مسلسل «البحث عن علا»: الأمل متاح للقادرات على شرائه
تميز مسلسل «عايزة أتجوز» لكاتبته غادة عبد العال والمخرج رامي إمام عن كثير من الأعمال المشابهة له باستخدامه أداة لا نراها كثيرًا في الأعمال المصرية وهي كسر الحائط الرابع بشكل مباشر، بعيدًا عن مدى جودة المسلسل إلا أنه نجح في العيش في ذاكرة كثيرين لأعوام لسببين، هما استخدام تلك الأداة وانتماء شخصياته لطبقة يسهل على أكبر قدر من المشاهدين التوحد معها، يرتبط عايزة أتجوز في الأذهان بخاصة مع استرجاعه وإعادة تقييمه في وقتنا هذا بوصفه أنه «يشبهنا»، أي المنتمين للطبقة الوسطى، يرتبط تأثير استخدام كسر الحائط الرابع بانتماء المسلسل وأبطاله لتلك الطبقة، لأنه يسمح بالتواصل المباشر مع شخصية نراها على الشاشة ونشعر أنها صديقة لنا، لأنها ترتدي ملابس مشابهة لمعظمنا وتعيش في بيوت نعرفها، وتملك أبوان نراهما حولنا كل يوم، ذلك التواصل المستمر ونظرتها المباشرة إلى الشاشة جعل شخصية علا عبد الصبور التي اشتهرت بها هند صبري تستمر وتعيش في أذهان كثيرين، حتى من رأى المسلسل في وقته ذا كوميديا مباشرة تعتمد على رفع الصوت والنكات المتوقعة لا يمكنه الآن إنكار استمرار تأثيره.
تعود علا في عام 2022، في عالم مختلف، تنظر إلينا كما فعلت من قبل وتخبرنا عما حدث في الفترة السابقة، لكن عنصر التشابه يختلف كثيرًا، ربما تشبه البعض بالطبع لكن ليس الأغلبية العظمى، لم يعد يمكن التعرف على التشابهات بين البيوت العادية التي يعيش بها المعظم وبيت علا ولا بين طبيعة حياتها وطبيعة الحياة التي لا تنتمي إلا لقلة تعيش من دون أي قلق مادي، لا تخاطب علا ذلك التغير المفاجئ ولا يبدو أنها تلحظه أصلًا، فهي الآن تنظر لنا من عالم آخر، ينظر إليها البعض مباشرة، من يشعرون بقربها لهم الآن لكن الأغلبية تنظر إلى شخص آخر.
رجال الأحلام السحريين
في النسخة الجديدة من حياة علا عبد الصبور في المسلسل القصير الصادر عن نتفليكس «البحث عن علا» والذي يشارك فيه كتابته كل من غادة عبد العال ومها الوزير ويخرجه هادي الباجوري ، لا تبحث علا عن زوج أو رجل، لا تريد علا أن «تتجوز» فلقد حدث ذلك بالفعل ونتج عنه طفلين، لكنها في مرحلة البحث عن ذاتها، التعرف عليها من دون الحاجة إلى رجل يعرفها بنفسها أو تعرف نفسها به، تتعرض علا هنا إلى العرض الجانبي للزواج، الطلاق، يتركها زوجها هشام (هاني عادل)، وتذهب في رحلة لاستكشاف رغباتها التي تخلت عنها في سنوات طويلة في زواج غير سعيد لكنه مستقر، لكن الغريب أن رحلة البحث عن الذات تتحول بقصد أو من دون إلى رحلة بحث عن الرجال أيضًا، لكن في سياق مختلف عن البحث عن زوج، يعد الرجال هنا محطات مساعدة في حياة سيدة مطلقة حديثًا، لا تسير الأمور من دونهم، من دون أموالهم أو إلهامهم.
في اللحظة التي تقرر علا أن تفتح مشروعًا مستقلًا لكي تنفق على نفسها بعد أعوام أجبرها زوجها فيهم على عدم العمل، تصطدم برجل ثري وسيم متخصص في ريادة الأعمال، طارق (خالد النبوي)، يعطيها الدفعة الرئيسية لبدء عملها ويضعها على الطريق الصحيح، تتردد علا في طبيعة علاقتهما وتشك في وجود إعجاب متبادل بينهما لكن الرجل الساحر يخبرها أن الأشياء ليست كما تبدو عليه دائمًا ثم يختفي مثل جنية مساعدة قامت بواجبها، بعد استقرارها في العمل تقابل علا شابًا وسيمًا جديدًا اسمه آدم (عمرو صالح) لكن هذه المرة يوقظ فيها الشجاعة والقوة على ملاحقة أحلامها وتحقيق قائمة أمنياتها مثل الذهاب في رحلات Hiking أو الحصول على وشم وركوب دراجة بخارية، يصغر آدم علا بعدة سنوات وعلى الرغم من تبني المسلسل رؤية تقدمية نحو الفرق في السن فإنه يتراجع عنها ويمحي أي إمكانية لوجود علاقة بين آدم وعلا ويختفي هو الآخر بعد القيام بدوره في حياة بطلتنا.
يتبع ذلك النمط من تقديم الشخصيات الرجالية نمط ظهر في فترة في الأفلام الأمريكية قدمت به الشخصيات النسائية في حيوات الأبطال، أعطاه الناقد ناثان رابين اسم فتاة الأحلام السحرية الهوسية Manic Pixie Dream Girl، عادة ما تكون تلك الفتاة جميلة، لكنها مجوفة من الداخل لا تبدو وكأنها شخصية حقيقية، هدف وجودها في السيناريو هو مساعدة البطل الشاب المفكر الحزين على تخطي أحزانه وفتح آفاقه على إمكانيات الحياة ومتعها، يملك وجودها هدفًا واحدًا وهو دفع قصة البطل إلى الأمام، ومثل الفتاة السحرية يوجد فتى أحلام سحري، يملك نفس الأوصاف ويوجد لنفس الأهداف، وكأن البطلة لا يمكن أن تمضي في حياتها من دون ذلك الشاب الساحر الذي يهمس بمعاني الحياة وإمكانياتها ويختفي بعد انتهاء دوره، ما يضيفه البحث عن علا لذلك النمط هو كون ذلك الفتى أو الرجل ثريًا وليس غرائبيًا أو يملك حرية يمكن وصفها بغير المعتادة، فعادة ما يملك الفتى السحري آراء مناهضة للرأسمالية أو للعمل المنظم ويشجع الفتاة على التحرر من تلك القيود، هنا يحدث العكس فإن السحر والحلم يكمنان في كون الشاب جزءًا من منظومة مادية محددة يقدس العمل والاستقرار المادي.
يسوق البحث عن علا لنفسه باعتباره رحلة اكتشاف للذات بعد الانفصال، نوع محدد جدًا من الانفصال يحدث بعده خلل كبير في تعريف المرأة لنفسها، عاشت علا أعوامًا كتابع لزوجها ولوالدته ولمجتمع أكبر منهما تطيعهما وتنفي احتياجاتها، لكن لسبب ما لا يبني العمل نجاح علا في العيش من دون زوج على مجهوداتها الشخصية بل على اعتمادها على أكبر عدد ممكن من الرجال في طريقها إلى ذلك وبالطبع على استقرارها المادي الذي يتيح لها الاختيار بين عدد لا نهائي من الاختيارات لعيش حياتها الجديدة، تختزل تلك الرؤية أمل النساء في فرصة ثانية في القدرة على شراء تلك الفرصة أو حظهن الجيد في مقابلة رجل ما يقدر بدلًا منهن.
هل تنتمي الكوميديا إلى طبقة محددة؟
لا يفرق الطلاق أو انكسار القلب والاكتئاب الناتج عن الانفصال بين مستوى اجتماعي وآخر، يختبره كل إنسان مهما كان رصيده في البنك، لكن الوصمة التي تصاحب المرأة المطلقة تملك طبقة اجتماعية محددة وليست مشكلة عامة بالشكل الذي يصوره المسلسل، يعطي العمل إشارات مزدوجة فيما يخص رد الفعل على الطلاق، تراه السيدات الأكثر انفتاحًا خروج من سجن وإنجاز يجب الاحتفال به، وتشجبه بعض الأخريات المتمثلات في أمهات زملاء أبناء علا في المدرسة، اللاتي تسخر منهن علا ومن خياراتهن في الحياة، لكن يتم تصوير نظراتهن العابرة وكأنها نظرات قاتلة في حين أنها نظرات متبادلة بين الطرفين، لذلك يمكن تصور للحظة حدوث الطلاق في طبقة علا القديمة أو حتى طبقة أعلى نسبيًا، هنالك وصمة حقيقية لا يمكن لوشم أو رحلة تخييم حلها، الخفة في التناول ليست مشكلة في ذاتها، من حق المشاهدين الاستمتاع بعمل خفيف ينسيهم مشكلاتهم، لكن كون البحث عن علا مرتبطًا بإرث متعلق بطبقة معينة تمثل الغالبية العظمى من سكان مصر هو ما يجعل النسخة الجديدة مليئة بشعور ثقيل بالاغتراب.
من المنطقي أن تترقى علا بعد الزواج من شخص أثرى منها لكن مستواها الحالي لا يترك أثرًا ولو عابرًا لحياتها القديمة وإذا كانت الرغبة الرئيسية من العمل هو صنع قصة مسلية وخفيفة عن التحقق فإن وقوع الأحداث خارج المجمعات السكنية المغلقة لم يكن ليمنع ذلك، لم يكن «عايزة أتجوز» مسلسلًا ثقيلًا أو كئيبًا بل استمتع به وتواصل معه معظم من شاهدوه، إمكانية الخفة والكوميديا غير محصورة على أو مرتبطة بالجمال الذي تصنعه الماديات، بل ترتبط أكثر بالمفارقات الطبقية والجندرية، فنظرية أنه مجرد مسلسل خفيف لا تنفي عنه كونه انفصاليًا.
بعد طلاق علا واجهت واقع أنها سوف تعمل بعد أكثر من عشر سنوات من كونها ربة منزل متفرغة، فهي الآن بلا مصدر دخل حقيقي إلا نفقة طلاقها التي سوف تغطي مصاريف أبنائها وحياتهم المريحة أما مصاريفها الشخصية والحفاظ على مستوى حياتها فهو مسئوليتها بالكامل، لم تضطر علا لأخذ أي إجراءات متعسفة للإنفاق على نفسها من دون زوج، ومن دون خبرة عملية غير عملها قبل الزواج، بدأت مشروع صغير يعتمد على التسويق الإلكتروني وهو أكثر أنواع المشاريع رواجًا بخاصة بين السيدات، لكنها بالطبع نجحت في لمح البصر بعائد ضخم مكنها من افتتاح فرع من ذلك المشروع على الأرض، لم تواجه علا أي صعوبات مادية بعد انفصالها وهو ما كان سوف يخدم الكوميديا والخفة التي يسعى إليها المسلسل إذا اضطرت إلى العودة والعيش في بيت والدتها مثلًا أو عادت إلى حياتها القديمة أي مسلسلها القديم، ألم يكن ذلك ليولد العديد من المفارقات الذكية والمضحكة في آن؟
يملك البحث عن علا قلقًا حقيقيًا من المناطق غير المغلقة، ربما يعود ذلك الى طبيعة الإنتاج المتصلبة في مصر حاليًا واستحالة التصوير بحرية في الشوارع وسط المدن، والحكم الجاهز على أي عمل يصور أي طبقة مغايرة للطبقات الأعلى بالخيانة أو القصور في رؤية التطور، نادرًا ما نرى أي مساحة غير داخلية إلا المناظر الطبيعية الساحرة من جبال وكثبان رملية، أو طرق دائرية لقيادة السيارات، عندما تنتقل الأحداث إلى منزل والدة علا نرى لمحة داخلية منه، يبدو كمنزل فوق متوسط يشابه ما اعتدنا عليه في النسخة الأولى من المسلسل لكننا نقفز إلى المساحة الداخلية فورًا لا يوجد أثر لطبيعة حياة أخرى خارج ذلك، تبدو أحداث العمل وكأنها تقع في محاكاة للحياة أبعد حتى من كونها تقع في مجمع سكني مغلق، يمثل ذلك فرصة ضائعة لمفارقات يمكن أن تثري العمل بين حياة علا الجديدة والقديمة لكن ذلك التحول يتم تجاهله بالكامل وكأنها ليست هناك فجوة من الأساس، يسمح المسلسل لنفسه قرب نهايته بالتنفس في مكان مفتوح يظهر معالم مدنية مألوفة، ربما حين يترك بطلته تتنفس كذلك.
نقاط القوة
ينجح البحث عن علا بشكل أكبر في تناوله علاقات الأبوة والأمومة في اللحظات التي يتوقف فيها عن كونه كتابًا تنمويًا عن تحقيق الذات، حينما يتم التركيز على أثر الانفصال أو موت أحد الوالدين على الأبناء يصنع العمل مشاهد إنسانية مؤثرة تتجنب الصور النمطية عن الأبوة والأمومة، يعزز من ذلك أداءات متميزة جدًا من الممثلاث والممثلين في الأدوار الأصغر سنًا بخاصة ياسمين العبد في دور زينة وأيسل رمزي في دور نادية، بعد عدة حلقات من إرساء شخصيات الأبناء بالطرق المبتذلة التقليدية أي طرح فروقات الأجيال والنكات حول التكنولوجيا واستخدام اللغات الأجنبية تتطور الشخصيات لتصبح أكثر إنسانية، ذات مشاعر حقيقية وانكسارات يمكن لأي مراهق التواصل معها.
ينطبق ذلك أيضًا على تناول زلات ونجاحات علا كأم والتوازن بين عدم الحكم على أخطائها أو الاحتفاء بهروبها من مسئولياتها، يصنع ذلك التوازن ديناميكية واقعية لصعوبة التربية الفردية والموازنة بين التحقق الذاتي والذوبان التام بين الأم وأبنائها، لا يعكس العمل ديناميكية مشابهة بالنسبة للأب هشام لكنه يركز على أب آخر وهو مروان (أحمد طارق) الأب الأرمل الذي يتولى رعاية فتاة مراهقة وحيدًا، مثقلًا بالذنب لكنه بعيد وبارد المشاعر، ربما إذا مد العمل فترة أطول لجعل تلك عقدته الرئيسية أي تأثير الطلاق والفقد على الأطفال كان سيصبح أكثر قربًا وتأثيرًا، وكان ليبعد عن مشكلات التناول الطبقي للمرأة المطلقة أو تحقيق الذات السطحي القادم مباشرة من رواية وفيلم كل، صل وأحب Eat, Pray, love.
البحث عن علا عمل خفيف ومسل مثل ما هو متوقع من مسلسل من إنتاج «نتفليكس»، لكنه يفقد الكثير مما جعل شخصياته محبوبة من الأساس، ويملك نظرة قاصرة على ما يعنيه أن تمر امرأة بتجربة مثل الطلاق في مجتمع محدد ولحظة محددة من الزمن، لكنه يقدم ست ساعات هروبية تقدم حلولًا خيالية وآمالًا سهلة ربما تنسي من يشاهدها واقعه أو تذكره بمدى ابتعاد واقعه عن أرض الأحلام.