أرى ما أريد: هكذا أسس «صقر قريش» دولته
انهارت دولة الأمويين وملكهم الشاسع أمام طوفان الثورة العباسية وبحر من الدم، وارتفعت الرايات السوداء على المشرق كله، ولن يلبث حتى يلحق به المغرب. وأمير أموي يفر بأقصى ما يمكنه راغبًا في أكثر من مجرد النجاة، وحاملًا لطموح عظيم. هكذا تتضح معالم قصتنا في مقالنا السابق.
وأخيرًا.. البحر
وأمام أمواج الشاطئ المتلاطمة وجد الفتى الهارب من جيوش العباسيين وراياتهم السوداء غايته، والآن ها هي الأندلس تقف لا يفصل بينه وبينها إلا هذا البحر، فحلم الفرار قد تحقق، ولكن ماذا عما بقي من الأحلام؟
البحث عن الأنصار
لم يكن ليخفى على «عبد الرحمن» ما وصلت إليه أحوال الأرض التي أراد أن يحكمها ويحيي أمجاد دولته التي انهارت في المشرق على أرضها، فالأندلس التي كانت تخوض غمار الحرب الأهلية بعد استشهاد واليها القوي «عبد الرحمن الغافقي» وسط جيشه على مقربة من باريس في موقعة بلاط الشهداء في العام 114هـ، لم تشهد الاستقرار في الحكم، سواء من قبل الولاة القادمين من وراء البحر بكتاب الخليفة، أو المتغلبين على حكمها بعد الحرب الأهلية المستمرة.
والآن بعدما تفرقت القبائل بين قيسية ويمنية، ثم انتصرت القيسية على اليمنية في موقعة شقندة قرب قرطبة، أضحت السلطة في يد رجلين «يوسف بن عبد الرحمن الفهري» كحاكم رسمي، و«الصميل بن حاتم الكلبي» كحاكم فعلي على البلاد، وبالطبع لم يخل حكمهما وحكم القيسية من الكدر بالثورات المستمرة التي لا تنقطع تارة، وبالقحط والجدب تارة أخرى.
واليوم بعد زهاء عشر سنوات من حكم «الصميل» و«يوسف» وصل «عبد الرحمن» على شاطئ المغرب ووقف في سبتة يرقب الأحداث، ثم اتخذ تدبيره وحربه، فأرسل خادمه بدرًا يوطئ ويدبر، ولم يكن عزم بدر لينقص عن عزم سيده، ولكن الطريق طويل ولن ينتهي عند موالي بني أمية وكبيرهم «أبي عثمان» فقط.
فرِّق تــــســد
بعدما رفض الصميل أن ينصر عبد الرحمن على يوسف لأنه من قوم «لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله»، حينها رأى أبو عثمان ومن معه من الموالي أن أفضل الغاية لتحقيق الهدف من مهمة بدر هو استغلال الخلاف بين القيسية واليمنية، وبما أن اليمنية يملؤهم الحقد على القيسية ولم ينسوا ثأرهم فهم الأنسب للتفاهم معهم في أمر الأمير الأموي المنتظر، وهكذا يخبرنا «ابن حيان» عن اللقاء الفاصل بين بدر وشيوخ اليمنية فقال:
وهكذا بعد عام كامل قضاه بدر في البحث عن الأنصار لسيده وجد غايته وحشد الجيوش التي انتظرت قائدها ليعبر البحر إليها.
«الــداخــل» أميرًا.. النبوءة تتحقق
وهكذا عبر «عبد الرحمن بن معاوية بن هشام» البحر من سبتة في المغرب حتى نزل بشاطئ المنكب من أرض الأندلس، وقد اجتمعت له الأنصار ووفدت عليه الرجال من كل ناحية تهتف لابن الخلائف الذي دخل الأندلس فصار ذلك لقبه من يومها: عبد الرحمن الداخل.
لم يهتم عبد الرحمن بالتهديدات التي أرسل له بها يوسف الذي وصف من تجمعوا حوله بـ«الأوباش»، بل حشد جيوشه وعقد لواءه وتحرك باليمنية جميعهم يفتتح ما يتعرض له من البلاد جنوب الأندلس إلى أن وصل إشبيلية، ثم سار متتبعًا النهر حتى بلغ قرطبة، وهناك التقى الجمعان عبد الرحمن وجيوشه والصميل ويوسف ومن معهما، ثم كان النصر يوم المصارة صبح عيد الأضحى، ودخل عبد الرحمن قرطبة، وأُخذت له البيعة من مسجدها فصار الداخل هو الأمير الأموي الأول على بلاد الأندلس، وأخيرًا تحقق الحلم ونبوءة قديمة قيل فيها إنه يجدد ملك بني أمية الزائل.
الأعداء من جميع الجهات
بأخذ البيعة واستقرار «الداخل» على عرش الأندلس بدأت الأحداث تظهر تباعًا، ولم يكن منها ما يخفى على عبد الرحمن، فبعدما طلب يوسف والصميل الأمان وسكنا في حكمه، إذ خرج يوسف وجمع الجموع يبغي حظه من الملك، ولكن قتله بعض مواليه، وأدرك يوسف بذلك القبر لما لم يستطع أن يدرك القصر، وأما الصميل فقد تم خنقه في السجن ويبدو أن يد عبد الرحمن لم تكن بعيدة عن ذلك.
بموت يوسف والصميل بدأت الأمور تستقر؛ بما شجع الأمير ابن الخلائف أن يتخذ خطواته ضد العدو الأزلي للأندلس شمالًا، فمنذ سنوات طويلة وبعد الفتح على يد «طارق بن زياد» استطاع بعض فرسان «القوط» الهرب إلى أقصى الشمال القاحل واعتصموا بجباله الوعرة في مكان شديد الارتفاع والانحدار يسمى «الصخرة» لمناعته وحصانته الشديدة، ولم تفلح أي محاولات من الفاتحين في السيطرة عليهم.
وبمرور الوقت كونت تلك العصبة من نفسها إمارة صغيرة هرب إليها كل من تبقى من فلول القوط وجعلوا من الفارس «بلايو» ملكًا عليهم، وبذلك بدأت دولتهم الصغيرة في جيليقية أقصى شمال الأندلس عدوًا متحفزًا ومقتطعًا لكل ما يستطيع أخذه في خضم انشغال الأندلس بحروبها الأهلية.
وعندما تولى الداخل استطاع استغلال بطش ملك الجلالقة «فرويلا الأول» ودعّم الانقلاب عليه من قلب دولته نفسها، الأمر الذي انتهى بتقسيم دولة العدو الشمالي إلى دولتين متصارعتين قرونًا طويلة من الزمن.
الرايات السوداء على الأبواب
على الرغم من هروب الداخل من جيوش العباسيين فإن خليفتهم القوي «أبو جعفر المنصور» لم يهمل أمره، والآن «العلاء بن مغيث الجذامي» يرفع السواد ومعه كتاب الخليفة بولاية الأندلس جالبًا جيوش بني العباس إلى عقر دار الداخل وبني أمية، حتى أحكم حصار الداخل في قرمونة قرب إشبيلية، وبعد الحصار خرج الأموي مع رجاله بعدما بايعوا على الموت حتى انتصروا على عدوهم، وأرسل الداخل برأس العلاء إلى المنصور الذي فزع قائلًا:
طوفان من الثورات
لم يهدأ عبد الرحمن الداخل يومًا في حكمه من تتابع الثورات عليه من القبائل التي نقمت عليه تحجيم دورها في الحكم، مرورًا بأهل بيته الذين طمعوا في ملكه، كابن أخيه «عبيد الله بن أبان بن معاوية»، ثم «المغيرة بن الوليد بن معاوية»، ثم تابعهم كبير اليمنية حلفاء الداخل «أبو الصباح اليحصبي»، والي إشبيلية، وغيرهم الكثير الذين دائمًا ما استخفوا بأمر عبد الرحمن وأرجعوا أمر ملكه إلى الحظ وطالع السعد، لا إلى الحزم والتدبير، وأيقن عبد الرحمن من سخريتهم فرد عليها:
وقد أظهر لهم عبد الرحمن جميعًا من القسوة والحزم ما يجدر بعزم الفتى الهارب من الجيوش والمؤسس للدولة. وعلى الرغم من قوة عبد الرحمن وسطوته إلا أن ثورتين بشكل خاص كادتا أن تُذهبا دولته من الأساس، أما الأولى فكانت لمعلم من المغرب اسمه «شقنة بن عبد الواحد» ادعى أنه من أهل البيت، وأنه المهدي المنتظر واجتمع معه كثير من الناس واعتصم بمدينة شنتمرية الشرق، وكلما خرج له الأمير أو بعث له بجيش يفر إلى الجبال حتى طال أمره ما يربو على 10 سنوات كاملة، حتى استطاع الداخل أخيرًا أن ينتصر عليه من مدخل الخيانة.
فدفع أقرب الناس إليه لقتله وانتهت بذلك فتنة الفاطمي التي كادت تودي بدولة الأمويين في الغرب. وأما الثانية فكانت خروج والي برشلونة «سليمان بن يقظان الأعرابي» ومعه «الحسين بن سعيد الأنصاري» والي سرقسطة، واتصالهما بإمبراطور الإفرنج «شارلمان» الذي خرج من باريس قاصدًا الأندلس ومستغلًا انشغال الداخل بقتال الداعية الفاطمي، ولكن اختلف الحلفاء فوقعت الهزيمة على شارلمان الذي تمزقت مؤخرة جيشه تمامًا.
صقر قريش
استمر عبد الرحمن إذن في الحكم حوالي ثلاثة وثلاثين عامًا، أسس فيها دولة ضخمة قوية وأسس لها جيشها القوي، ووضع كذلك نظام حكم واضح على رأسه الأمير ثم الحاجب، يليهما الوزراء والقضاة، وأنشأ أكبر مساجد الغرب في قرطبة، فجعلها عاصمة للعلم تنافس عاصمة المنصور بغداد، وهكذا أخرج الداخل صراع الأمويين والعباسيين من الدم والسيف إلى العلم والمعرفة والفنون.
بكل ذلك الذي فعله الداخل في الأندلس من إخضاع ثوراتها وردع قبائلها وتأسيس دولتها استحق ما قاله فيه عدوه اللدود الخليفة أبو جعفر المنصور، حينما سأل مستشاريه عمن يستحق أن يُلقّب بـ«صقر قريش» من الملوك؟
حاول البعض تملُّقه فوبّخهم. فقال البعض: «أمعاوية بن أبي سفيان؟»، قال: «لا». قال آخرون: «أهو عبد الملك بن مروان؟»، فقال: «لا». فسألوه: «فمن هو إذن؟» قال:
وهكذا ختم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام حياته بتأسيس دولة دامت أكثر من دولة أجداده بأكثر من القرنين من الزمان، مثبتًا أن العزم والحزم والرغبة والطموح لن يخذلوا صاحبهم مهما كان، ومؤكدًا لكل شخص دائمًا أن يرى ما يريد.