سيناريو صحفي: الأيام الأخيرة في حياة «هيث ليدجر»
ليل داخلي
المكان: غرفة نوم فى مدينة مانهاتن
الزمان: 21 يونيو عام 2004
ضوء خافت صادر عن شاشة حاسوب شخصي، شاب يجلس أمام مكتب صغير ويتصفح بريده الإلكتروني، رسالة واردة من المخرج الأمريكي «كريستوفر نولان». الرسالة تتحدث بشكل مختصر عن فيلم نولان الجديد، «Batman begins».
تتحدث الرسالة عن أن الفيلم بداية لمشروع عالم جديد مختلف عن عالم أفلام باتمان السابقة المستوحاة من سلسلة الكوميكس الشهيرة. يختتم نولان رسالته بأنه اختار قارئ هذه الرسالة لبطولة الفيلم ولأداء دور «بروس وين»، الملياردير الذي يحاول إنقاذ مدينة «غوثام» من خلال بطل يرتدي زي وطواط.
يغلق الشاب الرسالة، يستند برأسه إلى الخلف، يسكت لدقائق ويفكر، يفكر أنه يحاول منذ سنين أن يخرج من الصورة النمطية للشاب الوسيم الذي يؤدي أدوارًا رومانسية وكوميدية في أفلام صنعت لمجرد التسلية.
يفكر أنه ربما لا يجب أن يشارك الآن في أحد أفلام الصيف صاحبة الميزانية الكبيرة والتي عادةً ما تجتذب صغار المراهقين لملء قاعات السينما.
يخشى من أن يتم حصره في تلك الأفلام التي تهتم بالتفجيرات والمطاردات ولا تهتم بالأداء التمثيلي. يعلم أن «نولان» مخرج طموح وربما سيفعل شيئًا جديدًا ولكنه لا يمكنه المخاطرة.
يفكر أنه من الأفضل أن ينشغل بدوره في فيلم «Brokeback Mountain» مع المخرج التايواني «أنج لي». سيشعر بالأمان أكثر مع مخرج خبير مثله، خصوصًا أن قصة الفيلم التي تدور حول علاقة حب بين اثنين من رجال الكاوبوي، قصة غير معتادة كهذه تنبئ بدور تمثيلي من الوزن الثقيل.
يضغط الشاب على المربع الخاص بالرد، يبدأ رسالته بتحية «نولان» وشكره على رسالته، ثم يرد بجملة واحدة «شكرًا، لست مهتمًا الآن بالمشاركة في أي من أفلام الكوميكس أو الأبطال الخارقين».
يرسل الشاب الرسالة ثم يغلق حاسبه ويفتح كاميرته الديجتال الشخصية ليلتقط صورة له في ظلام شبه معتم، نرى ابتسامته ثم يظهر شيئًا فشيئًا أنه «هيث ليدجر».
نهار خارجي
المكان: مستشفى في مدينة لوس أنجلوس
الزمان: 21 سبتمبر عام 2007
«كريستوفر نولان» يتنقل وسط الكاميرات ومعدات التصوير ومجاميع الممثلين أثناء تصوير فيلمه، الجزء الثاني من سلسلة «The Dark Knight»، يخترق الجموع «هيث ليدجر» في زي ممرضة وعلى وجهه ابتسامة مرسومة باللون الأحمر يحيط بها ندوب جرح قديم.
يدخل ليدجر المستشفى، يتنقل بين الطوابق ثم يصل لإحدى الغرف، يدخل وسط كاميرات ومعدات تصوير أخرى. في أحد الجوانب يجلس الممثل الأمريكي «أرون إيكهارت» بصحبة مسئولي المكياج الذي يضعون اللمسات النهائية على وجهه، جانب تعرض للحرق بالكامل وجانب لا يزال يحمل ملامح رجل وسيم يؤدي دور «هارفي دينت» المدعي العام لمدينة جوثام.
يلقي إيكهارت نظرة على زميله بعد أن دخل الغرفة ولم يلقِ التحية على أحد، يدور في الأرجاء يضحك ويتحدث مع الفراغ، يبدو أنه يرى الجوكر وليس ليدجر حتى قبل بداية التصوير. يستمر هذا الوضع الغريب لما يقارب الساعة يتخللها دقائق قليلة يجلس فيها الجوكر ليطالع كتيبًا يحمل غلافه اللونين الأحمر والأرجواني.
يبدأ التصوير، يصنع الرجلان مشهدًا من أفضل مشاهد الفيلم، حيث ينجح الجوكر في دفع الرجل الأفضل في جوثام وفارسها الأبيض للسقوط إلى حافة الجنون.
ينتهي المشهد ويغادر ليدجر مكان التصوير دون أن ينطق بكلمة، الجوكر كان فقط هو من يتحدث. في نهاية اليوم وبعد أن بدل ملابسه خرج ليدجر من غرفته ومر بجوار إيكهارت، ربت على كتفه ثم قال له جملة واحدة: «هذا هو التمثيل»، ابتسم كل منهما للآخر ثم رحلا.
لم يعلم الممثلون ما يمكن أن يقوله أو يفعله ليدجر خلال مشاهدهم، كتب جوناثان وكريستوفر نولان السيناريو والحوار بالطبع لكن كريستوفر ترك لليدجر حرية الحركة داخل الحكاية.
كان يفاجئ زملاءه في كل مشهد، المخضرم «مايكل كين» نسي كلماته في أحد المشاهد، «كريستيان بيل» شعر أنه سيسقط لو لم يجاريه، «ماجي جالينهال» لم تستطع أن تخفي رعبها في مشهدهما المشترك أثناء الحفلة، والذي انتهى بدفعها من إحدى النوافذ.
كان ليدجر مثار إعجاب وحديث الجميع حتى قبل أن ينتهي تصوير الفيلم.
هيث ليدجر في دور الجوكر
ليل داخلي
المكان: غرفة نوم في مدينة مانهاتن
الزمان: 21 يناير 2008
ضوء خافت قادم من شاشة حاسوب موضوع على حافة مكتب وأمامه كرسي فارغ. «هيث ليدجر» مستلقٍ على سريره بعد عودته من تصوير أحد المشاهد في فيلمه الجديد «The Imaginarium of Doctor Parnassus»، يفكر ليدجر في كل ما حدث خلال العام الماضي.
يفكر في حبيبته السابقة «ميشيل ويليامز» التي تركته بعد أن أنجبت ابنتهما «ماتيلدا». هل يجب أن يفترق المرء عن حب حياته ليصل للنجاح في حياته العملية؟ هذا ما يفكر فيه الآن، هل انغمس في شخصية «الجوكر» بكل جوارحه لينشغل عن كل ما فقده.
الأمر لم يمر بشكل سلس أيضًا فالمحامون كانوا يزورونه بشكل يومي، رفعت ويليامز دعوى لحضانة الطفلة كما أمطرته بدعاوٍ مالية أخرى. لم يكن العام سعيدًا ولذا وجد ضالته للهرب من خلال دور الجوكر.
يتذكر حينما ترك غرفته هذه وترك مانهاتن كلها ليهرب من ذكرياته مع ويليامز. انتقل لغرفة في أحد الفنادق، أغلق غرفته عليه لمدة شهر، قرأ فيها «Clockwork Orange» لأنتوني بيرجيز، القصة التي حوّلها المخرج الأمريكي الكبير «ستانلي كوبريك» لفيلم عن العنف في زمن ما بعد الحداثة، ثم طالع لوحات «فرانسيز باكون»، تلك اللوحات التي حولت المرض النفسي لفن مرئي.
اقرأ أيضًا:ستانلي كوبريك: كبيرهم الذي علمهم السحر
تدرب بعد ذلك على نبرة صوت وضحكة مميزة خاصة بالجوكر، سجل صوته لمئات المرات على مسجله الشخصي الصغير، قرأ عن المهرجين وتاريخ ظهورهم ثم راجع قصص باتمان المصورة والأفلام المستوحاة عنها.
شاهد «جاك نيكلسون» وهو يؤدي دور الجوكر وأدرك أنه لن يمس هذا الدور لأن نيكلسون أدّاه كما يمكن أن يتخيله محبو القصص المصورة، أما هو ونولان فيصنعان عالمًا مختلفًا تمامًا وجوكر لم يعرفه محبو القصص المصورة من قبل.
يتوقف ليدجر عن التحديق في سقف حجرته كما يتوقف عن التفكير للحظات. يستند بيده اليمنى على حافة سريره ثم يعتدل، تمتد يده لأحد الأدراج المحيطة به ليخرج كتيبًا وقلم رصاص، يفتح كتيبًا يحمل غلافه الخلفي اللونين الأحمر والأرجواني بينما تظهر صورة فيل وطفل صغير على غلافه الأمامي، يقلب صفحاته لنرى أن هذا الكتيب ما هو إلا مذكراته حينما كان الجوكر.
الحكاية كلها هنا؛ كيف بدأ؟، ومن هو؟، وكيف حصل على هذه الندوب؟. كتب ليدجر مذكرات مكتملة وكأن الجوكر تلبسه. يقلب ليدجر الصفحات لنرى صورًا للجوكر في إحدى القصص المصورة ثم صورة من فيلم «Clockwork Orange».
في صفحة تالية نرى حوارًا متخيلاً لمشهد المستشفى الذي أداه في الفيلم، ونرى فجأة صورة له ولمشيل ويليامز ولابنتهما ماتيلدا وسط الكتيب.
لا يتذكر ليدجر كيف وصلت هذه الصورة لمذكرات الجوكر، يحملها ويتأملها للحظات، ينظر طويلاً لوجه طفلته. يبتسم ثم يضع الصورة جانبًا. يقلب الصفحات سريعًا حتى يصل للصفحة الأخيرة.
نرى صورة ليدجر وهو في زي وهيئة الجوكر. الصورة تم التقاطها قبل بدء تصوير الفيلم بشهور. يمسك ليدجر القلم الرصاص ويكتب أعلى الصورة «Bye Bye».
يغلق ليدجر الكتيب، ويتذكر أنه لم ينم منذ يومين، الأمر أصبح غير محتمل فهو لا ينام أكثر من ساعتين بعد أيام متتالية من الاستيقاظ منذ أن بدأ في تجسيد شخصية الجوكر.
انتهى الفيلم وانتهت الشخصية لكنه لم يشف من هذا الخلل بعد. جسده منهك للغاية كما أن الأطباء أخبروه أنه مصاب الآن بإلتهاب رئوي ويجب عليه الراحة، ولكن عقله لا يزال مشغولاً. متعب جدًا ولكنه لا يستطيع النوم.
يقرر أخيرًا أن يفعل ما يفعله كل ليلة، تمتد يده اليمنى لتلتقط مجموعة من الأقراص الزرقاء والحمراء، أقراص منومة ومضادات اكتئاب ومسكنات مختلفة، يبتلعها دفعة واحدة، يستلقي مجددًا، يشعر أنه متعب، يحاول أن يفكر في بعض الأفكار الجيدة.
لقد أثبت للجميع الآن أنه ممثل جيد وليس مجرد وجه وسيم، لطالما حلم أن يمثل في أحد أفلام «فيلليني» أو «ستانلي كوبريك» لكنهم الآن موتى، ربما سيشارك في أحد أفلام «ترانس ماليك» إذًا، كل شيء سيصبح على ما يرام. يتذكر وجه ابنته ماتيدا، يغلق عينيه للمرة الأخيرة.