مناطحة المحرمات في سينما «بيدرو المودوبار»
في 25 سبتمبر/أيلول من عام 1949 ولد المخرج والكاتب السينمائي الإسباني «بيدرو المودوبار»، كان والده مُجرد عامل بضائع في مقاطعة بوسط إسبانيا، لكن أمه استطاعت تدبير الحياة في فترات الجوع الطويلة، وكانت أمه هي نموذج المرأة الأهم في حياته، وهي السر الحقيقي الذي جعله فيما بعد واحدا من أهم مُخرجي المرأة على الإطلاق.في العاشرة أُرسل المودوبار إلى الكنيسة للدراسة لكنّه رفض الفكر الديني واهتم بفكرة إعادة إنتاج الحياة، وفي السادسة عشرة عمل في شركة للهواتف في مدريد لكسب رزقه، واشترى من عمله كاميرا سينمائيّة، وأمضى أوقات فراغه في الكتابة والتمثيل قبل أن يصبح إخراج الأفلام هو عمله الحقيقي الوحيد.تنقسم أفلام المودوبار إلى مرحلتين، في الأولى كان النجاح على المستوى المحلّي في إسبانيا، بداية من «متاهات الرغبة» في 1982، إلى «نساء على وشك انهيار عصبي»، وهو الذي فجّر اسم الرجل في سماء السينما العالميّة ومنحه ترشيحا للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي للمرة الأولى في مسيرته.قدّم الرجل في بداية مسيرته أفلاما تحتوي مزيجا من السخريّة الجنسية الفاضحة، مما وضعه في حرب ضروس ضد كل المفاهيم التقليديّة حول الأسرة والدين، ثم ضرب بسلطة الكنيسة عرض الحائط كما في فيلمه «تربية سيئة»، لكنّه نضج أكثر في واحد من أهم أفلامه «كل شيء عن أمي» الذي أثار إعجاب النقاد، وأعاد إلى الأذهان سينما «راينر فيرنر فاسبندر» التي احتوت على الكثير والكثير من صدام الرغبات، كما قدّم تجربة السينما الشاعريّة المؤثرة في فيلمه الأعظم «تحدّث إليها».عايش المودوبار فترة الطاغية الشهير «فرانكو» وذاق مرارة تلك الفترة، وكانت تلك الفترة السبب في بداية إحساسه بالمرارة حين فشل في دخول مدرسة السينما في مدريد، كما عايش فترة كبت الحريّات وخصوصا حريّة المرأة، وهذا ما جعل المرأة سؤاله الأوّل وهمّه الذي لا يزول.عالمه في طفولته كان مليئا بالنساء، وبالتالي امتلأت ذاكرته بقصص ومعاناة المرأة، دخل هذا العالم وحلل رغباتهن وغرائزهن المكبوتة، تلك التي تحوي من الجنون والدهشة.عايش المودوبار كذلك بداية الظهور الاشتراكي في إسبانيا، وانتمى لليسار السياسي، وقف مع الحق الفلسطيني وكان ضد الفكر الصهيوني كلّه، كما أوضح في كثير من المقالات، كما رفض الحرب على العراق وشارك في المظاهرات التي خرجت في إسبانيا لرفض تلك الحرب.تتميز أعمال المودوبار بأنها لا تخضع لأي فكر تقليدي أو سلطة سواء كنيسة، أو دولة، أو حتّى مؤسسات صناعة السينما، حيث اشتهر الرجل بكشفه للأقنعة الاجتماعية والإنسانيّة والدينيّة بأسلوب ساحر، وتتميّز أيضا بأنها تخوض في علاقة المرأة بما حولها وبخاصة مشاعر المرأة التي تحاول جاهدة أن تخفيها حتى لا تُدان من المجتمع، واحتوت أفلامه على المفارقات، حيث نرى فيها من المأساويّات قدرا مساويا لما فيها من كوميديا، والكثير من السخرية إلى جانب الميلودراما.وقفت أعماله دوما في المسافة بين الانحياز للفقراء وبين تناقضات المرأة، والتقطت كاميراه كعين ثاقبة أدق تفاصيل الروح، بأعماقها المرتبكة وإشكالياتها النفسيّة والجنسيّة بجرأة تصل للفجاجة أحيانا، ويظهر كل ما فيها من قهر وحزن حقيقيين. تميزت شخصيّاته بحواراتها العفويّة، فتسأل وتجيب وتقدّم نفسها وتتحرّك بحريّة فتتحوّل وقحة وتضرب على عنق الحياء الهش.المودوبار مقتنع دوما بأن العلاقات بين البشر هي غريزيّة بالفطرة وليست نتيجة للحُب، وفرص النجاح في الحُب بين الرجل والمرأة شبه معدومة ومحكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ حتى، لا يتوقّف عن المُشاغبة ولا العبث بكل الأفكار التقليديّة، أفلامه تنزع الفرد من كل القيود، وتمتاز بالسخرية الجنسية، وقد اتّبع خُطى المُعلم الإسباني الأشهر «لوي بونويل» حين سدّد أصابع الاتّهام إلى المؤسّسة الكنسية في «تربية سيئة».في فيلمه «تربية سيئة» يذهب المودوبار إلى مرحلة خصبة من الحياة، وهي الصبا والشباب، حيث يُكتشف الحُب وتُكتشف الرغبات وتتشكّل العلاقات وتنحدر نحو الهاوية وتنزلق إلى حفرة سوداء، يروي الفيلم حكاية مُركّبة بسرد مُتداخل عن شخصيّات تتقاطع حيواتها في فترات مُختلفة.بقدرة سينمائية فطرية تصوّر روح الأشياء وجمالها، الجمال الذي سيقود -هو نفسه- إلى كثير من الألم، يحكي الفيلم قصة صبيين، أحدهما «أجناسيو» والآخر «أنريكي». يرتبطان بصداقة قوية في مدرسة كاثوليكية في إسبانيا خلال عام 1960. وتتحول صداقتهما إلى ارتباط عاطفي قوي، إلا أن معلم الأدب «الأب مانولو» مال بشكل مُنحرف نحو أجناسيو وحاول تحطيم علاقته بأنريكي بطرد أنريكي من المدرسة، وبالتالي نجح في تفريقهما عن بعضهما واستمر في ممارسة شذوذه مع أجناسيو . وتتطوّر الأحداث في إطار شيّق وتنكشف الأمور تدريجيا.في الفيلم هُناك فاصل وهمي بين الحقيقة وما يحدث في الخيال، وكأن المودوبار يتساءل عن ماهية وجود هذا الحد الفاصل فعلا، ويتركب الفيلم من دوائر تسحب المُشاهد نحو الخطيئة والإحساس بالذنب والحُب وقوّته الجبّارة، وعلى الرغم من صعوبة التركيب السردي للفيلم فإن المودوبار لم يتجاهل – كعادته – البناء البصري المعهود بالألوان والمشهديّة، ليؤكّد حقيقة أنه – رفقة وونج كار واي – من أهم مُخرجي العصر على مستوى الاهتمام بالصورة.وقد قال الرجل عن فيلمه إنه لا يمثّل سيرة ذاتية لحياته، وإنما يعبر عن أحلامه واستمتاعه بالسينما، فلو جرّدنا الفيلم مثلا من الهواجس الشخصيّة وحكاية الابتزاز، فسنجد أنه يحكي في الأصل عن خُلاصة السينما وكيفية خلط الذاتيّة بالصنعة.حصل المودوبار على العديد من الجوائز أبرزها أوسكار أفضل سيناريو سينمائي عن فيلم «تحدّث إليها» وترشّح لجائزة أفضل مُخرج عن الفيلم نفسه، وفاز كذلك بجائزة الجولدن جلوب عامي 2000 و2003 كما فاز بجائزتين في مهرجان «كان» في 1999 و2006، وميدالية الاستحقاق الذهبي للفنون من وزارة الثقافة الإسبانية عام 1998.