فرصة ثانية – قصة قصيرة
بدأت قصة حياتي بموت رحيم، جئت إلى هذا العالم ومنْ أنجبتني على شفا حفرة من الموت. حملني أبي بين يديه وهو لا يدري إن كان سيقدر على رعايتي بمفرده. ابتسم لي على مضض أمام المُمرضة التي كانت مُكلفة برعايتي حتى تعود أمي من سبات دام عدة أشهر. ولم تفق أمي البتة.
يقول أبي إن عقلها لم يعد يقوم بوظيفته، وأنه كان مُخيّرًا بين الانتظار القاسي وقطع حبل الأمل الكاذب بشكل نهائي، فاختار لأمي أن تكون حُرة من الألم بدل البقاء مُعلّقة بين موت سريري ونجاة من سابع المستحيلات.
عتبت على أبي اختياره الذي رأيت فيه أنانية ساحقة، لكنني تفهمّت أسبابه بعد أن خبرت التصاق الموت بجدران غرفتي ومراقبته لي على مدار الحياة. كان أبي إذ اختار لأمي موتًا رحيمًا يطرد شبح الموت من حياته ويتجنب مجالسة الأموات، ثم إن خالتي «سميحة» أخبرتني أن أمي ما كانت لترضى كونها عبئًا على أحد حتى لو كان أبي مستعدًا لخوض معركة خاسرة. كانت أمي لتطلب منّا أن نمضي قدمًا بحياتنا ونحاول التعايش مع الفقد، وكانت لتحب رؤيتي وأنا أحمل من اسمي «ياسمين» نصيبًا، وأشارك أبي في العناية بأزهار حديقتنا. كانت أمي لتكون أفضل أم في العالم، لكن الزمن لم يسعفها، ولم يمنحنا فرصة لنكون عائلة سعيدة.
وُلدت في مونتريال وماتت أمي فيها، لهذا لم أكن قادرة على حب تلك المدينة التي اختطف الموت فيها حلمي بطفولة عادية، وعدتُ وأبي إلى مراكش حيث وُلد الحب العاصف الذي كنتُ ثمرته الوحيدة. كانت مراكش مدينة دافئة وساعدتني على استنشاق هواء الحياة ملأ رئتي لأول مرة.
تعلمت أن أطفو فوق سطح الظروف والمآسي بدل الغرق في أحزان العالم بأسره. قمنا بدفن الماضي في كندا وجئنا إلى الوطن علّه يداوي جراحنا العميقة ويزرع فينا حب الحياة وحب الانتماء.
قضيت طفولة سعيدة رغم النقص الذي عانيت منه. كان بيتنا في مراكش البهجة، خاليًا من الأطفال ما عداي، يسكنه جدي وجدتي، وأنا وأبي.
بالرغم من بساطته كان مكانًا مُحببًا إلى فؤادي بغرفه الضيقة وحديقته الشاسعة، إضافة إلى المزرعة المترامية الأطراف التي ورثها جدي عن أبيه دون غيره من أشقائه.
كنتُ أقضي أيام نهاية الأسبوع في ملاعبة الخرفان التي تتحول إلى مأدبة فاخرة كلما جاء إلى بيتنا ضيوف، ولهذا كنت ولا أزال أكره مجيء الغرباء إلى منزلنا. كنا نستيقظ على صوت آذان الفجر لنشرع في إطعام المواشي وسقي الزرع، ثم ينصرف كل منّا إلى مهامه ومشاغله الخاصة لنلتقي من جديد على طاولة الغذاء، حيث نتبادل أطراف الحديث عن يومنا كيف قضيناه ونشكو همومنا ونفصح عن مآربنا لبعضنا البعض.
كنت في السنة الأولى من التعليم الابتدائي، وكانت إحدى رفيقاتي في الفصل تطل عليّ من حين لآخر وتبتسم لي بلطف، وقد كنت أغبطها لجمالها الفاتن وشخصيتها المحببة التي جعلتها تكسب حب الجميع واحترامهم. تجلس في أول الصف وتولي كامل الانتباه لشرح المدرس، وتنجز واجباتها وتحصل على أعلى الدرجات في الامتحانات.
كان وجودها يُشعرني بأنني شبح يقف في زاوية القسم وحيدًا، كنتُ غريبة الأطوار التي لا يُحدِّثها أحد لأنها تحرج نفسها، ومنْ يُحدِّثها تُقابل أسئلته الاعتيادية بصمت لاذع وتفكير عميق.
منذ طفولتي حلمت بالانتماء لجماعة، بأن أجد أشخاصًا يسهل عليهم فهمي دون الحاجة إلى الكثير من الكلام، لكن خلال فترة مراهقتي والوقت الذي أمضيته بالثانوية العامة، أصبحت أقل اهتمامًا بالعلاقات الاجتماعية، وقمت بتكوين صداقات قليلة وذات معنى.
أتذكر أحيانًا ذكريات طفولتي بمرارة، المجموعات المغلقة في وجه منْ لا ينتمون، النقاشات الحادة بين الأصدقاء والنزاعات التي تنشب عادةً لأتفه الأسباب. كنت أظن وأنا تلميذة بالمدرسة الثانوية أن تفاهات المراهقين تلك ستختفي بمجرد انتهاء هذه المرحلة العمرية المعقدة، وقد كنت على خطأ.
حين نجحت في الامتحان الجهوي الموحد للسنة الثالثة إعدادي أهداني جدي دراجة هوائية، لتصبح وسيلة النقل الوحيدة التي أركبها، وهكذا كنت الفتاة الوحيدة في المدرسة الثانوية التي تركب دراجة هوائية وتسابق الريح -وزملاءها الذكور- في طريقها للمدرسة.
تُوجت سنتي الدراسية الأولى في المدرسة الثانوية بصداقات لم أكن أتوقعها، لم أكن يومًا من النوع الذي يبادر بالكلام في محادثة. غالبًا ما كنت أبرع في بناء حاجز بيني وبين الآخرين، لكنني في تلك السنة بالتحديد فوجئت بالصرح المنيع الذي بنيته حول كينونتي يتهاوى أمام ناظري. وفجأة عندما ظننت أن الصداقات التي حصلت عليها في تلك المرحلة من الحياة هي علاقات محكومة بالصمود والخلود رغم صعاب الحياة وتقلباتها، وجدتني مجبرة على الغوص في وحل الوحدة الذي ظننت أنني نجوت منه.
عُدت لنقطة الصفر. عُدت للخوف من المستقبل، ومن أن أموت دون أن يتذكرني أحدهم، ومن أن تُدفن رواياتي وقصصي ومحاولاتي الشعرية مع جثتي دون أن تحظى بفرصة وحيدة للحياة، لا لشيء إلا لأن الخوف جعلني أدفنها وهي لم تبلغ سن الرشد ولا رأت النور يومًا.
لكنني وجدت في نفسي لهفة للقاء الموت، ربما لأن سيريالية الموت جعلتني أستخف به. فقدت الرغبة في أن أعيش حياة يحكمها الخوف بإرادة أصابها الشلل، لكنني لم أكن أملك ما يكفي من الشجاعة لأضع حدًا للبؤس الذي يسكنني.
ظل الأسى مُخيمًا على وجودي، لصيقًا بشخصي طول السنوات الثلاث التي قضيتها بالمدرسة الثانوية. وبعد ذلك ظننت أن النضج -الذي يفترض به أن يرافق المرحلة العمرية الجديدة التي بلغتها- يتضمن أجوبة أكثر على الأسئلة الوجودية التي كانت تمزق ذاتي وتؤرقني، لكنني أُصبت بخيبة الجهل بعد سنوات من التماس الحقيقة، واكتشفت بأن لا حقيقة مطلقة، وأن الكون مليء بالأسئلة التي لا تملك أجوبة مقنعة.
إن الحياة رحلة للبحث عن ذواتنا وعمّن نكون في هذا العالم الذي يزخر بالأسرار، لكنّنا السر الأكثر غموضًا واستعصاءً، والذي يستغرق سنوات من البحث حتى يفهمه المرء.
وبالقليل الذي علمتني إياه الحياة، ارتأيت أن أُجابه ما ترمي به نحوي هذه الأخيرة من متاعب وأزمات، لأن الرحلة أكثر تشويقًا من أن أنهيها في المنتصف. وأردت أن أُسكِت الصوت الذي يجلدني باستمرار.
علّمني جدي أن أكون قوية في وجه المصائب التي تنهال بها الحياة عليّ، وأن أتسلّح بالعلم والمعرفة لأُجابِه بهما منْ يشكِّكون في كفاءتي، لا لشيء إلا لأنني فتاة. كل شيءٍ لقّنني إياه جدي كان ذا فائدة عظيمة لي في مسيرتي الدراسية والمهنية.
عدت إلى كندا لاستكمال دراستي الجامعية، لكنني لم أكن أفكر في الاستقرار بعيدًا عن أهلي ووطني بالرغم من الفرص التي كانت تقدم لي على طبق من ذهب في أكثر من مناسبة. كنت أختلس العطل والإجازات لأعود إلى البلد لأحظى بذلك الجو العائلي الدافئ في حضن الوطن.
لست أنسى ذات عيد حين بلغني خبر وفاة جدي. ما كنت لأتوقع سماع خبر كالذي سمعته يومها، تمنيت لو كان ما سمعته كذبة أخرى من سلسلة الأكاذيب التي امتلأت بها حياتي.
كلمتان وُضعتا بترتيب مخيف في ثغر رجل كان أبي. وشعرت حينها أنني قد أفقد والدي هو الآخر في أية لحظة، لذلك لم أقفل الخط طوال الليل خوفًا من أن يتبخر آخر رجل في بيتنا.
كان للعودة إلى الوطن طعم آخر حين علمت بوفاة جدي، كنت عائدة لأسدل الستار على مرحلة من حياتي لن تتكرر. هكذا هي الحياة؛ تسرق الابتسامة من ثغرك بعد أن تحسب أنك أمنت شرها وتستكثر عليك سعادة كاملة.
بدأت قصتي بالموت وانتهت به، لأن الموت هو في الوقت نفسه المبتدأ والمنتهى. لكن الموت لم يعد يسكنني بعد أن تصالحت مع الواقع.
وجدتني أستنشق نسيم الحب من جديد بعد أن نفضت غبار الماضي عن كياني وطردت بعبع الموت من علبة ذكرياتي. ألفيتني أعانق السعادة وأذوب عشقًا في الحياة. ما أجمل الحرية والفرص الثانية!