العلمانية: محور الصراع الحقيقي في الشرق الأوسط
يتميز العالم الحديث بصدام أيديولوجي نحن متورطون فيه، سواء كمساهمين أو ضحايا.[1] ولكي نفهم العالم فهمًا صحيحًا لا بد أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم، وأن نعرف معانيها.[2]
وثمة مواقف تبرهن أن «الدين» هو المادة الخام لهذا الصدام الأيديولوجي بين الشرق والغرب، وأنه المصدر الحقيقي للأفكار التي تحكم حركة الأحداث في الشرق الأوسط، ومن بعده قل ما شئت عن المصالح اقتصادية كانت أم سياسية، حيث يقول الجنرال والمفكر الإنجليزي «جلوب باشا» الذي تولى قيادة الجيش الأردني من 1939 حتى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956: «إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط إنما يعود إلى القرن السابع الميلادي».[3] أي أن بداية الصراع الدائر في بلادنا تعود إلى ظهور الإسلام.
وكان هذا الصراع قديمًا بين الملوك والأباطرة، ثم بين الشعوب، ثم بين الأيديولوجيات، ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة سينشب الصراع بين الحضارات مع حلول النظام العالمي الجديد، فما يهم الناس ليس الأيديولوجية أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان، والأسرة، والدم، والعقيدة، فذلك ما يجمع الناس، وما يحاربون من أجله ويموتون في سبيله.[4]
ومن هنا كان الدين هو خط التماس الذي تدور حوله الأحداث في هذه المنطقة من العالم.
ففي يوليو/تموز 1990، سُئل «جياني ديميكلس» رئيس المجلس الأوروبي، والمتحدث باسم حلف شمال الأطلنطي (الناتو): ما مبررات بقاء حلف الناتو بعد زوال المواجهة بين الغرب الليبرالي والمعسكر الذي كان اشتراكيًّا؟
فأجاب: صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة، إلا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن تحل محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي.
فلما عاد مراسل «النيوزويك» الأمريكية ليسأل: وكيف يمكن تجنب هذه المواجهة المحتملة؟
قال ديميكلس: إن المطلوب لتجنب المواجهة مع العالم الإسلامي هو قبول العالم الإسلامي للنموذج الغربي.[5]
لتجنب المواجهة
إذن فما هو ذاك النموذج الذي على العالم الإسلامي قبوله لإنهاء الصراع وتجنب المواجهة؟
يجيب على هذا السؤال الفيلسوف السياسي الأمريكي «فرانسيس فوكوياما» قائلًا: «إن الحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية والديمقراطيات المتطورة تبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية، وإن المؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب الأساسية ستستمر في الانتشار عبر العالم. وإن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي لديها مشاكل أساسية مع الحداثة، فالحركات الأصولية الإسلامية لا ترفض السياسات الغربية فحسب، إنما المبدأ الأكثر أساسية للحداثة، وهو العلمانية نفسها. وإن المسألة ليست ببساطة حربًا على الإرهاب، وليست المسألة الحقيقية هي السياسات الخارجية الأمريكية في فلسطين أو العراق، ولكن الصراع الأساسي الذي نواجه أوسع من ذلك بكثير، إنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي تقف ضد الحداثة الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية. وهذا هو التحدي الأيديولوجي الذي يمثل في بعض جوانبه تحديًا أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية».[6]
وهذا يعني أن قبولنا لـ «العلمانية» هو السبيل لتجنب المواجهة. ولكن أي علمانية؟
إذا كانت أوروبا التي تخلصت من التسلط البابوي، ومن صكوك الغفران، لم تنفصل عن الدين بشكل نهائي كامل، حيث لا زال الدين حاضرًا وفاعلًا أساسيًّا في سياسات أوروبا تجاه العالم الإسلامي، فالمفكر الأمريكي «صامويل هنتنجتون» يقول: «إن الدين محوري في العالم الحديث، وربما كان القوة المركزية التي تحرك البشر وتحشدهم».[7]
وهذا جعل الكاتب «كارلوس لوزادا» يقول في «واشنطن بوست» إن: «صموئيل هنتنجتون هو نبيٌّ لعصر ترامب».
كما أن «إدوارد سعيد» يحدد طبيعة الاستشراق في الوقت الحاضر بقوله: «قد أخذ الاستشراق المعاصر على عاتقه مهمة العداء أو الخصومة الثقافية مع القوى المناوئة للفكرة الأمريكية»، وعلى رأس هذه القوى كما حددها الشيوعية والإسلام، أما وأن الشيوعية اليوم قد انتحرت أو اندحرت، فإن الإسلام قد بقي وحده ليمارس معه الاستشراق المعاصر ذلك العداء أو الخصومة.[8]
ولو طبقنا ما طرحناه على تركيا كنموذج حي وواقعي لقبول العالم الإسلامي للنموذج الغربي الذي أشار إليه جياني ديميكلس وحدده فوكوياما -فيما ذكرناه آنفًا- فسنجد أن:
آخر عاصمة للخلافة الإسلامية قد ألغت مبدأ أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وأدرجت «العلمانية» وصفًا لهوية الجمهورية التركية، إلا أن ذلك لم يشفع لها لفتح باب عضوية الاتحاد الأوروبي الذي تطرقه منذ 1959، وهذا يعود للدور الذي يلعبه «الدين» في قرارات الساسة الأوروبيين، فقد كشف تقرير المفوضية الأوروبية الصادر في ديسمبر/كانون الأول 1989، صراحة ودون مواربة أن البعد الثقافي والمعتقد الديني هما السببان الأساسيان وراء عدم فتح أوروبا باب اتحادها لتركيا، حيث كشف التقرير أن الدول الأوروبية تجد صعوبة حقيقية في إمكانية دمج دولة مسلمة ذات كثافة سكانية هائلة، وسط مجتمع أوروبا المسيحي، الذي يختلف في مفاهيمه الثقافية ومنطلقاته الدينية اختلافًا جذريًّا عما يعتنقه الأتراك، وهو أمر لا يمكن التغاضي عنه.
ولذا سنكون مخطئين، ولو قلنا إن مرادف العلمانية المتداول بفصل الدين عن الدولة، هو النموذج الذي على العالم الإسلامي قبوله لتجنب المواجهة.
العلمنة محور الصراع
إنما المطلوب هو إلحاق العلمنة بالإنسان وبالتالي المجتمع وليس الدولة.
فهناك فقط ثلاث وجهات من النظر متكاملة عن العالم، هي: النظرة الدينية، والنظرة المادية، والنظرة الإسلامية، وهذه الوجهات الثلاث من النظر تعكس ثلاث إمكانات مبدئية، هي: الضمير، والطبيعة، الإنسان، وتتمثل كل منها على التوالي في المسيحية، والمادية، والإسلام، وسنجد أن جميع الأيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم في التحليل النهائي يمكن إرجاعها إلى واحدة من هذه النظرات الثلاث العالمية الأساسية، تأخذ الأولى –النظرة الدينية- نقطة بداية الروح، والثانية وجود المادة، والثالثة الوجود المتزامن للروح والمادة معًا.[9]
والغرب قد تجاوز وجهة النظرة الأولى لتفسير العالم وهي المسيحية، إلى وجهة النظر الثانية وهي المادية، حتى وصل إلى تأليه المادة، عبر تبشير نيتشه بـ «الإنسان الأعلى» أي الإنسان المتحرر بالكامل من الأخلاق والأديان، حتى قال نيتشه: «تخلص من الضمير والشفقة والرحمة، اقهر الضعفـاء، اصعد فوق جثثهم، هكذا تكون ابن الطبيعة».[10]
بينما تجلى هذا فيما أُطلق عليه «إنسان ذو بعد واحد»، وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية، وإذا كان هذا الإنسان يتوهم أنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية حاجاته، فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته.[11]
فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سياراتهم وجهازهم التلفزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات طبخهم الحديثة.[12]
إذن فالنموذج الذي علينا قبوله لتجنب المواجهة والصدام هو «العلمنة»، ولكن بمفهومها الشامل ذي النكهة الغربية، فهي «ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت أو هذه القيمة عن الدولة أو عما يسمى الحياة العامة، إنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس عن العالم، ويصبح الإنسان هو مركز الكون دون أي استخلاف من الإله، وهذا يعني أن يفقد إنسانيته المركبة وتُنزع عنه القداسة تمامًا، والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه، يقف وراء الخير والشر متمركزًا حول منفعته ولذته، ولا راد لقضائه أو لرغبته في القضاء، وهو لا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية أو أبعاد نهائية. لكل هذا أصبح الإنسان كائنًا غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته ومنفعته ولذته المادية وبقائه المادي».[13]
والإنسان الأعلى أو الإنسان ذو البعد الواحد، الذي يعد منتجًا بشريًّا للعلمنة الأوروبية، يتضاد تضادًّا لغويًّا ومنطقيًّا مع النظرة الثالثة لتفسير العالم وهي النظرة الإسلامية، لأن الإسلام «وحدة ثنائية القطب».[14]
فليست وسطية الإسلام في التشريع فقط، وإنما في الجمع بين الازدواجية الإنسانية، بين الروح والمادة، «فالإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهو الصيغة الأسمى للإنسان نفسه، إن الحياة الإنسانية تكتمل فقط عندما تشتمل على كل من الرغبات الحسية، والأشواق الروحية للكائن البشري، وترجع كل الإخفاقات الإنسانية لإنكار الدين الاحتياجات البيولوجية للإنسان، أو لإنكار المذهب المادي لتطلعات الإنسان الروحية».[15]
ونتيجة هذا التضاد الكامن في ماهية الإسلام بوصفه دين الفطرة الإنسانية، نجد أنفسنا في صدام -فإذا كانت الصين تصطدم بالغرب اقتصاديًّا وسياسيًّا في المقام الأول- فإننا متورطون في صدام أيديولوجي مع الغرب، الدين هو مصدره الأول، قبل السياسة والاقتصاد وفقًا لجلوب باشا وجياني ديميكلس وصامويل هنتنجتنون.
ونحن متورطون كـ «مساهمين» بجهلنا للمصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا الصدام، وبسوء فهمنا أو عدمه لمعاني الأفكار التي تحركه، بقصر معنى العلمنة الغربية التي تمثل منتجًا حداثيًّا عند فوكوياما، على «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، بينما معناها مضاد لروح الإنسان، تلك اللمسة الإلهية التي نفخها سبحانه وتعالى من روحه في الإنسان المخلوق من طين.
ومتورطون أيضًا في هذا الصدام كـ «ضحايا» فنظرة واحدة إلى خريطة العالم الإسلامي تكفي لندرك أن صورة المسلم الآن تُجسِّد ذلك الإنسان المُعذَّب في الأرض.
- علي عزت بيجوفيتش، “الإسلام بين الشرق والغرب”، بيروت، مؤسسة العلم الحديث، 1994، ص 27.
- المصدر السابق، ص 17.
- محمد عمارة، “الإسلام بعيون غربية”، القاهرة، دار الشروق، 2005، ص 62.
- صامويل هنتجتون، “صدام الحضارات”، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013، ص 10.
- محمد عمارة، “الإسلام بعيون غربية”، القاهرة، مرجع سبق ذكره، ص ص 53-54.
- المرجع السابق، ص ص 49-50.
- صامويل هنتجتون، “صدام الحضارات”، مرجع سبق ذكره، ص 10.
- محمد السيد الجليند ومحمد عبدالله الشرقاوي، “دراسات في الفكر الإسلامي المعاصر، القاهرة، دار الثقافة العربية، ص ص 14-15.
- علي عزت بيجوفيتش، “الإسلام بين الشرق والغرب”، مرجع سبق ذكره، ص 27.
- المرجع السابق، ص 195.
- هربرت ماركوز، “الإنسان ذو البعد الواحد”، بيروت، دار الآداب، الطبعة الثالثة، 1988.
- المصدر السابق، ص 45.
- عبد الوهاب المسيري، “الفلسفة المادية”، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية، ص ص 105-106.
- صامويل هنتجتون، “صدام الحضارات”، مرجع سبق ذكره.
- المرجع السابق، ص ص 27-28.