي وصفها سعيد أكثر من مرة بأنها العقبة في طريق برنامجه الإصلاحي، وأنه إذا تخلص منها فسوف تصبح الأمور أسهل. رغم أن الواقع والتاريخ يؤكدان أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
ففي حواره لجريدة الشارع المغاربي في 12 يوليو/تموز 2019 أكد سعيد أن حملته الانتخابية ضد الانتخابات التشريعية والبرلمان بمنظورهما الحالي، وأنه سوف يعمل جاهدًا على إلغائهما حال وصل للسلطة. وضح سعيد أن نظرته تعتمد أن يكون البناء قاعديًا ينطلق من المحلي نحو المركزي، أي أن الرجل يريد اعتماد المجالس الجهوية بدلًا من البرلمان.
الأحزاب مرحلة انتهت
يتشابه سعيد في ذلك مع غالبية الرؤساء العرب الذين يرون حكم الفرد هو أقصر طريق للإصلاح. وزيارة سعيد للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، واللقاءات الحصرية غير المنشورة التي عقدها الاثنان توحي بأن سعيد يمشي على خطى الرئيس المصري. وقد أيقظ السيسي في جولته مع سعيد الشعور القومي والوطني الذي يميل إليه الرجل الأكاديمي.
كما أن خطابات قيس سعيد تتشابه مع خطابات القادة العرب منذ البداية، فسعيد يستخدم خطابات شعبوية تعتمد على استغلال الأوضاع المتردية لتمرير قرارات استثنائية. كما يميل سعيد لتشويه الخصوم خصوصًا الإسلاميين، والتهديد باستخدام القوة في وجه المتمردين الذين ينتهكون القواعد الاستثنائية التي يفرضها الرئيس.
لم يكن حل البرلمان ولا قرارات سعيد مفاجئة، لا بسبب الوثيقة المسربة قبل شهور، بل لأن الرجل أعرب في أكثر من مناسبة أن تونس بحاجة لثورة في إطار من الشرعية. تلك الثورة التي رغبها سعيد تهدف إلى التخلص من الإرث الاستعماري، في رأيه، الذي فرض على تونس نظام حكمها. ويريد سعيد فك النظام الحالي إلى لا مركزية موسعة تعتمد على مجالس شعبية محلية.
كما أن الرجل يرى أن فكرة الأحزاب السياسية نفسها هي مرحلة وانتهت تاريخيًا، وقال إن الأحزاب التونسية كانت عاجزة عن قيادة تونس، وستظل عاجزة عن مواكبة الظرف التاريخي الذي تمر به تونس، لذلك وضّح أيضًا أنه دخل الانتخابات مستقلًا وسيحكم مستقلًا ويوارى الثرى مستقلًا.
حكم الشعب المباشر
فلسفة سعيد التي عبر عنها بكلمات مقتضبة في ثنايا خطاباته ولم يلتفت لها أحد إلا بعد أن طبقها الرجل هي أن الشعب يجب أن يحكم مباشرة دون واسطة. لذا صرّح أنه لا يؤمن بالأحزاب كأداة سياسية، وأن حكم الشعب المباشر يعني أن يحكم الرئيس مباشرة، لأن الرئيس هو الرجل الوحيد الذي اختاره الشعب بشكل مباشر وشخصي.
تلك الفلسفة تفسر سر رفض الرجل استقبال ممثلين عن الأحزاب الفائزة في الانتخابات لتقديم مقترحاتهم، وحتى تجاهله لذلك الفوز وتعيين رئيس حكومة من خارجهم. والملاحظ أيضًا أن الرجل لم يستقبل ممثلي جمعيات أهلية أو مدنية، وقد صرّح قبل ذلك أنه سيحارب دعم الجمعيات الأهلية سواء كان الدعم آتيًا من الخارج أو من الداخل. إشارة أخرى لأن الرجل يؤمن بحكم الفرد المُطلق دون معارضة من أحزاب سياسية ولا مبادرات من جمعيات أهلية.
كما أنه عرقل مشروع المحكمة الدستورية، لم يكن جليًا وقتها سبب إصراره على غياب وجود المحكمة الدستورية عن المشهد، لكن الآن بدا واضحًا أن غيابها كان الخطوة الأولى في طريق الألف ميل الذي كان الرجل ينوي السير فيه.
صحيح أن خطاباته السياسية وحياته الأكاديمية ولقاءاته الإعلامية لم يكونوا كافين لفك غموض شخصية الرجل وفهم نظامه في الحكم، لكن متابعة إدارته في الحكم والأشخاص الذين اختارهم ليكونوا في مناصب قيادية توحي بأن الرجل أراد إحاطة نفسه بالغموض بصورة كافية تجعله قادرًا على التدخل في لحظة ما في منتصف مدة حكمه كي يبدو منقذًا لتونس، فسعيد لم يرد أن يحرق نفسه ولا صورته، كما حرص على إبراز خلافات الحكومة وعجز البرلمان ووضعهم تحت مجهر الإعلام أكثر من مرة.
هو الرئيس الوحيد
فالرجل لم يتوقف في كل المحافل، حتى المحافل البروتوكولية كتنصيب الحكومة الجديدة، عن التذكير بأنه الرئيس الوحيد للدولة، ولا يكف عن توجيه تهم التآمر وشراء الذمم وعقد صفقات في الغرف المغلقة إلى أطراف لا يسميها.
كذلك فإن الملاحظ في زيارات قيس سعيد الخارجية أنه لا يصحب معه الوفود الدبلوماسية المتعارف عليها، بل يسافر الرجل بعدد قليل ويمضي في زيارته منفردًا كأنه سائح لا رئيس دولة، وكأنه يتصرف في أمر خاص به فقط، لا في دولة لها دواليبها وحقائبها الوزارية.
لقد نجح قيس سعيد في جعل نفسه لغزًا يُجبر التونسيين على محاولة حل طلاسمه، لكن المؤكد أن هذا اللغز لم ينتج أفكارًا أو تنظيرات للحكم ولم يضع برامج تنموية بالتشارك مع الحكومة أو البرلمان. كما لا تشغل الوعود الاقتصادية والتنموية جانبًا كبيرًا من خطاباته بقدر ما تشغل كلمات الحرب والسلاح والنزال والنصر والسيوف. فسعيد يرى نفسه على جبهة قتال يقاتل خصومًا لا يعرفهم أحد، ولهذا كرر في أكثر من مناسبة أمام رجال الجيش أنه هو القائد الأعلى للجيش والأمن.
يبدو أن برنامج قيس سعيد له ملامحه شبه المكتملة منذ البداية، برنامج لا يميل للديموقراطية بل يعتمد على تعطيلها ما لم يكن نسفها تمامًا، لكن تم غض النظر عنه أو فات على الجميع. لا سبب واضح لماذا فاتت كل تلك الإشارات والتصريحات على الفاعلين السياسيين، وحتى الوثيقة الرسمية المسربة، لكن يمكن لأن الرتابة التي يتحدث بها الرجل، ونقص خبرته السياسية، جعلت من المستبعد في أذهان الكثيرين أن يكون هو من ينقض على الديموقراطية الوحيدة التي صمدت بعد الربيع العربي.