كمبيوتر «ATOS»: سر جدول البريميرليج الذي لا تؤجل مبارياته
بمجرد قراءة التصريح أعلاه لرئيس لجنة المسابقات بالاتحاد المصري لكرة القدم، ستشعر أن الكلمات مكررة، وتنطبق تقريبًا على معظم مواسم الدوري المصري لقرابة عقد من الزمان أو أكثر.
يمكنك حتى لو لم تكن متابعًا للدوري المصري، أن تعرف مدى فداحة الوضع، بذاك التشبيه البليغ، الذي وصف فيه عامر حسين رحلته كرئيس للجنة المسابقات بفيلم أيوب للفنان عمر الشريف، والذي كان يُجسد قصة مليونير منعه المرض من مباشرة عمله، فاقترح عليه صديق له كتابة مذكراته، بما فيها من طرق ملتوية للوصول لثروته، وهو ما أدى نهاية إلى قتله من الشخصيات التي أفصح عن عدم نزاهتها.
ربما لم يقصد الحاج عامر -كما يُطلق عليه في الوسط الرياضي- حيثيات القصة كما ذكرناها، بل الأكيد أنه قصد أنه لو قرر كتابة مذكراته، فسيُقتل نقدًا لعدم إرضائه لجميع الأطراف.
لكننا نرى أن البلاغة في التشبيه ترجع لأكثر من ذلك، فبغض النظر عن عامر حسين وقصته، فقصة أيوب تنطبق على كل الاتحادات المتخبطة في وضع جداول المسابقات الخاصة بها.
أيوب، هو ممثل هذه الاتحادات المتخبطة والمشكوك أحيانًا كثيرة في نزاهتها، والمرض، هو العراقيل الداخلية والخارجية التي لا تستطيع هذه الاتحادات التعامل معها، والموت، هو النتيجة الحتمية إذا ما قرر أحدهم الثورة على هذه الأنظمة.
ثورة التصحيح في إنجلترا
ذكرنا القصة السابقة لنأخذ من نهايتها بداية لما نود الحديث عنه. منذ أيام قليلة، وتحديدًا في 16 يوليو/ حزيران 2022، أعلنت رابطة الدوري الإنجليزي لكرة القدم عن الأجندة الكاملة لمواعيد جولات الأربع الدرجات الأولى للدوري الإنجليزي، بواقع 2036 مباراة، وقبل بداية الموسم بثلاثة أشهر تقريبًا.
إن كنت تتساءل عن سر هذه الدقة اللامتناهية في جدولة مباريات الموسم في إنجلترا، فلا بد أولاً أن تعرف أن الأمر ليس محض صدفة، بل هو مشروع كامل يُفضي في الأخير إلى أن الدوري الإنجليزي هو أكبر دوريات كرة القدم في العالم من حيث المداخيل، بإجمالي إيرادات وصل إلى 3.518 مليار يورو مقابل 2.049 مليار يورو للدوري الإسباني الذي حل ثانيًا لموسم 2020-2021، وفقًا لإحصائية مؤسسة «Football Bench Mark».
لكن، وقبل أن نُطلعك على السر، يجب أن نخبرك أن الدوري الإنجليزي لم يُولد بهذه القوة، بل كانت كرة القدم في إنجلترا تعيش في اضمحلال تام في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت مسابقة الدوري الإنجليزي متخبطة لأقصى درجة، وكانت الملاعب بوتقة لأعمال الشغب، بل كانت المسابقة تُثقل كاهل الحكومة الإنجليزية من أجل تغطية نفقاتها.
وهو ما احتاج إلى ثورة تصحيح وُلدَت على يد الثلاثي «ريك باري» نائب الرئيس التنفيذي لاتحاد كرة القدم الإنجليزي عام 1991، و«ديفيد دين» نائب رئيس نادي أرسنال حينها، و«جريج دايك» الرئيس التنفيذي لتلفزيون لندن آنذاك، قلب الثلاثة حال الكرة الإنجليزية رأسًا على عقب، ووضعوا أسس انطلاق الدوري الإنجليزي بمسماه الجديد «English Premier League»، وأصدروا بيانًا تحت عنوان، «لعبة واحدة، فريق واحد، صوت واحد»، والذي طرح نهجًا شاملاً لتطوير جميع مستويات كرة القدم.
اقرأ أيضًا: كيف أصبح الدوري الإنجليزي المسابقة الأقوى في العالم؟
العقل المُدبر: كومبيوتر «ATOS»
كان أحد أهم أركان خطة التطوير هو انتظام المسابقة، والتزام رابطة الأندية بطرح مواعيد ثابتة للقاءات الموسم الكروي كاملًا.
أثناء فترة تخبط الدوري الإنجليزي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت تتم جدولة مباريات الدوري يدويًّا، وهو ما أنتج مسابقة غير منتظمة، بالإضافة إلى توزيع غير عادل لمباريات كل فريق داخل وخارج أرضه وعلاقة ذلك بمشاركته من عدمها في البطولات الأوروبية.
ومع السعي لإنتاج دوري قوي، كان لا بد من إيجاد طريقة أخرى لجدولة مباريات الدوري، تضمن توزيع عادل لمباريات الفرق، والإجابة كانت لدى شركة Atos لتكنولوجيا المعلومات.
عام 1982 تولَّت الشركة أمر التخطيط لمباريات الموسم الكروي للدرجات المختلفة للدوري الإنجليزي، وتقوم بذلك بواسطة جهاز كمبيوتر يتم إدخال كل البيانات اللازمة إليه، ويُخرْج جداول المباريات لـ 2036 مباراة للأربع الدرجات للدوري الإنجليزي، وهو ما يُسمى بالعملية المستحيلة، ويُعد جهاز الكمبيوتر هو السر وراء هذه الدقة في جدولة المباريات في إنجلترا، التي تساءلتَ عنها في البداية.
يعمل الكمبيوتر وفق عملية تلقائية عشوائية في جوهرها، ولكن مع مجموعة من المحاذير التي تجعلها عملية أكثر تعقيدًا.
بيروقراطية مُتْقَنة
تنقسم المحاذير التي يعمل وفقها الجهاز إلى عدة درجات، ويمكن حصرها في أربع، وهي: «الأرض، والجمهور، والشرطة، والمسابقات الدولية والأوروبية». يتم بعد مراعاة كل ذلك توزيع مباريات كل فريق.
يُنظم الكمبيوتر الأرض التي سيُخاض عليها اللقاء وفق ما يُسمى بنظام الاقتران، فلا يمكن للفرق التي تنتمي لنفس المدينة أن تلعب داخل المدينة في نفس الجولة، حتى ولو كانوا في درجات مختلفة.
ويتم ذلك لأسباب مثل السيطرة على الحشود، فلا تريد الشرطة أن تلعب فرق ثنائية مثل مانشستر يونايتد ومانشستر سيتي على أرضها في نفس اليوم؛ لأن ذلك سيعني أن أربع مجموعات من المشجعين ستكون في وسط مانشستر، مما يجعل ضبط الأمن أمرًا صعبًا. بالإضافة إلى النقل، فتود شرطة النقل تقليل الأماكن التي من المحتمل أن يلتقي فيها المشجعون المسافرون، وتقييد عدد الجماهير التي تمر عبر مراكز النقل الرئيسية في أي وقت.
يتم أخذ المشجعين في الاعتبار أيضًا، فخلال فترة الكريسماس ورأس السنة، يتم محاولة تقليل مسافات السفر للمشجعين إلى الحد الأدنى؛ لإنقاذهم من مشاق السفر لمسافات طويلة. حيث يتم ترتيب المباريات بحيث لا يلعب الفريق عددًا كبيرًا من المباريات على أرضه، أو خارج أرضه على التوالي، وهو ما يمنح الملاعب أيضًا فرصة للتعافي.
يكون للأندية طلبات خاصة لأسباب متنوعة. يمكن أن يشمل ذلك استخدام ملعبهم لحفل موسيقي في تاريخ معين، أو عطلة نهاية أسبوع عامة، وتفضل المدينة عدم زيارة مشجعي كرة القدم للبلدة في ذلك الوقت، أو أن هناك حدثًا رئيسيًّا آخر يقام في المدينة ولا ينبغي أن تقام في نفس وقت حدث رياضي كبير، يتلقى الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم عادةً ما بين 80 و90 طلبًا من 72 ناديًا، يتم الاستماع إلى حوالي 85 في المائة منها.
هناك اعتبارات أخرى تُعرف باسم التسلسل، حيث يُقسَّم الموسم إلى مجموعات من المباريات، ثم يتم عكسها في النصف الثاني من الموسم. بشرط أنه في أي مجموعة من خمس مباريات، لا يمكن أن يكون لدى الأندية أكثر من ثلاث مباريات على أرضها أو خارجها.
قوائم المباريات الأولية، قبل أن تحدث التغييرات الحتمية، تضمن أيضًا أن يبدأ موسم كل نادٍ وينتهي بمباراة واحدة خارج أرضه وواحدة على أرضه.
تنطبق قاعدة مماثلة على فترة عيد الميلاد. إذا كان الفريق خارج ملعب في جولة الـبوكسينغ داي، فيُضمَن لهم مباراة على أرضهم في جولة مباريات يوم رأس السنة.
كأس العالم في الشتاء: طارئ جديد
هناك تعقيد إضافي وفريد من نوعه لموسم 2022-2023، وهو بالطبع لعب كأس العالم في قطر في منتصف الموسم، بالنسبة إلى الدوري الإنجليزي الممتاز، هذا يعني أنه يجب إضافة فترة راحة لمدة سبعة أسابيع لنظام الكمبيوتر. ستكون المباريات التي سيتم لعبها في عطلة نهاية الأسبوع من 12 إلى 13 نوفمبر هي الأخيرة في الدرجة الأولى، وحتى يوم البوكسنغ داي في 26 ديسمبر.
سيبدأ الموسم أيضًا في تاريخ سابق في عطلة نهاية الأسبوع من 6 إلى 7 أغسطس، وينتهي يوم الأحد 28 مايو. وهذا يعني أن الموسم المقبل من الدوري الإنجليزي سيمتد 295 يومًا، مقابل 282 يومًا في الموسم الأخير.
ستُقام المباراة الافتتاحية للمنتخب الإنجليزي ضد إيران يوم الاثنين 21 نوفمبر، بعد ثمانية أيام فقط من آخر مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز قبل البطولة. وهو ما جعل الاتحاد الإنجليزي يطلب من الدوري الإنجليزي الممتاز تجنب مقابلة أي أندية كبيرة بعضها ضد بعض في شهر نوفمبر للحد من كثافة المباريات قبل بدء كأس العالم مباشرة.
تعامل الجهاز مع كل المتغيرات، وبعد النظر لطلبات الأندية، والاتحاد الإنجليزي، أخرج مخططًا كاملًا للموسم بناءً على تلك التغيرات، وبالرغم من ذلك لا يسلم الجهاز ولا القائمون عليه من توجيه أصابع النقد لهم، واتهامهم بعدم الشفافية.
أصابع الاتهام
لا يحظى جهاز الكمبيوتر الذي أصبح من فلكلور الدوري الإنجليزي بتأييد تام، فبين الحين والآخر تُوجه له سهام النقد من مدربي الأندية.
لاحقًا، انتقد مورينيو هو الآخر الكمبيوتر وشكك في نزاهته، وبخاصة موسم 2005-2006، عندما كان مديرًا فنيًّا لنادي تشيلسي، حيث كان تشيلسي يُمنح باستمرار مباريات محلية خارج أرضه بعد المواجهات في دوري أبطال أوروبا، في حين أن أرسنال كان يلعب على أرضه، وهو ما أرجعه مورينيو إلى منصب نائب رئيس أرسنال ديفيد دين كعضو مجلس إدارة في اتحاد كرة القدم، وبالتالي تدخله في طريقة عمل الجهاز.
يرى جيلن طومسون، وهو المهندس المسئول عن عمل الكمبيوتر في Atos وجدولة المباريات، أن تجميع مباريات الموسم ليست عملية شفافة، ولا يمكن أن تكون كذلك.
على عكس قرعة الكأس المتلفزة مباشرة، فهي شاقة للغاية ومفصلة، ولكن إذا كان فيرجسون أو غيره يريد حقًّا إلقاء نظرة خاطفة وراء الستار، فإنه سيرى مشروعًا يبدأ فعليًّا في نوفمبر من كل عام، ويتم إرسال الاستبيانات إلى الأندية، وتلقي الطلبات، ولكن من المستحيل إرضاء الجميع.
وبعد أن ذكرنا نموذج نجاح جدولة الدوري الإنجليزي، وكشفنا السر وراء خطة نجاح هذه الجدولة، يتبقى سؤال وحيد: هل سمع الحاج عامر حسين وأعضاء اتحاد كرة القدم المصري بطومسون وجهازه وخوارزمياته من قبل؟
الإجابة: قطعًا لا، ولكن الحل كما ألهمنا إياه الحاج عامر في البداية دون قصد هو ثورة التصحيح.