البحث عن أول رواية عربية
الضبابية تسيطر على المشهد بين أفراد الشعب؛ فمحمد علي الذي أحضروه ليكون والياً عليهم بشيء من إرادتهم يأخذ أبناءهم للتعليم الإجباري، فيظنون أن ذلك من أجل التجنيد! ويقوم محمد علي بوضع خطة لنهضة كبرى لم يستطيعوا أن يحددوا معالمها، فالبعثات تذهب إلى أوروبا لتعلم شتى الفنون.
بداية كبيرة لمصر في القرن التاسع عشر بعد سنوات من التخبط؛ أنتجت في نهاية القرن طبقة وسطى مزدهرة مكتملة في نظامها الاجتماعي والسياسي بشكل كبير، وتستطيع أن تغير من شكل المجتمع.
في الوقت الذي أصبح فيه محمد علي قريباً من بلاد الشام وتحاول الدولة العثمانية إيقاف توسعاته، هاجر العديد من الشوام -وهو ما كان يطلق على القادمين من سوريا ولبنان وفلسطين- إلى مصر هرباً من الصراع الطائفي هناك، أو من الفقر وعدم استقرار الأحوال، وأيضاً للبحث عن بداية جديدة؛ فمصر وقتها تعتبر تربة خصبة لمن يريد أن يشارك ويلعب دوراً في الحياة السياسية أو الثقافية.
أصبح التقارب بين بلاد الشام ومصر كبيراً، وساهم هذا الاختلاط في إفراز ألوان جديدة من الفنون، والتأصيل لفنون قادمة من الغرب كالرواية والمسرحية، وظهرت شخصيات عديدة تحاول أن تكون رائدة في مجالها وتضع بصمتها في كل فن تسبر أغواره.
بدأت حركة الترجمة في التفتح، وساعد بروز الطبقة الوسطى على هذا الازدهار؛ في وجود قرَّاء يستهلكون ما يترجم من أعمال، بجانب صدور الصحف بكثافة، مما جعل الأمور ممهدة لخروج جيل يكتب ويشارك في التجربة الأدبية بإبداع عربي خالص. ولكن ظلت المعضلة إلى الآن في معرفة صاحب البداية الحقيقية لكتابة الرواية، وكيف كانت الظروف التى هيأت لهذه البداية.
غابة الحق – فرنسيس المراش
ربما لم يلحق فرنسيس المراش بالكثير من الأحداث والنقلات الكبيرة التي حدثت في مجال الأدب لأنه عاش حوالي 37 عاماً فقط، ولكنه ترك آثاراً أدبية تستحق التوقف عندها والنظر فيها بحكمة. ولد فرنسيس في حلب وسافر إلى الكثير من البلاد، وفتنته المدن الأوروبية وبالأخص باريس، ورأى في مبادئ الثورة الفرنسية الحل السحري لكل مشكلات العرب.
قدم المراش (غابة الحق) عام 1865 على أنها كتاب، ولم يذكر كلمة رواية على الرغم من وجود إطار قصصي بداخلها بين مملكة الحرية ومملكة الرق، ودعوته إلى مبادئ الحرية السياسية والمساواة والعدالة الاجتماعية ورفض الاستبداد والتمييز الطبقي والطائفي داخل القصة، ولكن في هذا العصر ظهر العديد من الأعمال بصيغة كتاب بدون تحديد النوع الأدبي؛ مما جعل العديد من النقاد يدخلون في دائرة الحيرة حول ما إذا كانت هذه أول رواية عربية، أم لأنه لم يذكر نوعها الأدبي فهي محض تأملات وخواطر !(1)
الساق على الساق في ما هو الفارياق – أحمد فارس الشدياق
لبناني ولد في بداية القرن التاسع عشر، يبحث عن الهوية في ظل وجود الدولة العثمانية، عاصر كلاً من فيكتور هوجو وإدجار آلن بو وتشارلز ديكنز، كتب (الساق على الساق) ونشرها في باريس عام 1855، وهو نص روائي يحكي فيه عن رحلته إلى فرنسا وبعض الرحلات الأخرى، ولكن بشكل قصصي مميز، ويسخر فيه من الأوضاع في البلاد، ويحاول جاهداً أن يبحث عن هويته في محاولة سردية فريدة من نوعها.
حاول الشدياق أيضاً أن يتخلص من طرق الكتابة القديمة الملتزمة بالسجع والبديع وحسن التقسيم، ومع ذلك فقد استطاع أن يجعل سرده حلقة وصل بين الموروث من الكتابة العربية والمستحدث من الغرب.
في ذلك الوقت تقريباً نُشر كتاب عائشة التيمورية بعنوان (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال)، فهل نستطيع أن نعتبر الساق على الساق مشاركة عربية مؤثرة في الطرح العالمي للأدب وقتها؟!
في نهاية عام ٢٠١٥، تُرجمت الرواية للإنجليزية على يد همبري ديفيز، وصدرت عن مطبعة جامعة نيويورك في 4 أجزاء يبلغ مجموع صفحاتها أكثر من مائة ألف وثمانمائة صفحة .
حسن العواقب – زينب فواز
عن أحداث حقيقية، كتبت زينب فواز السورية رواية (حسن العواقب) أو (غادة الزهراء) لتحكي عن أبطال حقيقيين وتنشر مبادئها الداعمة للمرأة والصراع بين الخير والشر وأيضاً حق المرأة في الاختيار، وقد عرفت زينب عملها الأدبي بكونه رواية.
جاءت زينب فواز إلى مصر من سوريا وهي في سن العاشرة، وأتيحت لها فرصة التعلم خلال وجودها في مصر، وكانت من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة، وسبقت قاسم أمين في الدعوة لحقوق المرأة، فقد نشرت كتابها (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) عام 1892، وجمعت فيه سيراً لمجموعة نساء مؤثرات في الحياة من عصور مختلفة.
ويعتبرها حلمي النمنم أول رواية عربية، وأول رواية كتبتها امرأة عربية على الرغم من وجود عائشة التيمورية بكتابها (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال) عام 1885، ووجود أليس بطرس البستاني وروايتها (صائبة) عام 1891!
وفي عام 2004 بمناسبة مرور العقد الأول من مشروع مكتبة الأسرة، تم طباعة ونشر رواية (حسن العواقب) مع كتابة «أول رواية عربية» على غلافها!
زينب (مناظر وأخلاق ريفية) – محمد حسين هيكل
تعتبر رواية (زينب) أول رواية يكتبها محمد حسين هيكل، وقد كتبها وهو في باريس. وتحاول الرواية أن تصور الحياة في الريف المصري والعلاقات الرومانسية والزوجية فيه، ويظهر فيها شيء كبير من ملامح الحياة الواقعية في الريف المصري، وقد تأثر هيكل بجان جاك روسو والمدرسة الرومانسية الغربية.
وعندما نشرت الرواية عام 1914، لم يضع هيكل اسمه عليها، بل وقع بـ «مصري فلاح» خوفاً على مكانته الاجتماعية لكونه محامياً!
ويعتبر الكثير من النقاد أن رواية (زينب) هي أول رواية عربية تلتزم بالمعايير الغربية للرواية، وأنها المحاولة الأكثر نضجاً فيما يخص هذا النوع من الأدب.(2)
محاولات أخرى
كانت المحاولات كثيرة ومتعددة، ويمكن اعتبارها جميعاً مرحلة تشكيل البدايات لظهور الرواية بشكلها الكامل.
نشرت رواية (الهيام في جنان الشام) لسليم بطرس البستاني في عام 1870، وكان ينشر أجزاءً منها في مجلة والده (في الجنان)، وهي المجلة العربية الأولى التي اهتمت بالقصة، واستوحى أحداث الرواية من البيئة التي عاش فيها بلبنان، وتبعته أخته أليس بطرس البستاني ونشرت روايتها (صائبة) عام 1891، وتأثرت بأبيها وأخيها، ولكنها عالجت في الرواية مشكلات المجتمع من حولها ولكن بنظرة نسائية، وهذه هي روايتها الوحيدة التي كتبتها وهي في الواحد والعشرين من عمرها، ولا نعرف لماذا توقفت عن الكتابة!
عائشة التيمورية أيضاً لها بصمتها ومحاولاتها في رواية (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال)؛ وهي من الروايات التي أحدثت حركة قوية في تحول الشعراء إلى فن الرواية والتجربة فيه، ولبيبة هاشم لها محاولة أيضاً وهي رواية (حسناء الحب) عام 1898، ولا يمكن أن نغفل عن دور جورجي زيدان المهم في سرد الأحداث التاريخية بطريقة روائية.
بالإضافة إلى محاولات أخرى مهدت جميعها الطريق للوصول إلى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988.
تأثرت الرواية بالغرب وسبقت مرحلة الإبداع مرحلة الترجمة والتعريب، وكذلك التقليد ومحاولة محاكاة الرواية الغربية دون إضفاء الطابع العربي. وقد حاول بعض الكتاب التحرر نهائياً من كل الموروثات في الكتابة، وحاول آخرون التمسك والسير على نفس النهج القديم، وبعضهم حاول أن يمسك بالعصا من المنتصف دون تفريط في النهج القديم أو مبالغة في التجديد، وسهل الالتقاء بين مصر والشام حدوث حراك ثقافي مهم أثرى من فترة المخاض حتى ميلاد ونضج الرواية العربية.
ما زال اختلاف النقاد في تحديد أول رواية عربية يعد اختلافاً ثرياً ومفيداً ويكشف لنا عن الجديد، طالما كان بعيداً عن الاختيارات المعتمدة على النزعات القبلية والانحيازات الضيقة، فهو مجرد اختلاف في معايير تقييم العمل ومدى تأثيره في تاريخ الأدب العربي وتأثره بالأدب الغربي.
إن جميع المحاولات مهمة وتستحق النظر إليها عن كثب، ويجب معرفة أن الوصول إلى ما نحن عليه الآن لم يكن ليحدث لولا محاولة بعض الرواد التجريب ومحاكاة المجتمع بطريقة روائية تعالج ما يحدث، وتعرفنا أن ليس كل التاريخ يحكى.
- الرواية العربية الأولى
د.جابر عصفور
مجلة العربي الكويتية
العدد724 مارس 2019