السياسة الأمنية ومستقبل الجيش الاتحادي الألماني
مراجعة علميّة للكتاب الألماني الأبيض حول السياسة الأمنية ومستقبل الجيش الاتحادي الألماني. وقد أعد هذه المراجعة الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي. وكان هذا التقرير قد نشرته الحكومة الألمانية سنة 2016 تحت عنوان: «White Paper on German Security Policy and the Future of the Bundeswehr».
وقد شارك في وضع التقرير خبراء ألمان كبار، وهو يحدّد مستقبل السياسة الألمانية الأمنية والدفاعية. ويمثل أحد أهم الوثائق التي تعزز التوجه الألماني للقيام بدور ريادي أوروبيًا وعالميًا، مما يستدعي التمعن في دلالات هذا التقرير من خلال هذه المراجعة، لا سيّما من زاوية انعكاسه على المنطقة العربية بشكل عام، وبالتالي على الموضوع الفلسطيني بشكل خاص.
منذ إعادة توحيد ألمانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، تزايدت في الأدبيات السياسية الألمانية مشاعر الإحساس بأن البيئة الدولية الجديدة تفترض إعادة النظر في الدور الألماني على مستويين، هما الدور الإقليمي (في أوروبا) من ناحية، والدور الدولي (مع إيلاء أهمية كبيرة للسياسة الروسية من ناحية وللجوار القريب لأوروبا خصوصًا جنوب وشرق البحر المتوسط والذي يقع معظمه في النطاق العربي) من ناحية ثانية.
وتستند هذه الأدبيات في توصيف هذا المنحى الألماني إلى أن ألمانيا هي الأكبر سكانًا في أوروبا (نحو 81 مليون نسمة)، وهي الدولة التي تحتل المركز الرابع في حجم الناتج المحلي (قرابة 3.8 تريليون دولار)، مما يفرض عليها مسئولية أوروبية ومسئولية عالمية للقيام بدور قيادي، كما تشير لذلك وزيرة الدفاع الألمانية Ursula von der Leyen في تقديمها للتقرير الإستراتيجي الموسوم «White Paper on German Security Policy and the Future of the Bundeswehr» الصادر سنة 2016، والذي يحدد مستقبل السياسة الألمانية الأمنية والدفاعية، والذي شارك في وضعه خبراء من ألمانيا وخارجها، ومواطنون من المهتمين بالموضوع، ويمثل التقرير أحد الوثائق التي تعزز هذا التوجه الألماني، مما يستدعي التمعن في دلالات هذا التقرير لا سيّما من زاوية انعكاسه على المنطقة العربية بشكل عام، وبالتالي على الموضوع الفلسطيني بشكل خاص.
التوجهات الاستراتيجية لألمانيا
يحدد التقرير ثلاثة محاور مركزية للسياسة الدفاعية الألمانية، هي:
- الاتحاد الأوروبي: يؤكد التقرير الأهمية الإستراتيجية لتطوير وتعزيز بنية ومؤسسات الاتحاد في كل النواحي، وصولًا لصياغة سياسة دفاعية مشتركة لأوروبا. وتمثل العلاقة الفرنسية الألمانية الركيزة الأهم في مجال تحقيق هذا الهدف، وتمثل نزعة تحقيق دفاع أوروبي مشترك أو ما يسمى «أَوْرَبة» السياسة الدفاعية Europeanisation مَلْمَحًا واضحًا في السياسة الألمانية منذ اتفاقية ماستريخت 1992. ونشر «الكتاب الأبيض» الألماني الأول سنة 2006، والسعي للوصول بهذه المسألة إلى مرحلة «السياسة الدفاعية الأوروبية الموحدة»، والتي يمثل اللواء الفرنسي الألماني فيها نواة لهذا الطموح.
- الحفاظ على دور حلف الناتو في مجالين رئيسيين هما كبح الطموحات الروسية من خلال «الردع من ناحية، والتعاون الذي جرى الاتفاق عليه مع روسيا منذ 1997 من ناحية ثانية»، ثم لجم آثار الاضطراب السياسي في الجوار الجنوبي لأوروبا (خصوصًا جوانب الإرهاب، والهجرة، والتأثير على طرق التجارة ونقل المواد الخام من وإلى أوروبا، بالإضافة إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل، وزيادة الإنفاق الدفاعي، والتحدي المناخي، والأوبئة، والهجرة غير المنظمة وغير المسيطر عليها (على الرغم من أن التقرير يرى أن هذه المشكلة الأخيرة لا تشكل خطرًا على ألمانيا، بل هي في حاجة لها لتعويض المجتمع الألماني الهَرِم).
- ولإنجاز المهمتين السابقتين يفترض التقرير ضرورة تطوير القوة العسكرية الألمانية (نحو ربع مليون فرد) تقنيًا وتدريبًا وموارد مالية، مع تحديد طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية التي تخدم هذه الجوانب، وبين المؤسسات السياسية والمدنية والمجتمع في ألمانيا.
وتستند الرؤية الألمانية في تحديدها لهذه المحاور إلى رؤية أخرى ترى أن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية باتجاه تعددية قطبية نتيجة انتشار مقومات القوة عالميًا، والجدل حول النظام الأورو-أطلسي، والضغوط على مشروع الاتحاد الأوروبي، وانعكاسات المشاكل المتعلقة بالإرهاب الدولي، وتحديات الفضاء الإلكتروني، والحروب الدولية، ومشكلات الدول الفاشلة.
ويرسم التقرير ملامح الواقع الدولي الذي ستنعكس آثاره على ألمانيا عبر عدد من النقاط:
- لن تتمكن ألمانيا من الاحتفاظ بموقعها كرابع قوة اقتصادية في العالم، حيث إن القوى الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية ستزاحمها في حجم الناتج المحلي في السنين القادمة، وتكفي الإشارة إلى الموقع المستقبلي لكل من الصين والهند، حيث تمتلك الأولى خمس الناتج المحلي العالمي بينما تمتلك الثانية نحو سدسه.
- إدراك محركات التغيير في النظام الدولي والمتمثلة في العولمة والترابط الإلكتروني والمعلوماتية بما لها من فوائد وتحديات، إلى جانب التحولات الديموجغرافية خصوصًا ظاهرة المدينية urbanization والتحديات لمكانة الدولة كوحدة لتفاعلات النظام الدولي، وانتشار الفساد والاستبداد.
- الإنفاق العسكري العالمي، ففي الوقت الذي جرى فيه تخفيض نسبة الإنفاق الدفاعي الألماني من إجمالي الناتج المحلي منذ 1990 إلى النصف، فإن عددًا من الدول الأوروبية خفضت من عدد القوات بسبب الديون، لكن عددًا من الدول الكبرى زادت بالمقابل من هذا الإنفاق، فالصين تنفق عسكريًا ما يساوي تقريبًا مجموع ما تنفقه دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، لذا فإن التقرير يشير إلى ضرورة التزام أوروبا برفع إنفاقها العسكري بحدود 2% طبقًا لاتفاق قمة الناتو في ويلز سنة 2014 (النسبة الألمانية حالياً هي 1.19%)[2].
- تزايد النزعة الإقليمية في التكتلات الدولية يؤذن بتغير بنية النظام الدولي الحالي.
- ستستمر الولايات المتحدة في مطالبة الشركاء في تحمل أعباء أكثر في حلف الناتو، وهو أمر ستتم الاستجابة له -حسب التقرير- شريطة أن تقبل الولايات المتحدة بدور أكبر لأوروبا في صنع القرار عبر الأطلسي.
- على الرغم من التحدي الروسي وطموحات روسيا العالمية، فمن غير الممكن ضمان مصالح أوروبا دون التعاون مع روسيا.
السيناريوهات المحتملة لانعكاس مضمون التقرير على الموضوع الفلسطيني والعربي
يؤكد التقرير في سياق توصيف التوجهات العامة لألمانيا على «العلاقة الوثيقة مع إسرائيل وتأييد حقها في الوجود، والذي يمثل عنصرًا ثابتًا في السياسة الألمانية»، بينما خلا التقرير تمامًا من أيّ إشارة إلى القضية الفلسطينية، أو المؤسسات الفلسطينية، أو الصراع العربي الصهيوني بشكل عام، وغلب على التقرير لا سيّما في معالجته لمشكلات الجوار الجنوبي لأوروبا موضوعات مثل «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، ومحاولات تمددها في شمال أفريقيا، وظاهرة الدول الفاشلة (بسبب الاستبداد وفقر الحاكمية، والضعف البنيوي ونقص الخدمات، والفساد وسوء توزيع الموارد، والبطالة بين الشباب)، والتي انتهت إلى اضطرابات سياسية وتنافس بين القوى الإقليمية على أسس عرقية ومذهبية وقومية، بشكل ينعكس سلبًا على الأمن الدولي بشكل عام والأمن الأوروبي بشكل خاص». وهي مظاهر يرى التقرير أنها ستتسع في المستقبل بسبب الزيادة السكانية ونضوب الموارد الطبيعية.
وفي ظلّ هذه البيئة الشرق أوسطية فإن الهدف الرئيسي لألمانيا هو لجم كل آثار هذا الاضطراب والحيلولة دون انعكاسها على المصالح الألمانية بشكل خاص والأوروبية بشكل عام، من خلال هدفين حددتهما ميركل في مقدمة التقرير؛ تقوية الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي وقيام شركاء ألمانيا في الأقاليم الأخرى بدورهم وحلّ مشاكلهم بأنفسهم.
لكن التقرير ينطوي على إشارات نحو نزعة «أكثر تدخلية» -قد تكون عسكرية أحيانًا- في الشأن الداخلي لدول الشرق الأوسط، من خلال الإشارة تحديدًا إلى «تعزيز النظم السياسية الشرعية في الأقاليم المتأثرة بعدم الاستقرار، من خلال الاستشعار والوقاية من تداعيات فشل دول الجوار، عبر تعبئة الأدوات الأمنية والتنموية الخارجية في المناطق المضطربة».
كما يشير التقرير إلى توظيف آلية الحصار الاقتصادي وتعزيز دور القضاء الجنائي الدولي، وستعمل ألمانيا لتحقيق هذه الأهداف من خلال الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي والشراكات المتعددة والثنائية خصوصًا مع دول الجوار الجنوبي (مع ملاحظة غياب الإشارة للجامعة العربية).
والغريب أن التقرير يدعو لتوسيع مفهوم الأمن الذي ترعاه الأمم المتحدة ليشمل حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والحفاظ على السلام وبنائه، والفقر، والجوع، والتهريب، والبيئة، بينما يغيب عن هذا المفهوم كليًا موضوع الاحتلال (في الوقت الذي حضر فيه مفهوم الأمن الإسرائيلي في التقرير).
وعلى الرغم من أن التقرير يؤكد أن ألمانيا ما تزال ملتزمة بفكرة عالم خال من السلاح النووي التي تبنتها سنة2010، لكنها تتغاضى عن أن دولة في الجوار الشرق أوسطي القريب لأوروبا، وهي إسرائيل، تمتلك هذا السلاح.
التوجهات الألمانية المستقبلية في الموضوع الفلسطيني
من الضروري إدراك الهوة بين توجهات الحكومة الألمانية وبين توجهات المجتمع الألماني تجاه الموضوع الفلسطيني، إذ تدل استطلاعات الرأي الأخيرة في المجتمع الألماني على أن صورة إسرائيل هي صورة سلبية بنسبة77%، مقابل 10% من الرأي العام الألماني له نظرة إيجابية تجاه إسرائيل [3].
ولعل ذلك يستدعي إيلاء وسائل الإعلام والديبلوماسية الفلسطينية مزيدًا من العناية لهذه الظاهرة، ولا بدّ من أن تتخذ التنظيمات الفلسطينية مواقف واضحة وعلنية بشجب العمليات الإرهابية التي تحدث في المجتمعات الأوروبية نظرًا لانعكاسات هذه العمليات على مواقف المواطن الأوروبي، وتتعزز هذه الصورة بنتائج تقرير لجنة ألمانية إسرائيلية مشتركة التي راجعت الكتب المدرسية (نشرت أول تقاريرها منذ1985 وتابعت نشرها حتى 2015)، وتبين للجنة أن السمة العامة لإسرائيل في هذه الكتب المدرسية هي صورة سلبية، وهو ما يستوجب من الطرف الفلسطيني تعزيز الصلات مع الجهات التربوية الألمانية لتوفير الوثائق والتقارير التي تعزز هذه الصورة [4]. خصوصًا أن هناك أربعة ملايين مسلم في ألمانيا يمكن التواصل معهم في هذا الاتجاه [5].
طبقًا لما تضمنه التقرير الدفاعي الألماني، فإن السياسة الألمانية تتجه نحو مزيد من الانخراط في السياسات الشرق أوسطية، ولعل قيام ألمانيا بتقديم أسلحة وتدريب للبشمركة في شمال العراق منذ2014 بموافقة البرلمان الألماني هو مؤشر على ذلك [6].
وهو ما يتسق مع انخراط ألماني متواضع في بعض المجالات الشرق أوسطية مثل القيام بأدوار الوساطة في تبادل الأسرى بين قوى عربية وإسرائيل، كما أنها كانت ضمن فريق5+1 الذي أنجز الاتفاق النووي مع إيران، لكنها ليست ضمن اللجنة الرباعية المكلفة بتسوية الصراع العربي الصهيوني، على الرغم من أنها ممثلة من خلال مندوب الاتحاد الأوروبي في اللجنة.
تشير المعطيات العامة الخاصة بالوضع الاقتصادي الألماني إلى أن هذا الاقتصاد يعاني من أعباء الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي ومن التوجه نحو زيادة نفقات الدفاع (كما ورد سابقًا)، وهو المطلب الذي يلح عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالإضافة إلى الأعباء الناتجة عن استمرار تدفق المهاجرين، حيث بلغ عددهم خلال2015–2016 قرابة مليون و400 ألف فرد [7]، مع تواضع مستوى النمو الاقتصادي (1.9% سنة 2016). كما أن هناك انتخابات برلمانية في ألمانيا أيلول/ سبتمبر 2017 تشير لاحتمال تنامي اليمين [8]، كل ذلك يوحي بأن احتمالات المساعدات الألمانية للفلسطينيين قد تشهد بعض التراجع أو أن تكون أقل من الطموح الفلسطيني.
على الرغم من معارضة السياسة الألمانية للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة سنة1967، فإن تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الجهود الديبلوماسية والسياسات العربية سيجعل ألمانيا، شأنها شأن بقية الدول الأوربية، أقل عناية بالموضوع الفلسطيني إلا بمقدار ارتباطه بالموضوعات التي سبقت الإشارة لها في التقرير.
[1]أستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة اليرموك في الأردن، وهو عضو مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن. عمل في عدد من الجامعات العربية، وشغل منصب رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك بالأردن.[2]Kimberly Marten, Reducing Tensions between Russia and NATO, Council Special Report No. 79 (Council on Foreign Relations, March 2017), p. 25.[3] See http://www.globescan.com/news_archives/bbccntryview/backgrounder.html[4]See http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4706417,00.html [5]Christian P. Hanelt, “The International response to crisis in the Middle East: A German Approach,” Newpolitik, site of Bertelsmann Foundation, p. 5.[6]Ibid., p. 2. [7]See http://www.dw.com/en/germany-marks-steep-drop-in-migrant-arrivals/a-19388287[8]Kimberly Marten, op. cit., p. 5