سر الأميرة نازلي: رحلة قاسم أمين من احتقار المرأة إلى تحريرها
ربما ظن قارئ/ة العبارات السابقة أنها صادرة عن شخصية «ذكورية» تحتقر المرأة ولا تأبه بحقوقها، لكن حقيقة الأمر أنها صدرت عمن وصفته كتابات المؤرخين لاحقًا بأنه رائد «تحرير المرأة» .. مفكر التنوير «قاسم أمين».
نعم .. كان «قاسم» تقليديًّا، بل رجعيًّا، قبل «تحوله» الفكري، وهذا التوصيف نسبه إليه منتقدوه الذين أصبحوا لاحقًا أصدقاءه المقربين ورفاق دربه على طريق التنوير، حسبما أوردت مذكرات رائدة الحركة النسائية المصرية «هدى شعراوي».
نقلت «هدى»، في مذكراتها، عن الشيخ الأزهري «عبد العزيز البشري»، في كلمة له خلال احتفال بالذكرى العشرين لرحيل «قاسم أمين»، في مايو من العام 1928، أن قاسمًا كان في مبدأ حياته من «الرجعيين»، وهو ما تشهد به عباراته الصادمة، والواردة في كتابه «المصريون»، والتي ظل معظمها خارج نطاق اطلاع قراء العربية لنحو 86 عامًا!
هجوم الدوق الفرنسي داركور
قصة «المصريون» تعود إلى عام 1894 عندما طبعه «قاسم» باللغة الفرنسية ردًّا على كتاب للدوق الفرنسي «داركور» بعنوان «سر تأخر المصريين»، تضمن انتقادات لاذعة للدين الإسلامي، ولواقع المرأة المسلمة عمومًا، والمصرية خصوصًا، في حين تمت طباعته بالعربية عام 1988 بتحقيق الدكتور «محمد عمارة».
ويستنفر «قاسم»، في طوره الفكري الأول، جهده للرد على هجوم الدوق، مدافعًا عن الحجاب بالمطلق، ومعتبرًا أن المجتمع المصري وقتئذٍ لا يشهد «أي تمييز بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالاختلاط»، فما دام محظورًا على الرجال الاختلاط بمجتمع السيدات، فإنه «من الطبيعي أن ينطبق هذا الحظر على النساء» أيضًا، حسبما ورد في كتابه.
ويهاجم «قاسم» أيضًا نموذج تحرير المرأة الأوروبية، وتحدث عن مساوئ الاختلاط في أوروبا، ووصفه بأنه «ينتهي غالبًا بفقدان المرأة لعفتها، وتفريط الرجل في عرضه»، واعتبر أن منظومة الزواج في مصر تجعل المرأة «أكثر سعادة» من تلك «المسكينة» في أوروبا، حسب توصيفه.
ويصف «قاسم» تلك القناعات الأولى نصًّا في فصل «كلام عن الحب»: «إن الزواج عندنا يعتبر بداية بعكس الحال عندهم فإنه يكاد يكون دائمًا نهاية (..) إن خيبة الأمل التي تحس بها الفتاة الأوروبية المسكينة بعد الزواج لا تقارن بالسعادة الحقيقة التي تبديها الزوجة المسلمة عندما تجد في زوجها هذا الاستعداد، إذ تكتشف أن زوجها ليس عنده استعداد للاستقرار والراحة».
وتركز ردود كتاب «المصريون» على انتقاد سلوكيات المجتمع الفرنسي وقيمه بشكل حاد، والإعلاء من قيم المجتمع الإسلامي والعلاقات بين أفراده و«ثبات» مؤسساته الاجتماعية مثل الأسرة، معترفًا في الوقت ذاته بـ «إبهار» النموذج الأوروبي في الجانب المادي من الحضارة.
يقول «قاسم» في كتابه:
الحضارة الغربية، برأي «قاسم» آنذاك، حققت تقدمًا في الاختراعات، لكنها فشلت في «بث الفضيلة» و«أهملت توعية القلوب وهدمت العقائد القديمة، والأخلاق الجميلة التي لم تكن فقط تبهج الحياة، بل كانت أيضًا تهذب الهوى وتكبح الشهوات»، حسب تعبيره.
بل إن «قاسم» يذهب في «المصريون» إلى أبعد من ذلك، متهمًا الأوروبيين بأنهم «ينقلون الرذائل في كل مكان يدخلونه ويتسببون في اختفاء ما يسود مجتمعاتها من قيم المحبة والترابط»، وفي المقابل دافع عن وضع المرأة في المنظومة الاجتماعية المصرية، مدافعًا عن بقاء الحرية الكاملة وغير المقيدة للرجل في الطلاق، وعن الاكتفاء بتعليم المرأة «ما يكفي» لتأديبها وتربيتها.
يقول «قاسم» في هذا الصدد: «أنا نصير متحمس لأخذ المرأة (قدرًا نسبيًّا) من التعليم»، مذكرًا أوروبا بأن «الشرق كان أول صانع لحضارتها»، وأنه هو الذي كونها ونماها وأورثها هذه الثروة الثمينة التي تتمتع بها اليوم، وأن جميع الأفكار الفلسفية والعلمية والدينية لم تنبثق إلا من الشرق.
غير أن أفكار كتاب «المصريون» لم تكن سوى صدى لتلك الواردة في عدة مقالات نشرها «قاسم» بجريدة «المؤيد»، وجميعها ظلت طي النسيان، بسبب عدم جمعها من جانب، وبقاء كتاب المصريون حبيس لغة تأليفه (الفرنسية) دون ترجمته إلى العربية حتى صدور أعمال «قاسم أمين» الكاملة بتحقيق «عمارة»، بعد نحو 80 عامًا من وفاة رائد «تحرير المرأة» و86 عامًا من طباعته الأولى باللغة الفرنسية.
كشف التحقيق عن «ماضي أمين» المطمور، الذي تعبر عنه مقالات صحيفة المؤيد وكتاب «المصريون»، وفي كل تلك الكتابات شن هجومًا على المرأة المصرية، واصفًا إياها بالمتخلفة، ومدافعًا في نفس الوقت عن أوضاعها الاجتماعية القائمة!
فما الذي جرى ليتحول صاحب هذا الفكر إلى رائد يدافع عن «تحرير» نساء مصر، ويدعو إلى نسف المنظومة الاجتماعية السائدة ومركز المرأة منها؟ لا يقدم تحقيق «عمارة» إجابة حاسمة، لكنه يشير إلى «تأثر أمين» بتطور فكري طرأ على صديقه الأستاذ الإمام «محمد عبده».
وإزاء ذلك، يظل السؤال قائمًا، وتبدو إجابته أكثر حضورًا في دراسات حياة «عبده»، ومنها بحث لشيخ الجامع الأزهر الأسبق «مصطفى عبد الرازق» بعنوان: «أثر المرأة في حياة الشيخ محمد عبده».
وهنا يبرز اسم «نازلي فاضل»، حفيدة مؤسس مصر الحديثة «محمد علي»، كإجابة للسؤال المطروح، فهي صاحبة الفضل في التأثير في فكر «عبده» ثم «تثوير» التوجه الفكري لـ «قاسم أمين»، وإن ظل منهجه في إحداث التغيير إصلاحيًّا، وهو ما يبدو واضحًا من مقارنة الأفكار الواردة في كتاب «المصريون» ونظيرتها في كتاب «قاسم أمين» الأشهر «تحرير المرأة».
انتماء مصري ونشأة أوروبية
ولدت الأميرة «نازلي» عام 1853م، ووالدها هو «مصطفى فاضل» باشا، الابن الأكبر لـ «إبراهيم» باشا، والذي كان سيخلفه لولا اتفاق بين الخديوي «إسماعيل» مع الباب العالي لتنصيبه بدلًا من أخيه، ما أشعل صراعًا على السلطة انتهى لصالح «إسماعيل»، ما تسبب في مغادرة «مصطفى فاضل» وأسرته من مصر إلى فرنسا، ولم يعد إلا بعد وفاة الخديوي «إسماعيل».
وانضم «فاضل» في فرنسا إلى معارضي السلطان العثماني «عبد العزيز»، الذي انحاز لـ «إسماعيل» ضده، وظلت ابنته «نازلي» في هذه الحقبة تتعلم وتتقن اللغات، وسط أجواء ملأتها كرهًا للعائلة المالكة، وبالأخص الخديوي «إسماعيل» وأبنائه، حسبما تشير الأستاذة بجامعة المستنصرية في بغداد «وفاء خالد خلف»، في دراستها «الأميرة نازلي فاضل وصالونها الأدبي في مصر».
عندما غادرت «نازلي» مصر كان عمرها 13 عامًا، وتزوجت أحد وزراء الدولة العثمانية، وهو «خليل باشا شريف»، الذي كان سفيرًا في كثير من البلدان، فساعدها سفرها معه على التعرف برجال السياسة، لتعود مجددًا إلى مصر مع أسرتها، ويأمر الخديوي «إسماعيل» بتجهيز «سراى الحصوة»، وهو قصر العباسية، لإقامتها.
لكن هذه الإقامة الثانية في مصر لم تطل، حيث تم تعيين «خليل باشا» وزيرًا للحقانية فى الدولة العثمانية سنة 1876، ثم عين سفيرًا فى باريس سنة 1877، فسافرت الأميرة «نازلي» معه لتبدأ مرحلة هامة فى حياتها، تبلورت فيها مداركها الثقافية، وأجادت لغات عدة، بينها الفرنسية والإنجليزية والعربية، إضافة إلى التركية.
وبعد رحيل والدها عام 1875، عادت الأميرة «نازلي» إلى مصر للمرة الثالثة، وتميزت إقامتها هذه المرة بتصدير أحد أبرز المعالم الثقافية التي شهدتها في باريس، عبر تأسيسها لـ «صالون ثقافي» هو الأول من نوعه في مصر، في قصرها الكائن وراء قصر عابدين آنذاك.
ضم الصالون العديد من المثقفين والسياسيين البارزين، على رأسهم «سعد زغلول» و«أحمد لطفي السيد» و«محمد فريد»، لكن أكثرهم أثرًا من الناحية الفكرية كان الأستاذ الإمام «محمد عبده».
وتعتبر «نازلي» أول أمرأة في مصر تتشبه في زيها بالأجنبيات، وكانت تختلط بالرجال على غير العادة آنذاك، ولا ترتدي الحجاب، الذي كان الزي المتبع في هذه الفترة، شاملًا البرقع والملاءة، بحسب دراسة «وفاء خالد خلف».
خلاصة «حالة» الصالون كانت تحديًا صريحًا للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع المصري آنذاك، ما تسبب في هجوم الكثيرين على الأميرة «نازلي» وانتقادها، بعد أن استطاعت تحطيم الصورة النمطية عن الأميرات وسيدات القصر، ونجحت في تغيير أفكار رجال أضحوا أعلام الفكر ورواد حركة التنوير في مصر، بفضل نقاشاتها معهم داخل صالونها.
ومن هؤلاء الذين تصادمت «نازلي» مع أفكارهم «قاسم أمين»، حيث أبدت غضبًا شديدًا من مقالاته بصحيفة المؤيد وكتابه «المصريون»، وطلبت من صديقها «محمد عبده» أن يدعو قاسمًا لحضور صالونها لمناقشته ومناظرته.
لقاء أميرة التنوير والمفكر الرجعي
عندما التقى مع الأميرة «نازلي»، في صالونها وجد «قاسم أمين» نفسه أمام صورة للمرأة مختلفة جذريًّا عن تلك التي اعتاد عليها، إذ لم ينحصر عمل الأميرة «نازلي» داخل الصالون على تحضير المكان، بل كانت «دينامو» المناقشات ذات الأثر البالغ فيها، والعامل الرئيسي في التنوير الفكري والمعرفي لرواده.
كانت «نازلي» تعرض آراءها بثقة وتثبتها بأسانيد المنطق، وتتفاعل مع ضيوف صالونها فى حوارات رفيعة تديرها بعدة لغات تتحدثها بطلاقة واقتدار، ما أبهر «قاسم أمين» وخلخل قناعاته القديمة.
بدأ «قاسم» في رؤية الأميرة «نازلي» باعتبارها «النموذج» الذي يمكن أن تصل إليه المرأة في الشرق إذا أتيحت لها الفرصة، كما هو حال نظيرتها الغربية، واقتنع أن تخلف المرأة الشرقية كان نتيجة قيود اجتماعية فرضت عليها، وليس لنقص طبيعي فيها، بما يدحض الأفكار الواردة في كتابه «المصريون».
غير أن تطور «قاسم» الفكري لم يختمر إلا بعد 4 سنوات من حضور الصالون، ما يعني انخراطه في مئات المناقشات مع الأميرة «نازلي» وكبار المثقفين.
كانت تلك المناقشات بمثابة البذرة التي بسببها اعتنق «قاسم» مبدأ ضرورة تحطيم الأغلال الاجتماعية بحق النساء، ليسايرن الحياة ونهضتها، فجاء كتابه «تحرير المرأة» دعوة لذلك، وتولت «نازلي» طباعته على نفقتها الخاصة.
لكن كيف تدرج هذا التطور الفكري لـ «قاسم أمين»؟ إجابة السؤال وثيقة الصلة بـ «نجم» الصالون، دون مبالغة .. الأستاذ الإمام «محمد عبده».
حضرة البرنسيسة ذات المقام الأسمى
كان لحراك الأميرة بالغ الأثر في حياة الأستاذ الإمام، إذ استثمرت علاقتها الطيبة بالخديوي «توفيق» لإصدار عفو عن «محمد عبده» الذي كان منفيًّا عن مصر بتهمة دعم الثورة العرابية، كما التمست وساطة المندوب السامي البريطاني، اللورد «كرومر»، للأمر نفسه، وتم المراد وعفا عنه الخديوي.
كما كان للأميرة «نازلي» الفضل في دفع «محمد عبده» نحو دراسة اللغة الفرنسية وآدابها بشكل متعمق لتوسيع مداركه، لتتحول إلى أيقونه في حياته الثقافية، عبر عنها تلميذه «محمد رشيد رضا» في كتابه «تاريخ الإمام»، مشيرًا إلى أن أستاذه كان يصف الأميرة «نازلي» بأنها «حضرة البرنسيسة التي لها من قلبي المنزل الأبهى، والمقام الأسمى».
ولم يكن الإمام وحده هو الذي مثلت له الأميرة «نازلي» هذا النموذج الملهم للمرأة، فقد سرى هذا التأثير لآخرين من كبار مفكري زمانها، ما تسبب بشكل مباشر فى تغيير موقفهم المتخلف من المرأة، وعلى رأسهم «قاسم أمين».
وأثناء دراسته للقانون بفرنسا، ضمن إحدى بعثات «محمد علي» التعليمية، جدَّد «قاسم» صلاته مع «جمال الدين الأفغاني»، ومدرسته، حسبما يشير تحقيق الدكتور «محمد عمارة» لأعمال «قاسم» الكاملة، وكان المترجم الخاص بالإمام «محمد عبده» في باريس، وتوطدت بينهما صداقة، سهلت وساطة «عبده» لاحقًا بين «صديقه وأيقونته».
وبمرو الوقت، تحولت العلاقة بين الصديقين إلى ما يشبه «المحرر ورئيس التحرير»، حيث استند «قاسم» في تحريره لكتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» إلى كثير من أفكار «عبده».
فالمتصفح لـ «تحرير المرأة» يرى عدة فصول عرضت لرأي الشرع في قضايا الحجاب والزواج والطلاق وتعدد الزوجات، وتقدم عدة اجتهادات وآراءً فقهية مما لم تكن من بضاعة «قاسم أمين»؛ ولذا يرجح محقق الأعمال الكاملة لـ «عبده» وأمين» أن الكتاب من تأليف «عبده» وتحرير «قاسم» مستندًا في ذلك إلى «التحليل النصي المقارن» لكتابات كلٍّ منهما.
وحسبما أورد «عمارة» في تحقيقه، فإن هكذا تحليل يؤشر إلى أن «عبده» آثر «تأليف» كتاب «تحرير المرأة» بإيعاز من الأميرة «نازلي» وعزا إلى «قاسم أمين» تحريره «تجنبًا للحرج والعاصفة التي كانت ستهب عليه مباشرة إذا وضع اسمه عليه، وهو الشيخ الأزهري ذو المناصب الدينية الكبرى، ومنها منصب مفتي الديار المصرية».
وبرز «قاسم أمين» آنذاك كمدافع شرس عن سفور المرأة ومنتقد للحجاب السائد في زمنه ولانعزال النساء عن الرجل ولحصر تعليم المرأة في حدود دنيا، إن حصلت على حق التعليم أصلًا.
بصمات نازلي في اتجاه قاسم التنويري
هنا برزت بصمات «نازلي» في تحول «قاسم»الفكري، إذ اختلف موقفه من تقييم الحضارة الغربية بشكل كبير، وقرر أنه «لا يدرك ما حققه الأوروبيون في مجال الآداب والسلوك إلا من خالطهم واختبرهم في ظاهر شئونهم وباطنها حتى وقف على منزلتهم من الخصائص الأدبية»، حسبما أورد في «تحرير المرأة».
ورغم إقراره بمظاهر الفساد في طبقات المجتمع الأوروبي، خاصة السفلى والعليا، إلا أنه تراجع عن نفي كامل الفضائل الاجتماعية فيه، بل اعترف بوجودها، ووصفها بانها «الركن الأقوى لبناء الأمم».
وفي المقابل، نقض «تحرير المرأة» ما سبق أن قرره «قاسم» من قبل بشأن الحجاب واعتباره ميزة للمجتمعات الشرقية، حيث وصفه بأنه يرتبط بالعادات وليس بالشرائع، وهاجم انعزال النساء عن الرجال، واستنكر إمكانية ممارسة المرأة لواجباتها ومهماتها في الحياة طالما ساد الانفصال بين الجنسين في المجتمع.
يقول «قاسم» في كتابه: «لو لم يكن في الحجاب عيب إلا أنه منافٍ للحرية الإنسانية وضار بالمرأة، حيث يستحيل عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية ويجعلها في حكم القاصر (..) لو لم يكن في الحجاب إلا هذا العيب لكان وحده كافيًا في مقته».
لكن المدهش أن «قاسم» لم يقر بأن تناقضًا واقعًا بين أفكاره الأولى في «المصريون» والأخيرة في «تحرير المرأة»، بل اعتبر كتابه الأخير استكمالًا لطرح الأول، رغم ما بينهما من تعارض صارخ، ما يؤشر إلى إصراره على منهجه «الإصلاحي» حتى النهاية، وإن تطورت أفكاره.
وفي هذا الإطار، كتب «قاسم»، في بداية الفصل الثالث عن «حجاب النساء»:
وهنا تجدر الإشارة إلى أن «قاسم» أكد في كتابه أنه لا يدعو إلى رفع الحجاب بالكلية عن زي المرأة، بل إلى الاكتفاء بـ «الحد الشرعي» منه، قاصدًا الوجه والكفين، حسبما تقرر في جمهرة المذاهب الفقهية الإسلامية.
ثم أورد «قاسم» المقصود بهذا الحد من كتب الفقهاء، ومنهم ابن عابدين، واستفاض في شرحه، وهو ضمن ما استند إليه الدكتور «عمارة» في ترجيح وجود «بصمات» للإمام «محمد عبده» وراء تأليف «تحرير المرأة».
وأيًّا ما كان دور «قاسم» في الكتاب، فالمؤكد أن هذا الدور كان بدافع من الأميرة «نازلي»، التي طبعت الكتاب على نفقتها، وأنه يمثل «مشروعها» للإصلاح الديني والثقافي، عبر تأثيرها الطاغي على رواد الفكر والثقافة في صالونها.
ثم تحدث «قاسم» في الكتاب عن مفهوم «الحجاب» بمعناه الواسع، أي احتجاب النساء عن الرجال، وميز فيه بين الأمر الشرعي لنساء النبي بالاحتجاب وبين عموم نساء المؤمنين، مشددًا على أن الأمر الإلهي بالاحتجاب هو لنساء النبي فقط، مستشهدًا بالعبارة القرآنية «لستن كأحد من النساء».
لكن «قاسم» هنا لم يشرح كيف يكون هذا الفهم لأمر الاحتجاب استكمالًا لدفاعه السابق في «المصريون» عن احتجاب النساء عن الرجال، وواقع الأمر أن بين الدعوة الأولى والثانية تناقضًا لا لبس فيه، تجاوزه «قاسم» في بداية الفصل، ولم يتعرض له.
فهل اعتمد «قاسم» في هذا التجاوز على بقاء «المصريون» خارج نطاق الطباعة باللغة العربية متعمدًا عدم ترجمته، وهو من عمل مترجمًا خاصًّا لـ «عبده» في فرنسا؟ ليس لدينا دليل نصي على ذلك، وإن كان من الصعوبة تصور أن ترك الكتاب دون ترجمة طوال تلك السنوات لم يكن «قرارًا» من جانب «قاسم».
إلغاء الطلاق الشفهي وتقييد تعدد الزوجات
ما يدعونا إلى هكذا ترجيح هو أن قاسمًا دعا إلى إقرار ما يمكن وصفها بـ «منظومة اجتماعية بديلة» تضمن وضع قيود على الطلاق وتعدد الزوجات، حتى إنه طلب جعل إيقاع الطلاق من اختصاص القضاء، وصاغ مشروع قانون ليقترحه على الحكومة بهذا الشأن.
يرى قاسم» في فصل «العائلة» من كتاب «تحرير المرأة»، أن «إباحة الطلاق دون قيد لا تخلو من ضرر»، معتبرًا أن «الفقهاء من أتباع الأئمة توسعوا في أمر الطلاق» وحادوا عن المقصد القرآني منه، حتى أجاز بعضهم طلاق الهازل وحتى السكران طالما أن لفظ الطلاق صدر من فم الزوج.
ودعا «قاسم» إلى تقييد حق بقيد «الاستشهاد»، أي أن يكون حضور شاهدين على الأقل شرطًا لصحة وقوع الطلاق، لأن الإشهاد دال على عقد المطلق «النية والعزم» على الانفصال فعلًا، وهو ما قد لا يقع بمجرد صدور لفظ الطلاق من الزوج، خاصة في حالات الغضب والتهديد والحلف وغيرها.
وقدم «قاسم» مقترحًا بقانون من 5 مواد، خلاصته أن الطلاق يجب أن يكون بحضور شاهدين أمام القاضي أو المأذون ولا يتم إثباته إلا بـ «وثيقة رسمية»، ما يعني خروج الطلاق من دائرة «اللفظ» التي دار حولها أغلب كتب الفقهاء، إلى دائرة «القصد والعزم والتحرير» في صيغة قريبة الشبه بتلك المطبقة بالمحاكم الغربية.
وهنا يشير الدكتور «محمد عمارة» إلى أن «قاسم» اشترط في كل من «المصريون» و«تحرير المرأة» قيام الضرورة لجواز تعدد الزوجات، إلا أنه كان أكثر ميلًا في «تحرير المرأة» لتغليب منع التعدد على إباحته؛ حيث تحدث عن قيام فساد في العائلات وعداوة بين أعضائها بسبب التعدد، وهو ما كان ينكره من قبل في «المصريون».
بل إن «قاسم» وضع معايير لقياس «ارتقاء الأمم»، على رأسها «ارتقاء المرأة أو انحطاطها»، مشددًا على أن «الانحطاط في مرتبة المرأة عندنا هو أهم مانع يقف في سبيلنا ليصدنا عن التقدم إلى ما فيه صلاحنا».
وختم «قاسم» كتابه الأشهر بأن ما يريد إدخاله من الإصلاح في حالة المرأة يختص بالعادات وطرق المعاملة والتربية، داعيًا «أهل النظر في الشريعة الإسلامية والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات الأمة وضروراتها فيما يختص بالنساء، وألا يقفوا عند تطبيق الأحكام عند قول إمام واحد».
الخلاصة أن «تحرير المرأة» يرد وبالتفصيل على أفكار «قاسم أمين» الأولى، ومن ثم فإننا عندما نقرأ «المصريون» يُخيل إلينا أن المخاصمة والمجادلة صادرة عن خصوم «قاسم أمين»، حسب تعبير «عمارة».
ولا تفسير لهكذا تناقض إلا في سياق تطور «قاسم» الفكري، وهو التطور الذي عبر عنه باعتراف ضمني، مفاده أن الدوق الفرنسي، الذي هاجمه في «المصريون»، كان على حق في بعض ما قاله من نقد للمجتمع المصري.
وقد عبر «قاسم» عن ذلك في مقدمة «تحرير المرأة» بوضوح: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها حتي إذا تجردت من كل ما كان يختلطها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني بالحاجة اليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر».
إن السنوات الأربع التي مرت على «قاسم أمين» بعد نشر كتاب «المصريون» كانت بمثابة «إعادة إنتاج» لنسخة جديدة من تكوينه الفكري، جعلته يتخذ موقف النصح والإرشاد من مجتمعه بدلًا من موقف الدفاع عنه.
وبينما ظن المطلعون على تراث «قاسم أمين» أن هذه النسخة أصيلة في تكوينه الثقافي، كشفت طباعة «المصريون» باللغة العربية وتحقيق الأعمال الكاملة والتحليل النصي المقارن لكتابات «قاسم» في «تحرير المراة» وصديقه الأستاذ الإمام في مقالات نشرها بجريدة «الوقائع المصرية» قبل الثورة العرابية، أنها لم تكن كذلك، وأن ما وراء الكواليس انطوى على واحدة من أهم التحولات الفكرية تأثيرًا في التاريخ المصري.
وكانت «نازلي» ملهمة تلك الكواليس عبر مناقشات ومجادلات واستخدام للنفوذ السياسي والمالي أحيانًا من أجل الوصول إلى صيغتها المنشودة لنموذج المرأة، التي تجمع بين المنطق الأوروبي والاستدلال الشرعي، وتقتفي ما وصلت له المرأة الغربية من إنجاز، ولكن بصورة إصلاحية.