من ليالي الحلمية إلى جعفر العمدة: البحث عن «الأسطى شاهين»
في فيلم «حدث ذات مرة في هوليوود – Once Upon a Time… in Hollywood» للمخرج «كوينتين تارانتينو»، كان من بين الخطوط التي التقطها الفيلم هي قصة الممثل «ريك دالتون» (ليوناردو دي كابريو) بطل أفلام «الويسترن» الذي عاش ذروة نجوميته في العصر الذهبي لهوليوود، ويحاول استعادة تلك النجومية الاَخذة في الأفول بعد بداية مرحلة جديدة في هوليوود، يعتمد نجاح العمل السينمائي فيها على معايير جديدة. تيمة قد سبق أن تناولها صناع السينما في أعمال أخرى، أبرزها ما قدمه المخرج بيلي وايلدر في الخمسينيات في فيلمه الشهير «Sunset Boulevard».
خطر على ذهني هذا وأنا أشاهد مسلسل جعفر العمدة، حديث الساعة في الموسم الرمضاني 2023. تحديدًا عندما رأيت الفنان فتوح أحمد الذي يقوم بدور الخال فتوح. لسبب ما، يرتبط فتوح أحمد في ذهني بشخصية الأسطى شاهين، الشخصية التي جسدها فتوح أحمد في دراما ليالي الحلمية. رغم أن الفارق بين الأسطى شاهين في ليالي الحلمية والخال فتوح في جعفر العمدة قد يبدو للكثير راجعًا لأسباب تتعلق بكتابة الشخصيتين والسياق الدرامي الذي يدور فيه كل عمل، لكن لا يمكن إغفال أن الفرق في المساحة التي تركت للشخصيتين للظهور والتعبير عنهما، بشكل ما، يعكس ذلك الفرق بين الدورين الاختلاف الكبير الذي طرأ على صناعة الدراما التلفزيونية في السنوات الأخيرة، والذي أصبح مادة للتناول من قبل النقاد والجمهور المتلقي على منصات التواصل الاجتماعي.
الأسطى شاهين: لا مكان للبطل الواحد
في عام 1987 قدم أسامة أنور عكاشة بالتعاون مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ الموسم الأول من دراما ليالي الحلمية التي استمرت إلى الموسم الخامس 1995. على مدى الخمسة الأجزاء يدور العمل حول مركزية الصراع بين سليم البدري/يحيى الفخراني وسليمان غانم/صلاح السعدني. يبني صناع العمل الجزء الأكبر من السيناريو على الصراع بين الاثنين، سواء التنافس بينهما في الانتخابات أو الظفر بحقوق ملكية الشركات، أو حتى الزواج من نازك السلحدار. لكن مع تقدم الأحداث منذ الجزء الثاني نرى خطوطًا سردية أخرى تتقدم تدريجيًّا وبخفة تتوازى مع الخط الذي يمثل الصراع القائم بين الباشا والعمدة، فيظهر وجوه أخرى قد يظن المشاهد لوهلة أنها ستمثل أدوارًا هامشية لن يتأثر العمل بغيابهم، ولكن نظل نتابع مسيرة هؤلاء بطول الخط الزمني الذي تدور فيه أحداث العمل من الأربعينيات حتى منتصف التسعينيات.
يبرع عكاشة دائمًا في أعماله في رسم شخصيات تشكل عالمًا بذاتها، يمكن أن تصنع قصتهم وحدها فيلمًا روائيًّا مشتقًّا من أحداث العمل الدرامي نفسه، هنا لا نتحدث عن جودة كتابة للأبطال وحدهم فلا تشعر أن بطولتهم صنعت من العدم، بل الشخصيات الأخرى أيضًا يشعر المشاهد معها بالتماهي النابع من إدراك أبعادها ودوافعها الشخصية.
كان الأسطى شاهين في ليالي الحلمية، أحد عمال مصنع البدري بجوار زكريا ومتولي، واحدًا من الشخصيات التي نسج عكاشة عالمها ببراعة أديب، وربما يكون ولعه بقراءة التاريخ هو الذي استكتبه شخصية مثل الأسطى شاهين الذي نراه أول ما نراه في مصنع البدري يتحدث عن حقوق العمال، ثم مع تقدم الأحداث يذهب الأسطوات الثلاثة إلى منطقة القناة للنضال ضد الإنجليز بعد إلغاء معاهدة 1936.
لا يؤطر عكاشة شخصياته بسطحية في قوالب الخير والشر، لكنه يهوى دائمًا المنطقة الرمادية ويقدم الشخصية بكل تعقيداتها وتركيبتها النفسية، فلا تخرج في إطار كاريكاتوري، ولكن تظهر الشخصية حقيقية من لحم ودم تبعد عن النقاء الأخلاقي أو الشر المطلق. فلا يستمر الأسطى شاهين في رداء الشيوعي، ولا يصمد أمام المغريات التي ضربت بمثاليته عرض الحائط، ويسدل الستار على سنوات الكفاح الوطني وإضرابات العمال بمصنع البدري، يخلع زي المناضل القديم ويرتدي عمة وجلباب التاجر الكبير.
في الأعوام الأخيرة اختفى ذلك الهامش الصغير الذي يسمح بخلق شخصيات – مثل الأسطى شاهين – لا تقوم بدور البطولة، ولكن يظل اسمها قابعًا في المخيلة الشعبية. اختفى ذلك الهامش تدريجيًّا حتى أصبحت معظم الأعمال الدرامية تدور حول مركزية البطل الواحد.
جعفر العمدة: دراما البطل الواحد
بعد تجربة مخيبة للاَمال لمحمد رمضان في مسلسل «المشوار» والسخرية من «نسل الأغراب» يعود رمضان مع المخرج محمد سامي بعد لم شملهما إلى خلطتهما المفضلة ومنطقتهما الدافئة في مسلسل جعفر العمدة.
على نفس نهج الأسطورة والبرنس، ما زال التعاون بين سامي ورمضان يثمر عن ذلك الخليط المعتاد في السنوات الأخيرة، البطل الشعبي ابن البلد الذي لا ينطق إلا بالحكم والأمثال الشعبية المسجوعة. ذو مقومات جسدية عالية تضمن له الترقي الطبقي والقضاء على خصومه في معارك تهدف غالبًا أن تكون تريند الموسم. تهيم به النساء حبًّا ويزددن لوعة كلما تغزل بهن.
هذا الموسم لا يبتعد محمد رمضان كثيرًا عن التوليفة المفضلة لدى محمد سامي، فيحمل العمل كله على عاتقه، يتخذ لنفسه اسمًا رنانًا، رضوان البرنس ورفاعي الدسوقي، أسماء تستدعي للأذهان بعض السير الشعبية والمواويل كأدهم الشرقاوي وأبو زيد الهلالي، ويكون عنوان العمل الدرامي نفس لقب محمد رمضان داخل العمل، فيحدث التماهي التام مع الدلالة التي يحملها الاسم، كجعفر عمدة السيدة زينب مثلًا. لكن سامي أراد في جعفر العمدة أن يضيف تنويعًا اَخر على لحن الأسطورة والبرنس، فلا يبدأ جعفر معدمًا من الصفر، ولكنه رجل أعمال ثري ومع ذلك يقطن في حي السيدة زينب. يظهر رمضان في أعماله بشجاعة فارس قادم من فيلم أمريكي يعود دائمًا البطل فيه لينتقم من خصومه ويتزوج في النهاية من محبوبته. لا وجود هنا لأبطال اَخرين، سواء في الأسطورة أو البرنس أو جعفر العمدة، سيطرح البطل خصمه أرضًا في كل عمل في مشهد مكرر، وربما يتم تصويره من نفس الزوايا وبنفس الحركات.
تقدم كلمات أغنية «نمبر وان» التي طرحها رمضان عام 2018 تلخيصًا وافيًا للعالم الدرامي الذي يقدمه رمضان رفقة محمد سامي منذ الأسطورة ومرورًا بالبرنس وانتهاءً بجعفر العمدة، فهو يقف وحده في الساحة، لا وجود لنجوم اَخرين في العمل، العمل نفسه يتخذ عنوانه من لقبه الذي يوحي بهيبة ووقار. ويراهن رمضان دائمًا أن جمهوره يقف خلف ظهره، وربما يستمد تلك الثقة في جمهوره كل عام رغم تكرار نفس التيمة والمعرفة المسبقة لما سينتهي عليه العمل، يستمد تلك الثقة من الحاجة الملحة لدى جمهوره لبطل شعبي يحقق رؤيته المتخيلة ببساطة عالم ينتصر فيه بطل يشبههم على الخصوم، عالم يتم فيه ترسيخ الصورة النمطية للذكورة متجسدة في عضلات مفتولة وعصا مذهبة وعباءة وشارب كث لبطل مزواج له أربع نساء يتنافسن فيما يعرف بـ «دوري جعفر العمدة».
في أعمال محمد رمضان تفسح جميع الشخصيات المجال لظهور النجم وحده، ليس الخصوم فقط الذين يتقهقرون أمامه دائمًا، ولكن حتى الأصدقاء، فنعيم يظهر في كل مشهد ليتبادل مصطلحات الأخوة والصداقة مع جعفر الذي يلقنه خلاصة خبرته وتجربته في الحياة كما يليق بزعيم لأبناء حي السيدة زينب. والأخ الكبير لجعفر يظهر في دور أبله يشعر بأزمة ثقة في قوته وأهميته بجانب النجم أخيه الأصغر. في قاموس سامي ورمضان ليس هناك سوى نجم واحد فقط خارق للطبيعة لا يسمح وجوده بوجود هامش لظهور شخصيات تسحب أضواء البطولة منه.
متى يعود الأسطى شاهين؟
في أعمال الميلودراما كأعمال سامي مع رمضان ليس هناك مجال للاشتباك مع الواقع لتقديم شخصيات مركبة يتماهى معها الجمهور ويشعر أنها من رحم واقعهم فعلًا، مثل الأسطى شاهين الذي ينتمي أيضًا إلى نفس الطبقة التي ينتمي لها رمضان في أعماله، لذلك تخرج الشخصية في شكل كاريكاتوري لا يشبه الجمهور بقدر ما يشبه صورة متخيلة ترسخت بالوقت في الأذهان. أما الأسطى شاهين فتنبع أفعاله من تأثره بظروف مجتمعه التي صهرته فيشعر المشاهد معه بألفة لا يشعر مثلها مع رمضان.
يحظى الفنان فتوح أحمد في جعفر العمدة بمشهد كل حلقة أو اثنتين، يجسد شخصية التاجر البخيل الذي أهمل تربية أبنائه، ظهور مهمش لا يسمح له بقدر ولو ضئيل للتنفيس عن موهبته كما فعل منذ أكثر من ثلاثين عامًا في دور الأسطى شاهين.
تُرى هل سنشهد زمنًا يأتي فيه من يعيد إحياء سيرة الأسطى شاهين الذي نتذكره إلى اليوم؟ أم سيستمر الخال فتوح في الظهور في أعمال ينساها الجمهور بمجرد انتهاء الموسم الرمضاني؟
اقرأ أيضًا: بابا المجال وجعفر العمدة: كيف مات البطل الشعبي في رمضان؟