الجزر المنعزلة: موت الحلم الجماعي في عصر السوشال ميديا
لعبت مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها موقعا Facebook وTwitter خلال العقد الماضي، دورًا كبيرًا في التقريب بين قطاعات وفئات واسعة من الشباب العربي من ذوي الاهتمام المشترك، وفي خلق مساحة حرة سمحت لهم بالتفاعل والحوار وتبادل الخبرات، عوضًا عن المجال العام المسدود والمختنق في العالم العربي.
تلاشت المسافة بمرور الوقت بين عالم هؤلاء الشباب الافتراضي والعالم الواقعي، من خلال تنامي دور مواقع التواصل في تنظيم الفاعليات الجماهيرية الثقافية والفنية والسياسية على أرض الواقع، وفي الدعوة إلى التعبئة والحشد السياسي. ومثلت ثورات الربيع العربي في هذا السياق ذروة هذا التأثير.
بالتزامن مع غرق الجميع في التناقضات السياسية الثانوية، بعد الإطاحة بعدد من الزعماء العرب الذين مثل استبدادهم السياسي التناقض الرئيسي مع تلك المجتمعات الثائرة، اتجهت منصات التواصل الاجتماعي، في إطار زيادة سعيها الربحي من الدعاية الإعلانية، في تطوير خوارزميتها على نحو بات يدعم التحيزات الموجودة مسبقًا لدى كل فرد، بناء على المعلومات التي تحصل عليها تلك المواقع من مجمل تفاعلات المستخدم السابقة، ومن ثم الاستفادة منها في ترشيح نوع المحتوى المتداول المناسب أمام كل مستخدم.
مع تفجر التناقضات الأيديولوجية والطائفية والسياسية في العالم العربي بعد اندلاع الثورات، عمل تحول البنية الرقمية لمواقع التواصل الاجتماعي، المتزامن مع هذا الاستقطاب والانقسام السياسي، خلال وقت قصير، على تشكيل جزر اجتماعية وثقافية وسياسية منعزلة، يعيش كل فرد خلالها داخل فقاعة، شكلتها تحيزاته، التي تكرست عبر الذكاء الاصطناعي.
فاقم ذلك تشظي المجتمع العربي، وأدى إلى تحويله إلى كيانات معزولة عن بعضها البعض، محرومة من التفاعل، على نحو انهار معه التضامن العام، وتهاوت معه السرديات الكبرى والأحلام المشتركة التي تشكلت في الخيال الجماعي العربي عبر عقود، من خلال وسائل الإعلام الرئيسية، بدءًا من الإذاعة مرورًا بعصر التلفزيون وأطباق الستالايت والفضائيات وصولًا إلى فترة بداية شبكة الإنترنت.
إعلام الصندوق الصغير
انتشرت خدمات البث الإذاعي في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي، باللغات الأجنبية للأجانب المقيمين في مصر، وباللغة العربية للمصريين المقيمين في مدينتي القاهرة والإسكندرية بشكل خاص. وكانت المحطات الإذاعية في ذلك الوقت ضعيفة الإرسال، تتراوح مدة إرسالها في اليوم الواحد بين ساعتين وأربع ساعات.
تميز طابع الإذاعة في ذلك الوقت بالطابع الترفيهي، واعتمدت المحطات التي كانت تُبث حينها من شقق صغيرة ويديرها عدد محدود من الأفراد، في تحديد المحتوى الذي تقدمه من خلال التعرف على رغبات المستمعين عن طريق الخطابات والمكالمات. وكان من أبرز المحطات التي نشأت في ذلك الوقت محطة راديو فؤاد التي أسسها عزيز بولس، ومحطة راديو فاروق لصاحبها إلياس شقال.
توقفت كل تلك المحطات الصغيرة عن البث، بعد إطلاق الحكومة المصرية محطة الإذاعة المصرية، التي تولى تدشينها شركة ماركوني للتلغرافات والاتصالات اللاسلكية عام 1934. بدأت المحطة بثها يوم 31 مايو/ أيار عام 1934 الساعة الخامسة والنصف مساء، بآيات من القرآن الكريم من تلاوة الشيخ محمد رفعت، تلاها مباشرة صوت «الآنسة» أم كلثوم التي أحيت حفل افتتاح القناة هي وفنانون آخرون من أبرزهم المطرب صالح عبدالحي و محمد عبدالوهاب، والشاعر علي الجارم الذي ألقى قصيدة تحية للملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان.
تطور محتوى البث الإذاعي بشكل لافت، بعد انطلاق تلك الإذاعة الرسمية التي كانت تبث نحو 14 ساعة يوميًا في المتوسط باللغة العربية للمصريين، وأربع ساعات باللغتين الإنجليزية والفرنسية للأجانب المقيمين في القاهرة والإسكندرية.
بعد 23 يوليو 1952، سعى النظام السياسي في مصر للعب دوراً تحررياً مناهضاً للاستعمارين الإنجليزي والفرنسي في الأقطار العربية. في هذا الإطار تأسست إذاعة «صوت العرب» في القاهرة، وانطلق أول بث لها في عام 1953.
تطورت خدمة البث في العام الأول من مدة نصف ساعة إلى ساعة كاملة، ثم ازدادت في العام التالي إلى ساعتين، ثم 7 ساعات في العام نفسه، ثم أصبح البث أخيرًا 22 ساعة يوميًا، وتمت زيادة قوة الإرسال، ليمتد على طول مساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
شنت إذاعة صوت العرب حملة عنيفة على الاستعمار الفرنسي في دول المغرب العربي، وكان من أبرز تأثيراتها في هذا السياق، عودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب عام 1955 بعد نفيه من قبل الفرنسيين في عام 1953، ودعم الثورة الجزائرية بين عامي 1954 و1962 حتى تحقق الاستقلال للجزائريين.
يروي أحد صحفيي جريدة لوموند الفرنسية المختصين بالشرق الأوسط عن تأثير إذاعة صوت العرب التي تُبث من القاهرة في هذا السياق:
عصر التلفزيون: المجال العام كمسرح
يقول محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب»، إنه بينما كان يحتل الزعماء السياسيون المخضرمون الساحة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت هناك ثورة جديدة تتشكل في تلك الأثناء، ألا وهي ثورة انتشار وسائل الإعلام المرئية، التي أثرت على الحياة السياسية، وصنعت جيلاً جديداً من الساسة، صنعتهم الشهرة والأضواء، على النمط نفسه الذي يُصنع به النجوم السينمائيون.
يطرح هيكل في هذا السياق أسماء شهيرة مثل: «الباب يوحنا بولس الثاني، جاكلين كيندي، هنري كيسنجر، والرئيس المصري الراحل أنور السادات». وهي قائمة يمكن أن نضيف إليها من جانبنا العديد من الأسماء مثل: الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان (ممثل سينمائي سابق)، الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي، وفي الوقت الحاضر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على سبيل المثال.
عوضًا عن السرديات السياسية الكبرى مثل السرديات القومية كالفاشية والنازية، والسرديات الأيديولوجية مثل: الشيوعية والاشتراكية والليبرالية، والزعماء السياسيين من الوزن الثقيل من عينة جوزيف ستالين وأدولف هتلر وماو تسي تونج وونستون تشرشل وأيزنهاور، أصبحت السياسة تعتمد بشكل أكبر على التخييل، عبر آليات الدعاية والإعلان الرئيسية، وعلى رأسها التلفزيون الذي انتشر وصار موجوداً في كل منزل تقريبًا خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.
عمل انتشار التلفزيون، على هذا النحو الواسع والمطرد، على خلق أنماط سائدة في الذوق الفني والمزاج السياسي، وعزز وجود تيار اجتماعي وثقافي رئيسي، في المجتمعات العالمية المختلفة.
على هامش تلك الثورة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ظل هناك مسار مواز للمحرومين من التحدث إلى الجماهير عبر تلك الوسائل، ألا وهو شريط الكاسيت، الذي لعب دورًا كبيرًا في حدثين مهمين للغاية في النصف الثاني من القرن العشرين، ألا وهما: الثورة الإيرانية والصحوة الإسلامية.
حيث اعتمد آية الله الخميني على شرائط الكاسيت، في التواصل مع الجماهير الإيرانية من منفاه خارج إيران خلال نهاية فترة حكم الشاه، وكذلك اعتمد معظم الدعاة في العالم السني خلال بداية فترة الصحوة الإسلامية على ذات الوسيلة في التواصل مع قاعدتهم الجماهيرية العريضة.
عكست نشأة القنوات الفضائيات وانتشار استخدام أطباق الستالايات في العالم العربي، وجود تيارين: رئيسي وثانوي، يتنازعان الساحة الإعلامية، من خلال القنوات الترفيهية سعودية التمويل التي كانت تبث من لبنان ودبي، وفضائية الجزيرة التي انطلقت من الدوحة عام 1996، وتحولت إلى منبر للمعارضين السياسيين في العالم العربي، ولعبت دورًا كبيرًا في اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، التي اصطدمت بدورها بثورة مضادة عاتية، أدت إلى ردة كبيرة في الحريات السياسية، ونزاعات طائفية وجهوية مدمرة في أكثر من بلد عربي، مثل ليبيا واليمن وسوريا.
خلال تلك العملية من التقهقر السريع إلى الوراء، تحول اهتمام برامج التوك شو في مصر بشكل خاص، من السياسة إلى المنوعات والفن والرياضة، وتحول اهتمام الجماهير الذين لم يبقَ أمامهم الكثير من الخيارات، إلا عودة الاهتمام على نطاق واسع بالرياضة ومباريات كرة القدم، وأخبار اللاعبين وانتقالاتهم بين الأندية، وأخبار الفن والفنانين والمشاهير.
ويمكن من خلال نظرة سريعة على التريند في مصر على مدار عدة أيام في موقع تويتر على سبيل المثال، فهم طبيعة ذلك التحول الواسع في الاهتمام الجماهيري لمواضيع الفن والرياضة.
تهاوي السرديات الكبرى : الفردانية الجديدة في العالم العربي
مثلت الحالة التي صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي بعد فترة الربيع، ذروة ما أطلق عليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان فرانسوا ليوتار نهاية «السرديات الكبرى» في الغرب خلال فترة ما بعد الحداثة، بسبب عدم ثقة المتزايد من قطاعات واسعة في سرديات الحداثة الأوروبية الرئيسية التي تقدم معنى غائياً للتاريخ كالتنوير والتقدم والماركسية؛حيث تعرضت الاتجاهات السياسية الكبرى في العالم العربي، وآخرها تيار الإسلام السياسي لتراجعات ملحوظة، مع إخفاق ملموس في تشكل بدائل سياسية واجتماعية تعوض هذا الانحسار لتلك الاتجاهات والتيارات.
لا يساعد الدور الذي تلعبه السوشيال ميديا حاليًا، على تشكيل تيار رئيسي في المجتمع كما كانت تفعل الـmainstream media الإعلامية سابقًا من الإذاعة مرورًا بالتلفزيون الأرضي ونهاية بفترة انتشار أطباق الستالايت ومتابعة الفضائيات. تلك الوسائل التي صنعت في يوم من الأيام «الحلم العربي» الناصري، والانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، والربيع العربي الذي لعبت قناة الجزيرة دورًا لا يستهان به في إطلاق شرارته.
وختامًا،ربما لا يوجد خير من مشهد مجموعة على الأصدقاء، يجلسون على أحد المقاهى في مدينة أو قرية عربية، حيث يجلس كل واحد منهم مشغولاً بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي على هاتفه الذكي، كصورة تعكس مستوى التذرر الاجتماعي المفرط، الذي بات يعيشه الجميع في عصر السوشال ميديا، الذي يعيش خلاله كل فرد مشغولاً بعالمه الخاص المحدود وسرديته الصغرى.