أسرار «كنوت هامسون»: مائة وجه للحقيقة
ليست رواية «أسرار» لـ«هامسون» بالرواية التى تعتمد على غرابة الأطوار كما توحى صفحاتها الأولى، فبرغم البدلة الصفراء فاقعة اللون للبطل نيجل، وكونه الغريب الذى حل على البلدة من البحر كى يملأها بقصصه واستطراداته فى علاقاته الملتحمة والفريدة التي كونها مع أفراد أهل البلدة الخاملين _كما يراههم أحيانا_ تحمل رواية أسرار أسئلة عديدة للقارئ عن نفسه، وتحليلا ذكيا وطريفا لدوافع النفس البشرية.
كان «هامسن» نفسه يحب وصفه بالأرستقراطية العقلية، وكان مدركا لاتقاده الذهنى، هذا الذكاء لم يجعل من نصوص هامسون معادلات حسابية، بل نص أدبى متفجر يلمح دقائق التفاصيل ويحملها فى النص فى شاعرية رقيقة لها مذاق خاص، مزجه هامسون فى الأغلب بالتخيلات الشعرية، أحلام اليقظة الموزونة التى تأخذ ما أسماه «الحياة اللاوعية للعقل». وما بين نوع من الرومانتيكية غير المفرطة للطبيعة وللغابة، وتحليلا انسيابيا لدقائق النفس البشرية، وما يعنيه التفرد ورفض الكتل الاجتماعية والسياسية، تنساب رواية «أسرار» فى نسيج أدبى ممتع، يحترم ذهن القارئ، ويضع حجته دون فرض أو مغالاة.
بحيث يترك شعورا فى القارىء بعد الصفحة الأخيرة بـ (ما هذا الذى قرأته للتو؟) وتعود للصفحة الأولى كى تكون حذرا مع استطرادات البطل هذه المرة وتأخذها محمل الجدية. لـ «أسرار» تفسيرات عديدة، لكن يظل لها نصيب من اسمها، الرواية حققت غرضها كاملا، برغم ذلك لا تعرف بدايتها أو نهايتها أو ما يحدث فيها.
يراوغ «نيجل»، بطل الرواية، كثيرا وعندما ينتهى من مراوغته يكشفها دون خجل، وأغلب حيله العقلية يفردها على المنضدة أمام من يتحايل عليه، بحيث يبدو أن الهدف العام لنيجل ليس مكسبا شخصيا أو عاما، بل هو فقط يريد توسيع النشاط العقلى ودفع الحدود بعيدا، هو يريد نسخة أخرى من الآدميين، ويختلط حبه لهم بازدرائه، وفى وسط تلاعبه بهم وشفقته عليهم، وتحت الضغط الذى تسببه تزاحم الأفكار فى رأسه، يتحول نيجل فى معاملاته من قديس إلى جلاد، إلى قديس من جديد، بحيث لا يعرف القارئ ماهيته، ولكن وكما يشعر أغلب الشخصيات نحوه فى الرواية، فإن القارئ يشعر بالإشفاق، التعجب، وأحيانا الإعجاب نحوه.
هل لنيجل أغراض يود تحقيقها؟ ربما، لكنها أغراض مرنة ومتغيرة، ومن أول الرواية لآخرها، بالرغم من مكره، الذى ليس مكرا، وسوادويته، التى تنفك بضحكة أو ضحكتين ثم لا تلبث أن تتحول لهوسٍ فرحا، فإنه ليس لديه مخططا ثابتا لبلبة البلدة الصغيرة، ولكنه كان يفعل. بالرغم من مهاجمته على مر صفحات الرواية للتراتبيات الهرمية، والطرق القائمة بتقاليدها واجتماعياتها، إلا أنه لا يهاجمها كثيرا، ويعرض رأيه ببساطه، ويصر على أنه هو ما هو عليه، مركزا على أنه لا يود مضايقة أحد، لا يتبنى موقفا تمرديا، إلا أن امتزاجه ودخوله فى النسيج الاجتماعى لمجتمع البلدة الصغيرة على الساحل ملفتا ومثيرا للإعجاب.
يعرض الكثير من الأفكار الجريئة ويستطرد فى وصف أحلام اليقظة، التى يترجونه لسماعها، بطريقة عابرة ومفترضة، لا تثير انزعاج أحد، إنما التعجب والإنبهار. منها المركب الأبيض الصغير ذو الشراع الفضى الذى يسبح فى زرقة السماء وبالإمكان الاستلقاء فيه بسلام تام، تلك الصورة التى أسرت لب حبيبته «كيلاند» وكانت تتخيل نفسها فيه.
كثيرا ما يتحدث «نيجل» بافتراضات خيالية عن حقائق حدثت فعليا له، وكثيرا ما يحكي الأكاذيب عن نفسه، ليس بالضرورة للتعظيم، فهو ينفى عن نفسه أى مجد أو زهو أمام حبيبته كيلاند، بطريقة كانت تثير غيظها وغضبها منه. ما الدافع وراء «نيجل»، ما الذى يريده بالضبط؟ كلما ظن القارىء أنه يعرف تنقلب عليه الصفحات بأسرار أخرى، وفى النهاية لا يفضى هذا كله لشىء.
ويمكننا هنا أن نشيد بعقلية وبراعة «هامسون»، لأن النص ليس ضبابيا أو مهلهلا بالمرة. بل أنه يأخذ بتيار الوعى الذى سلكته «فرجينيا وولف» و«بروست» إلى خطوة عظيمة للأمام، آخذنا معه إلى صلب الحياة غير الواعية للعقل التى تحدث عنها، بحيث تشعر أن كل شىء ممنطقا وحقيقيا، وتفاعليا، بالرغم من أنه لا يمكن تفسيره أو شرحه فى الواقع. ويمكن القول أن هامسون ابتكر تيارا للوعى خاصا به، فأسلوبه ليس موجات تلي بعضها بعضا أو طريقا يأخذك للبحث عن زمن ضائع فى الذاكرة، بل نص هامسن بالرغم من عذوبته وشاعريته الشديدة، نص مرح وتفاعلى، بحيث لا تشعر بالملل ولا يهم لأين تأخذك الكلمات طالما أنت تقرأ.
يبدو البطل مرتاحا تماما فى جنونه الفكرى، ويعرف متى يشط عقله، ولا يمانع ذلك، بل ببساطه يراقب نفسه ويلحظ لا نهائية الاحتمالات والتفاصيل الصغيرة التى ينسجها معا، ويبادر أهل البلدة ممن أصبحوا أصدقاؤه ومعارفة بأغرب الملاحظات والحقائق عن أنفسهم وعن نفسه وعن العالم.
يعكس الحقائق عن نفسه كى يعترف بما يسىء إلى صورته أمام الفتاة التى أحبها. وعندما تتسائل هى بجنون: لماذا تفعل ذلك؟ يجيب بتؤدة وبسيطرة كاملة على النفس: كى أحدث فيك انطباعا آنسة «كيلاند».
يشجع «نيجل» العراك العقلي، حتى أنه يقيم حفلة للسكر يعرض فيها أراؤه كاملة عن الأدباء والمفكرين كـ«تولستوى»، و«هوجو وابسن»، و«موباسان» والكثيرين، فى عراك فكري مع رجال البلدة. ومع أنه يعرض آراؤه بحرارة وغضب نابع من الصميم، إلا أنه يصر على ترطيب الجو، وأن العراك الجيد لا يفسد للود قضية، وفى هذه الحالة «ﻻ يفسد للشرب قضية».
برغم كل استطراداته ووقوعه فى كل الأخطاء الاجتماعية التى يقع فيها غريب عن بلدة صغيرة، إلا أن أهل البلدة يرحبون به، يحبون سماع حكاياته، خصوصا المجالس الخاصة بالطبيب، وفى الحفلة الخيرية التى أقاموها، ظل مشهد الرجل ذو البدلة الصفراء الذى يعزف الكمان هو المشهد الأكثر سلبا للعقول. بالرغم أن «نيجل» منذ بداية الرواية يصر على أنه لا يجيد العزف، ويقول بلا شعور بالذنب أنه يحمل حقيبة كمان خاوية للتفاخر، ولوضع حاجياته فيها لا أكثر. بعد هذه الحادثة من عزفه المفاجىء يكرر نيجل رفضه بصرامة للعزف مرة أخرى، برغم محاولات عدة مختلفة الطريقة والأساليب من مجتمع البلدة، منهم حبيبته كيلاند التى لا يعرف كيف ينالها، وكأنما يصر على الاحتفاظ برمزية هذا المشهد كما هو دون تغيير أو تكرار.
تظل علاقته الغريبة بالقزم على طول الرواية، وفى نهايتها، إعجابه بورعه واستقامته وتيقظه العقلي الذى يستغله القزم فقط لمداراة نفسه والمرور بين الناس بصمت، وإصرار «نيجل» على كشف الجانب السلبي للقزم شديد الاستقامة والورع، ما الذى يريده منه، وأى علاقة للبطل بأى أحداث قتل أو انتحار تمت فى القصة، هذا ما يبقى، برغم قراءة الرواية كاملة، في عداد الأسرار.