كلاب، وقطط، وثعابين، وخفافيش، وفئران وكثير من الحشرات المتنوعة.. حيوانات مقززة، لكنها أطباق مفضلة لدى الصينيين يتلذذون بتناولها، يقيمون لها المهرجانات، وينفقون عليها كل عام مليارات بلغت 74 مليار دولار عام 2017.

رغم ما ينتج عن مثل هذه الأطعمة الشاذة من أمراض وأوبئة، فإنها ما زالت قائمة، وتخصص لها أسواق معينة، فلماذا يقبل الصينيون على مثل هذه النوعيات الغريبة من الأطعمة؟

إذا أردت معرفة السر، فعليك الرجوع قليلًا إلى الخلف، إلى عهد ماو تسي تونج، بالتحديد عام 1958، حيث المجاعة الصينية الكبرى التي استمرت حتى عام 1961، وما سبقها من مجاعات. كذلك عليك البحث في الثقافة الصينية ومعتقداتها.

اشتراكية ماو: الطريق إلى المجاعة الكبرى

كان للمجاعة الصينية الكبرى الناتجة عن سياسات الاشتراكية والقفزة الكبرى إلى الأمام التي تبناها ماو، كان لها دور كبير في الإقبال على مثل هذه الأطعمة الشاذة والغريبة. فقد أعلن ماو أن هذه القفزة تهدف إلى إلحاق الصين بالدول الرأسمالية وتحقيق التقدم الاقتصادي الذي حققته العديد من دول العالم في بضع سنوات بدلًا من عقود.

لتحقيق هذا، طبق ماو سياسة الإصلاح الزراعي السوفيتية على طريقة ستالين، فصادر الأراضي الزراعية، وطبق نظام العمل الجماعي الإجباري، كما ألغى الملكية الفردية، لتصبح جميع الممتلكات من منازل أو حيوانات أو إنتاج غذائي ملكية جماعية.

صب ماو اهتمامه على الصناعات الثقيلة، وبدلاً من العمل في الأراضي الزراعية، وجه عشرات ملايين الفلاحين إلى العمل في صهر المعادن وبناء الأفران، وفي المقابل تقلصت نسبة الأراضي الزراعية التي تنتج الحبوب، والتي كانت في ذلك الوقت مصدرًا لأكثر من 80٪ من الطاقة الغذائية في الصين.

ثم زاد الأمر سوءًا نتيجة الحملة التي أعلنها ماو للقضاء على العصافير بحجة التهامها للمحاصيل، والتي شارك فيها ملايين الصينيين بصيد العصافير إلى أن اختفت، لتنتشر بعدها الحشرات وعلى رأسها الجراد الذي لم يجد طيورًا تفترسه، ما تسبب في القضاء على المحاصيل، ليكون ذلك أحد الأسباب الرئيسية لمجاعة الصين الكبرى بين عامي 1958 و1961، التي راح ضحيتها ما يتراوح بين 18 و45 مليون مواطن صيني، نتيجة الجوع والمرض والعنف.

الحيوانات البرية: من وسيلة لسد الجوع إلى أسواق مقننة

نتيجة هذه المجاعة، سعى الأشخاص الذين يتضورون جوعًا إلى مصادر طعام بديلة، من عشب ونشارة خشب وجذوع أشجار، إلى جثث حيوانات متحللة. كانت تلك واحدة من أعظم مذابح الحيوانات البرية في التاريخ. أُكلت الكلاب والقطط والجرذان والفئران والحشرات، حتى الباندا العملاقة التي امتُدحت كثيرًا باعتبارها كنزًا وطنيًّا للصين تم التهامها.

كان الناس يموتون على قارعة الطريق ويتركون بدون دفن، فلا أحد يقوى على الحفر لدفنهم من فرط الهزال. مع تصاعد المجاعة لجأ الصينيون إلى أكل لحوم البشر. كان الجائعون يحفرون القبور ويقتلون الآخرين ويبيعون اللحم البشري في السوق. وصل الأمر إلى قيام الصينيين بتبادل أطفالهم، حتى يتمكنوا من تناولهم كطعام متجنبين – ولو نسبيًّا – الشعور بألم أكل أطفالهم هم.

في ظل هذه الأوضاع، وتحديدًا في السبعينيات بعد وفاة عشرات الملايين من الصينيين جوعًا، بدأ اهتمام الدولة بالحيوانات البرية، شجعت الحكومة المزارعين على جمع هذه الحيوانات من الجرذان والثعابين والخفافيش وغيرها وتربيتها لاستهلاكهم الخاص والأسواق التجارية، وأقرت قوانين تحمي الحقوق القانونية لأولئك المشاركين في استخدام موارد الحياة البرية.

كان أبرز هذه القوانين قانون حماية الحياة البرية الذي سنته الدولة عام 1988، وأعلن أن موارد الحياة البرية ستكون مملوكة للدولة، كما وفر حماية قانونية للعاملين في تربية الحياة البرية، موضحًا أن الدولة تشجع على تربية الحيوانات البرية وإدماجها.

نتيجة لذلك، نمت تربية الحيوانات البرية في وقت قصير لتصبح صناعة كبيرة، أصبحت جزءًا من ثقافة الطهي في الصين، ولم يتم استخدامها للاستهلاك فحسب، بل كمكونات رئيسية في المقويات والأدوية البديلة.

رغم تجاوز الصين هذه المرحلة، وقيامها بتحديث وزيادة الإنتاج الحيواني، فإن ذاكرة الجوع ما زالت قائمة لدى العديد من المواطنين، خاصة كبار السن الذي يمتنون لمثل هذه الحيوانات التي أبقتهم أحياء حتى اليوم. هذه الذاكرة عادة ما يتم تسميتها بـالصدمة المؤلمة (Traumatic Terroir). لكن على الجانب الآخر، ما زال استهلاك هذه الحيوانات أمرًا مثيرًا للباحثين عن المغامرات في الطهي.

الثقافة الشعبية الصينية

رغم أن مجاعة الصين الكبرى كانت العامل الرئيسي في نشأة أسواق الحيوانات البرية والتي يطلق عليها الأسواق الرطبة (Wet market) فإنها لم تكن الوحيدة، فقد عانت الصين من مجاعات وحشية منذ عام 108 إلى عام 1911، حيث حدثت على الأقل 2000 مجاعة، بين مجاعات قضت على حياة عشرات الملايين ومجاعات قتلت مئات الآلاف، وسبق أن حدثت مجاعات عدة كبيرة في أقاليم كثيرة خلال عام واحد.

خلال هذه المجاعات اضطر الصينيون استكشاف كل ما يمكن أكله ليبقوا أحياء، تأقلموا على أكل أي مخلوق يتحرك أو أي شيء يبقيهم على قيد الحياة، حتى ظهرت مقولة قديمة لديهم مفادها أن أي شيء يمشي، أو يسبح، أو يزحف، أو يطير وظهره إلى السماء فهو صالح للأكل.

بالتوازي مع هذه المقولة ظهر مفهوم «دجنبو» في الثقافة الشعبية الصينية، الذي يشير إلى ملء الفراغ. وفقًا لهذا المفهوم، فالأمراض تصيب جسم الإنسان عندما ينضب من الدم والطاقة بالمفهوم الروحي، وليس الدم والطاقة كما هما معروفان في علم الأحياء. المؤمنون بهذا المفهوم يعتقدون أن الجزء الذي يتم تناوله من جسم الحيوان يقوي أو يعالج ما يشبهه في جسم الإنسان، أي أن أعضاء جسم الإنسان ووظائفها تتقوى من أكل الحيوانات التي تشبهها.

 وطبقًا لهذا، فالثعابين والأعضاء التناسلية للثيران أو الخيول جيدة للرجال، والخفافيش، التي يُعتقد أنها المصدر لكل من فيروس كورونا الجديد وفيروس سارس، جيدة لاستعادة البصر، ولحوم الثعابين والأفاعي، تمنح القوة والطاقة، وينصح بها كمنشط جنسي، وعلاج للأمراض الجلدية، والمرارة والصفراء التي يتم الحصول عليها من الدببة الحية جيدة لعلاج اليرقان (فرط بيليروبين الدم)، أما الحشرات والصراصير، فيعتقدون أنها تحتوي على نسبة عالية من البروتين تتراوح بين 40% و90%.

أما عن لأشخاص الأقل ثراءً، فهم يلجئون إلى لحوم الكلاب، ويفضل أن يكون الكلب تمت مطاردته قبل ذبحه، حيث يعتقدون أن المزيد من فوائد دجنبو يُتحصل عليها من تناول الحيوانات ودمها مرتفع.

على هذا النحو، وفي يونيو من كل عام، في مدينة يولين الصينية، يتم ذبح الكلاب وطهيها وتناولها في مهرجان ليتشي، حيث يتم تناول لحوم الكلاب لمدة عشرة أيام، إذ يعتقد البعض أن مزيج الفاكهة واللحوم سيمنحهم الصحة خلال أشهر الشتاء الطويلة.

بهذا الصدد، تشير التقديرات إلى قتل نحو 10 ملايين كلب للاستهلاك البشري كل عام، حيث يتم بيع لحوم الكلاب المعلبة، فضلًا عن استهلاكها طازجة بالمطاعم والأسواق التي تتعرض بها للسلخ وتكسير العظام حية اعتقادًا منهم أن إبقاء الكلاب على قيد الحياة لفترة أطول أثناء تحضيرها هو الأفضل للحصول على قيمتها الغذائية كاملة.

الدين والتراث وأسباب أخرى

بجانب هذه الثقافة، ما زال هناك العديد الأسباب الأخرى التي تدفع بعض الصينيين إلى الإقبال على أكل مثل هذه الحيوانات منها:

1. التنوع في المطبخ الصيني:

طبقًا للثقافة الشعبية في الصين، والتي ترى أن هذه الحيوانات لا تضر بل تقدم العديد من الفوائد الغذائية وتصلح لعلاج بعض الأمراض، من الطبيعي أن يتم تناول هذه الحيوانات والتنويع بها أيضًا.

الحقيقة أن هذا التنويع يرجع في جانب منه إلى التاريخ الصيني والعصر الإمبراطوري، عندما كانت الصين إمبراطورية. وسبب التنوع هو أن طباخي البلاط الذين كانوا يعدون الطعام للإمبراطور وآل قصره كانوا يتفننون في إبداع الطعام، وقد استنفدوا كل المواد والطرق المألوفة في الطهي، ولكن الإمبراطور يريد التنويع، فما كان منهم إلا أن بدأوا الزحف على غير المألوف من النباتات والحيوانات، والحشرات أيضًا، في محاولة لإشباع رغبات الإمبراطور. وبمرور الوقت انتقلت قوائم الطعام من البلاط إلى العامة، واستمرت المطاعم في تقديمها حتى اليوم.

 2. التراث:

مثلهم مثل مختلف شعوب الأرض هناك أكلات تراثية ما زالت قائمة في الصين، ولها رونقها حتى اليوم. يأتي في مقدمة هذه الأكلات زعانف أسماك القرش التي تناقلوها من أسلافهم، فحتى الآن يتم طهي زعانف سمك القرش وغيرها من الأطباق المصنوعة من الزعانف في الاحتفالات.

3. الدين:

هذا العامل هو ما يحدد المسموح وغير المسموح به من الأطعمة، لكن الشعب الصيني لا يلعب الدين في حياته دورًا كبيرًا وتسيطر عليه علمانية الحزب الشيوعي التي تكن العداء للدين وتراه عاملًا لتأخير الأمم.

وفي ظل تبني الأغلبية في الصين للعقيدة البوذية، فهم يؤمنون بعدم إضاعة أي شيء والعمل مع أي شيء متاح، يؤمنون بإهدار الحد الأدنى قدر المستطاع، والتأكد من أن جميع أجزاء الطعام تؤكل حتى لا يضيع أي شيء.

ختامًا، يجب التنويه إلى أن الأجيال الجديدة في الصين بدأت في التقليل من تلك الأكلات الشاذة، وأصبح هناك سلوك اجتماعي عام لرفضها، رغم تمسك الصينيين المعمرين بأكلها، فالشباب المنفتح على العالم يرفض مثل هذه الأطعمة، ولكن في المناسبات – مثل الأفراح – عادة ما يتم تناولها، كونها أصبحت تراثًا.