ليس بالصلاة والملائكة: سر انتصار المسلمين على جيوش الفرس والروم

هناك اعتقاد بأن العقيدة الإسلامية هي السبب الوحيد لانتصارات المسلمين الأوائل على الإمبراطوريتين الساسانية الفارسية، والبيزنطية الرومية (أكبر قوتين على الأرض عند ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي) خلال سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة، ومن ثم البدء في تكوين واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ.

ووفقًا للعقيدة الإسلامية، فإن النبي وصحابته تلقوا دعمًا إلهيًّا خلال غزوة بدر كفل لقِلة من المسلمين (حوالي 340 مقاتلًا) أن يهزموا ألف رجلٍ قرشي،وفي هذا المعنى نزلت الآية القرآنية: إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. والآية التي تقول: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ.ً

هذا «الدعم الإلهي» بالملائكة سحبه بعض المؤرخين المسلمين على الكثير من المعارك الإسلامية، سعيًا للترويج للجيوش الإسلامية باعتبارها «جيوشًا مؤيَّدة من السماء»، لكنها في بعض الأحيان لعبت دورًا سلبيًّا في عدم نسب النصر لمستحقيه الحقيقيين، وهم الجنود والقادة الذين بذلوا جهودًا مضنية في ميادين القتال.

فصحيح أن التماسك العقدي والحماس الديني الذي تمتَّع به المقاتل المسلم لعبا دورًا كبيرًا في انتصارات جيوش المسلمين، ولكن هذا الجانب الروحي لم يكن الوحيد الذي يقف وراء سر هذا الاكتساح العربي للعالم في غضون سنواتٍ قليلة، خاصة أن العرب (غير المسلمين) كانوا قد سبقوا المسلمين في الانتصار على الفرس بسنوات بسيطة، في موقعة ذي قار، قبل اعتناقهم الإسلام، وكذلك هُزِم المسلمون ومعهم النبي في غزوة أحد حين أخطأوا عسكريًّا.

إذًا، كيف انتصر المسلمون الأوائل على الفرس والروم وهم أقل منهم عددًا وعتادًا، من منظور التحليل العسكري والاستراتيجي؟ هذا ما نجيب عليه خلال هذه السطور، من واقع أدلة واستنتاجات حصلنا عليها من بين سطور مصادر عربية وأجنبية.

في العلوم العسكرية ليس من الثابت أن الجيوش الأكبر من حيث العدد هي التي تنتصر، ولكن التخطيط والتدريب الجيدين قد يتفوقان على الكثرة العددية، سواء في الحروب القديمة أو الحديثة.

ومن هذا المنطلق، قرَّرنا إلقاء الضوء على أهم 3 معارك عربية ضد الفرس والروم، الأولى كانت قبل الفتوحات الإسلامية وهي موقعة ذي قار، والثانية والثالثة فتحتا الطريق للمسلمين للسيطرة على العالم، وهما القادسية واليرموك، وبعد تناولها نصل إلى استنتاجات مُحدَّدة حول أسباب الانتصارات السريعة التي قادت العرب لصدارة الدنيا.

ذي قار: العرب يحترفون الحروب النظامية قبل الإسلام

الفكرة السائدة عن الخبرات القتالية لدى العرب قبل الإسلام تتلخص في أنهم لا يجيدون سوى حروب العصابات، القائمة على المعارك الصغيرة والمبارزة الفردية والكر والفر بسرعة، ولكن ذي قار تثبت عكس ذلك.

هزم العرب الفرس في المعركة التي وقعت جنوبي العراق في عهد النبوة، ولكن قبيل دخول أغلب القبائل الإسلام، حيث كان الرسول في مكة وقتها، وبعض الروايات تقول إن ذلك كان بعد غزوة بدر بشهور بسيطة… بصرف النظر عن اختلاف التواريخ، لكن المؤكد أن الإسلام كان لا يزال محصورًا في مكة فقط، أو على الأكثر كان قد وصل حديثًا إلى يثرب، أي أن ذي قار كانت حربًا عربية خالصة دون أي تأثير إسلامي عليها.

قبيل المعركة، وبعد أن استطاعت فرق الاستطلاع معرفة قوام وعدة وعتاد الجيش الفارسي وتكويناته العسكرية والعرقية، عقد العرب المتحالفون مجلس حرب ووضعوا خطتهم، وكانت كالتالي:

1. التخفف قدر المستطاع من الدروع وكل ما يثقل كاهل الجندي، والاعتماد على خفة المقاتل العربي ورشاقته، لأن الفرس في كل الأحوال أعلى تدريعًا، وتكفي أفيالهم، وبالتالي لا مجال للمراهنة على التدريع، وإنما مواجهة هذه الدروع الثقيلة بخفة وسرعة في القتال.

2. تقسيم الجيش بشكل تقليدي إلى 3 فرق أساسية، وكل فرقة يقودها قائد، وهي ميمنة، ميسرة، وقلب. بجانب فرقة تكتيكية خاصة عالية الكفاءة، تختبئ في مكان قريب، وبعد أن تبدأ الحرب تهجم على الجيش الفارسي من الخلف، فتربكه عسكريًّا من ناحية، ومن ناحية أخرى تضعفه معنويًّا.

3. تعمل الاستخبارات العربية على شق صفوف الجيش الفارسي، بتجنيد القبائل العربية التي كانت ضمن قوامه، والاتفاق معها على الانسحاب حين يشتد القتال.

4. إثارة الروح المعنوية لدى المقاتلين العرب، بقطع القادة للأحزمة التي تربط الهوادج التي تحمل نساءهم على ظهور الجمال، ما يعني أنها معركة حياة أو موت حفاظًا على الشرف، فإذا هُزِم الجيش العربي لن تستطيع النساء الهرب، وسيسقطن من فوق الجِمال ويصبحن سبايا للفرس.

بالفعل نُفذت الخطة وانهزم الفرس، وتلقوا درسًا عسكريًّا قاسيًا، مفاده أن الوسائل العسكرية التقليدية يمكن التغلب عليها بوسائل تكتيكية حديثة، إضافة إلى أهمية الاستطلاع والاستخبارات والروح المعنوية.

اليرموك: خالد بن الوليد وخدعة الجِمال

المعركة كانت حوالي عام 15هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بين المسلمين والبيزنطيين، ولا يتسع المجال هنا لذكر كل تفاصيلها، ولكننا سنذكر نقاطًا مرتبة يمكن من خلالها رسم خريطة في أذهاننا لما دار في المعركة.

1. ليست هناك تقديرات ثابتة لعدد جيش المسلمين والجيش البيزنطي، خاصة أن الرواة والمؤرخين المسلمين يميلون إلى تضخيم عدد البيزنطيين، في مقابل تقليل عدد جيش المسلمين، لأغراض دعوية لا تخفى على أحد.

وذكر بعضهم أن تعداد الجيش البيزنطي وصل إلى 280 ألف مقاتل، وبعضهم هبط به إلى 80 ألفًا فقط. وبالنسبة للمسلمين قيل إن عددهم كان 24 ألفًا فقط، بينما وصل أقصى تقدير إلى 46 ألفًا… في كل الأحوال كان عدد الجيش البيزنطي على أقل تقدير، ضعف عدد المسلمين تقريبًا.

2. كثير من المصادر تشير إلى أن أبا عبيدة ابن الجراح كان القائد العام للمعركة، بينما يتبين من سرد الوقائع أن خالد بن الوليد كان القائد الفعلي، ودوره كان هو الحاسم في المعركة، والبعض قال إن أبا عبيدة – وهو الصحابي المبشر بالجنة والأكثر قربًا من النبي والخليفة عمر بن الخطاب – تنازل عن القيادة الموحدة للجيوش الإسلامية إلى خالد بن الوليد، الأكثر كفاءة عسكريًّا، بعد أن أتاه بمدد من العراق.

3. كان الجيش البيزنطي ينقصه التنظيم والتجانس، بل التدريب، إذ كانت الظروف قبلها تؤكد عدم وجود معركة كبيرة مع المسلمين المنشغلين بحروب مع الفرس في العراق خلال عهد أبي بكر، ولم تكن هناك حاميات بيزنطية كبيرة في الشام.

ولكنهم فوجئوا بمعركة حاسمة يجهز لها المسلمون، حين انسحبت جيوشهم الصغيرة وتجمعت جنوبي الشام، بين نهر اليرموك وبحيرة طبرية، بعد انتصارات نسبية حققوها في مناطق متفرقة مما يعرف اليوم بسوريا وفلسطين في عهد الخليفة أبي بكر.

وزاد من عنصر المفاجأة أن خالد بن الوليد جمع قواته من العراق ولحق بهم، أي غامر المسلمون بكل قواتهم ووجهوها إلى معركة اليرموك، فاضطر البيزنطيون إلى جمع جيش كبير جرار، ولكن بشكل سريع مرتبك.

4. كل جيش المسلمين كانوا عربًا مسلمين، يقاتلون بلا توقف منذ سنوات أي توفرت فيهم صفتا التجانس والتمرس، إضافة للحماس الديني، والعصبية والنخوة العربية المعروفة.

أما جيش الروم فتكوَّن من أعراق الأرمن، والروس، وعرب الشمال المسيحيين من الغساسنة، ثم البيزنطيين أنفسهم، إضافة إلى جنسيات أوروبية متفرقة. كما أن بعضهم أُجبر على التجنيد بعد مناوشات ومعارك لتجنيدهم عنوة.

5. بدأت المعركة بهجوم بيزنطي، وانتصار مبدئي في المعركة التي استمرت 6 أيام، ما أدى إلى تراجع المسلمين إلى معسكرهم البعيد عن ميدان المعركة.

أغلب المصادر العربية قالت إن الأمر كان انسحابًا من المسلمين أمام جيش الروم الجرار، الذي ركز هجومه على مقدمة وقلب الجيش بتفوق عددي كبير للجنود المدرعين بدروع ثقيلة، وأن النساء المسلمات هن من أعدن المقاتلين المسلمين إلى المعركة بقذفهم بالحجارة وتوبيخهم، بناءً على توصية القادة، ومنهم خالد بن الوليد الذي أوصى النساء بقتل من يتراجع من الرجال.

بينما تؤكد مصادر مسيحية، أهمها رواية الأسقف والمؤرخ سيبيوس، أن الأمر كان تكتيكًا عسكريًّا، حيث ربط المسلمون كل جِمالهم في بعضها أمام معسكرهم لسببين تكتيكيين، أولهما: أن تكون الجمال حائط صد عريضًا يعرقل تحرك البيزنطيين. والثاني: خداع البيزنطيين وجعلهم يعتقدون بأن المسلمين انسحبوا إلى الصحراء مذعورين حتى دون أن يمتطوا ركائبهم، وبالفعل وصل البيزنطيون إلى حائط الجِمال، وفي هذه اللحظة انهالت سهام الرماة المسلمين عليهم، من كمين كانوا قد نصبوه مسبقًا.

وفي الوقت نفسه كان خالد بن الوليد ومعه قوة الفرسان الضاربة يلتفون حول القوات المهاجمة من الخلف، خاصة أن تدفق القوات البيزنطية كان قد ضعف، نتيجة اعتقادهم بهروب المسلمين.

كذلك أخطأ الجيش البيزنطي حين اندفعت قوات ميمنته وميسرته خلف قوات المواجهة لملاحقة المسلمين الذين انسحبوا، ما جعل قوات الميمنة والميسرة المسلمين يطبقون عليهم من الميمنة والميسرة الخلفية.

6. لم تنفع البيزنطيين قوتهم العددية لأنهم لم يستغلوها كلها، بل إن فرق خيالتهم لم تلعب دورًا يذكر أغلب أيام المعركة، بل احتفظوا بها كقوة احتياطية تستخدم للحسم، خاصة أنهم استهتروا بجيش المسلمين قليل العدد.

أما خالد بن الوليد الذي كان يقود فرقة الخيالة بنفسه، إضافة إلى القيادة العامة للجيش، فاستخدم خيالته أفضل استخدام، بعد تخفيف تدريعها، ما جعلها قادرة على التحرك الخاطف، والمناورة السريعة، بالانسحاب أو الاختباء أو الالتفاف أو المباغتة السريعة.

وبجانب التخفف من الدروع مثلت القلة العددية ميزة لخالد بن الوليد، إذ يسهل على قوات خفيفة العدد والتسليح أن تنفذ هجمات خاطفة سريعة، وهو أمر لا يتوفر بنفس الكفاءة لفرق مدرعة كبيرة العدد.

كان من الذكاء أيضًا أن خالد بن الوليد فتح طريقًا للبيزنطيين للانسحاب في يوم المعركة الأخير، بعد خدعة الجِمال، لأنه يعلم جيدًا ماذا يمكن أن يفعل عدو محاصر قوي التسليح، ليس أمامه إلا القتال أو الموت، فأمن لهم طريقًا يسلكونه إلى الشمال ثم طاردهم.

القادسية: جيش إسلامي محترف متكامل

بعد انتصارات خالد بن الوليد في العراق الذي كان جزءًا من الأراضي الفارسية ثم انسحابه منه إلى الشام لملاقاة الروم في اليرموك، أصر عمر بن الخطاب أن يحسم الأمر، فخير الفرس بين دفع الجزية أو دخول الإسلام أو الحرب، واستجاب الفرس.

كانت القادسية بعد اليرموك مباشرة، وربما في نفس العام، وفيها ظهر نضج القيادة الإسلامية، التي أعدت جيشًا احترافيًّا بامتياز.

قُسم الجيش إلى مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وأعشار، وساقة، إضافة إلى الطلائع (الاستطلاع). واشتملت هذه الفرق على رماة، وفرسان، ومشاة. وإداريًّا قُسِّم الجيش إلى وحدات صغيرة، قوام كل منها عشرة جنود ولها قائد، ولكل 10 وحدات قائد، يليهم قائد عام لكل فرقة (ميمنة، وميسرة، وقلب … إلخ).

وكان داخل هذا التقسيم تقسيم قبلي، حيث كانت هناك راية لكل قبيلة داخل الجيش، يحملها واحد من القبيلة؛ إمعانًا في التنافس في القتال بين كل قبيلة، ولضمان وحدة وتماسك الجيش، وكان الجميع تحت قيادة عامة موحدة تتمثل في سعد بن أبي وقاص.

كانت هناك أيضًا فرقة إسعاف طبية مرافقة للجيش، يقودها حاجب بن زيد مهمتها نقل الجرحى والقتلى من مكان المعركة إلى منطقة العذيب للتداوي.

اختار سعد بالتشاور مع عمر قبل انطلاق الجيش الأساسي من المدينة المنورة المكان المناسب للمعركة، وهو القادسية، حيث كان في خلفيته الصحراء العربية التي يألفها العرب جيدًا ويستطيعون العدو فيها بشكل لا يجيده أحد مثلهم حال انهزامهم، وفي الوقت نفسه، توجد بأرض القادسية مرتفعات يمكن إقامة أبراج مراقبة عليها، وكذلك يوجد بها ماء، وفوق كل ذلك تعد بوابة الطريق إلى قلب الإمبراطورية الفارسية، إلى العاصمة المدائن.

كذلك اختار سعد وعمر التوقيت المناخي المناسب للحرب، وكانت في الربيع، رغم أن التحضيرات كانت قد بدأت منذ بداية الشتاء، كي لا تعيقهم أمطار ولا برودة ولا حرارة.

وكانت فرقة الطلائع قد سبقت القوات الأساسية إلى القادسية، وباغتوا الحامية الصغيرة الموجودة على حصن القديس ففرت، وأصبح الحصن في يد المسلمين، ما مثل حماية لهم خلال المعركة.

خلال فترة انتظار مجيء جيش العدو نفذ المسلمون بفرق صغيرة عمليات إغارة سريعة على مناطق متفرقة من العراق لأربعة أهداف: أولها الاستيلاء على الماشية والأغنام والإبل وخلافه وجلبها لمعسكر المسلمين في القادسية، بهدف الطعام وتخزين مؤن كافية لشهور. والثاني بث الرعب في أرجاء الأراضي الفارسية كجزء من الحرب النفسية. والهدف الثالث كان ضمان البقاء في المكان المناسب الذي اختاره المسلمون للمعركة، واستدراج العدو إليه. والسبب الأخير هو تأديب القبائل والتجمعات السكنية المتحالفة مع الفرس.

كما الحال في تقدير الأعداد من قبل المؤرخين، تراوحت أعداد المسلمين بين 30 و40 ألفًا، بينما تراوحت أعداد الفرس بين 80 و200 ألف. أي في كل الأحوال وكالعادة كان الفرس أكثر من ضعف عدد المسلمين على أقل تقدير لعددهم.

المعركة استمرت 4 أيام، ومع بدايتها كانت الأفيال لدى الفرس، بحجمها الضخم وصوتها المهيب وقوتها الكبيرة مخيفة حتى لخيول المسلمين، فحولوها إلى ميزة، حيث أمر سعد بن أبي وقاص الرماة باستهداف راكبي هذه الخيول من بعد، كما شكل فرقة خاصة هدفها الالتفاف من وراء الفيلة وقطع الأحزمة التي تمسك بالتوابيت التي يجلس عليها المقاتلون فوق الفيلة، وبالفعل من لم يُقتل أو يصاب بسهم من الرماة، سقط تحت أقدام الفيلة نتيجة قطع الحزام.

وهنا أصبحت الفيلة عبئًا على الفرس، حيث أصبحت بلا قائد يوجهها لدك المسلمين، وبالتالي أربكت صفوفهم وأصبحوا منشغلين بالابتعاد عنها، فصاروا فريسة سهلة لجيش المسلمين، خاصة أن كل فيل كان يحمل فوق تابوته 20 مقاتلًا.

في اليوم الثاني للمعركة أتت إمدادات من الشام بقيادة خالد بن الوليد، ومعه القعقاع بن عمرو، وأغلب أفراد هذه القوات كانوا من عرب العراق أي يجيدون القتال على هذه الأرض، ويمكنهم توفير أي خبرات للمسلمين خلال المعركة. وكان خالد قد جندهم بعد دخوله العراق في عهد أبي بكر، وزحف بهم إلى اليرموك لملاقاة الروم، وهذا الإمداد أعطى زخمًا للمسلمين، وأربك صفوف الفرس.

خلال ليل اليوم الثالث للمعركة وبعد انضمام خالد وقواته سحب المسلمون فرقًا من جيشهم إلى خارج الميدان بكيلومترات، وكُلِّفوا بالانتظار هناك لما بعد بدء القتال في اليوم التالي، ثم إعادة الهجوم تباعًا وعلى دفعات، لإعطاء العدو انطباعًا بتدفق وتجدد الإمدادات العسكرية للجيش، وهو أمر عظيم الشأن في الحرب النفسية. وكان من الفرق المنسحبة فرقتا القعقاع بن عمرو، وعاصم بن عمرو.

في اليوم الحاسم للمعركة، أعاد الفرس استخدام الفيلة وأعادوا نصب التوابيت عليها، ولكنهم حموها بفرسان ومشاة من حولها، ليتمكن راكبوها من القتال وهم في أمان، وهو أمر جعل تحرُّك الفيلة ثقيلًا، كما أدى ذلك إلى تحويل الفيلة من أداة هجومية إلى أداة إعاقة، وتطور الموقف باستطاعة فرسان عرب من القفز إلى أعلى ورمي اثنين منهما بالرماح في أعينهم، فهاجا وفرا إلى الخلف ما أدى إلى انسحاب باقي الفيلة والركض باتجاه القوات الفارسية. وفي هذه اللحظة هجم المسلمون بقوة شديدة وبأعداد كبيرة مستغلين حالة الارتباك في صفوف الفرس.

لماذا انتصر المسلمون؟

بعد هذا الاستعراض يمكن الوقوف على أهم الأسباب – العسكرية – لانتصارات المسلمين، وهي:

– جودة أقواس العرب وصلابة أسهمهم التي كانت قادرة على اختراق دروع الأعداء، رغم عدم قدرتهم على استعمالها وهم على ظهور الخيل، لكنهم أجادوا استخدامها من وضع الثبات.

ففي الوقت الذي كانت فيه سهام الفرس قصيرة المدى، ضعيفة الفاعلية في ميادين القتال الواسعة، حيث كان الفرس يعتمدون على غزارة عدد نبالهم، ولكن هذه الغزارة لم تجدِ في ميدان واسع يحتاج إلى نبال ذات مدى أبعد، حسبما استنبط Joan.W.Jandora  في دراسته «Development in Islamic warfare: the early conquests» – التطور في الحروب الإسلامية: الفتوحات المبكرة».

كان الفرس يعتمدون على إمطار أعدائهم بأكبر عدد من السهام أولًا، ثم الهجوم بالفيلة، والخيالة والمشاة المسلحين بحراب وسيوف «قصيرة»، محتمين بدروع قوية، حسبما نقل عباس محمود العقاد في كتابه «عبقرية خالد» عن كتاب «فن الحرب» لآرثر برني. وهذه الخطة لم تفلح مع المسلمين، لأنهم كانوا أسرع في الحركة، فكانوا ينسحبون وقت رمي السهام فيتلاشونها، ثم يهجمون بسرعة للاشتباك والالتحام، معتمدين على حراب وسيوف «أطول» من التي لدى الفرس، والسيوف والحراب الطويلة تجعل من السهل على المقاتل النيل من خصمه وهو بعيد عنه جسديًّا، خاصة لو كان سيف الخصم أو حربته أقصر.

– استغلال طبيعة الجندي العربي سريع الحركة، شرس الاشتباك، فأمكن تعويض قلة العدد بالضربات الخاطفة المفاجئة، وفي ذلك يقول ليدل هارت Liddell Hart، في كتابه « Strategy: The indirect approach – الاستراتيجية: الاقتراب غير المباشر» إن التحرك في الوجهة المتوقعة يحفظ توازن العدو، ما يثبت قدرته على المقاومة، ولن يتاح النصر بهذه الوسيلة إلا بتفوق كبير في العدد والسلاح، وحتى مع التفوق الكبير في القوة فإن التحركات المتوقعة قد تؤخر الحسم في النتيجة.

وعلى نقيض ما سبق، فإن التاريخ العسكري في جميع العصور، يفيد بأن الإخلال بتوازن العدو نفسيًّا وماديًّا، عن طريق الخداع الاستراتيجي، هو المقدمة للقضاء عليه، حتى لو بقوات أقل عددًا وعتادًا، حسبما يقول هارت.

ووفقًا لما سبق، وبمراجعة ما تم في ذي قار واليرموك والقادسية، نجد أن العدو كان شديد الثقة في نفسه، مستخفًّا بقوة العرب، يهاجم بشكل متوقع، رسمه المسلمون مسبقًا، اعتمادًا على عدده وعتاده، بينما برع القادة المسلمون في اختيار الأماكن والتوقيتات المناسبة للهجوم، ونصبوا أكمنة وخططًا خادعة خاطفة، أفقدت العدو توازنه وعجلت بهزيمته.

– تماسك وصلابة الجيش الإسلامي، عرقيًّا ودينيًّا، فقد كانوا جميعًا عربًا مسلمين يبجلون قيادتهم، بينما اعتمد الفرس والروم على عرقيات شتى، أغلبهم يحارب مجبرًا. ناهيك عن الأزمات السياسية التي كانت تعيشها الإمبراطوريتان والتي لا مجال للاستفاضة فيها هنا.

– مهارة وذكاء القادة المسلمين وعلى رأسهم خالد بن الوليد، في وضع الخطط المناسبة لعددهم وتسليحهم، بل القدرة على تعديل الخطط بسرعة، وفق ما تقتضي الحالة.

وبعد كل ما سبق، نستطيع القول بما قاله العقاد، بأن عقيدة المسلمين لم تكن هي الحاسمة وحدها، في مقابل انحلال وضعف وتشرذم الفرس والروم؛ فلا انحلال الدولتين الفارسية والرومانية بمغنٍ عن الاعتراف للعقيدة الإسلامية الناشئة بحقها في الغلبة وحاجة العالم إليها في ذاك التوقيت، ولا العقيدة الناشئة كانت مُغنية عن فضل رجالها وحماتها؛ فالعقيدة قوة لا غنى عنها، ولكنها وحدها لا تغني عن الخبرة والاستعداد.