دكة البدلاء: أنا «سكوت كارسون» الذي تتمنى أن تكون مثله
مساء الخير، أنا سكوت كارسون. كنت أود أن يكون اسمي أو صورتي التي رأيتها في الواجهة تعريفًا كافيًا لي، لكن لا مشكلة. أنا هنا لأخبرك القصة كاملة، ليست قصة ملهمة ولا حزينة، لكنها قصتي. قصة كانت بدايتها قفاز أزرق متهالك على ساحل وايتهفن في بريطانيا، وكانت آخر محطاتها التتويج بدوري الأبطال في اسطنبول.
بدأت القصة في بلدة ساحلية صغيرة تمتلئ بالسفن القادمة من كل مكان، تحمل البضائع والغرباء. كرة القدم في الشوارع مصدر البهجة الأوحد لمئات الأطفال، والمباريات التنافسية بينهم حدث ترفيهي يجتمع كثيرون لمشاهدته.
كنت واحدًا من هؤلاء، وأحد البارزين كذلك. كانت الفرق تتنافس لضمي لصفوفها ولعبت مئات المباريات التي لا تقل إثارة عن نهائي الأبطال الأخير الذي أخبرتك عنه. لكن قبل أن تتحمس لأحكي لك عن مهاراتي الفريدة، فدعني أخبرك أن الأمر ليس كذلك، لكن ضموني فقط لأني أحببت الوقوف في المرمى، وكان هذا مغريًا حتى لا يضطر باقي الرفاق للصراع حول حراسته.
كانت لحظات فريدة، هل تعلم؟ كنت أتعمد التأخر في بعض الأحيان حتى أرى انتظارهم لي فور وصولي. كان شعورًا غير مفهوم، لكني أحببته. أحببت المرمى أيضًا، اشترت لي أمي قفازًا مستعملًا يفوق حجم يدي بمرات، لكنه كان رفيقي لسنوات وخاض معي سنواتي الأمتع مع تلك اللعبة، التي فضلتها عن الرجبي حين قررت الاحتراف.
غاب عني هذا الشعور خلال سنوات لاحقة قضيتها في أكاديمية ليدز. لم تكن سنوات رائعة على أي حال، لكنها لم تكن سيئة. الأمر الوحيد الذي تكرر في كل ليلة دون انقطاع، هي لقطة أراها أمام عيني قبل أن أنام، لقطة وقوفي في المرمى بينما الملعب مكتظ بالمشجعين الصامتين، وفي الدقائق الأخيرة، أفاجأ بتسديدة من خارج المنطقة أقصى يمين المرمى، وبينما بدأ جمهور الخصم الاحتفال قبل أن تدخل المرمى، كانت يدي وقفازي الأزرق هناك، ليحول الصمت إلى هتاف يظل يتردد في أذني حتى أنام: «إنه بطلنا كارسون».
حتى لا أكذب، لم يتكرر هذا في كل ليلة، فقد كانت لقطات أخرى تظهر في بعض الليالي، لكني أدفعها، وهي لقطات الفشل، لقطات ضياع حلم كرة القدم، ورحلة البحث عن بناء حياة جديدة، دون مؤهلات أو قدرات، تخيلت نفسي أحيانًا عاملًا في الميناء، وأحيانًا أخرى كتاجر فحم في مدينتنا، لكن كنت أدفع تلك الخيارات عن رأسي على الفور.
في الأكاديمية، يلازمك شعور بأن تسير على خيط دقيق تحته الجحيم ذاته، وتتمايل عشرات المرات وتكاد تسقط، كما يسقط الآلاف من الناشئين في كل عام، وفي كل يوم قد تتلقى خبرًا بأنك سقطت معهم.
في الناشئين، أنت على بعد خطوة من أن تصير لاعب كرة قدم محترفًا تتقاضى الملايين، لكنك على بعد الخطوة ذاتها من الضياع، ضياع لم تسمع عنه كثيرًا لكني عرفته جيدًا.
أنت لم تسمع قصص الآلاف ممن سقطوا، لكننا في الأكاديميات كنا نعرفهم، ولا ننساهم، انتحر ناشئ في عام 2013، حين فقد مكانه في إحدى الأكاديميات، وانتهى مصير البعض إلى السجن، ولا يمضي يوم في الأكاديميات لا يتناقل الزملاء مأساة زميل آخر، يسمعها الحضور بإنصات، فقد يصبح أحدهم المأساة التالية التي تُحكى.
قفاز جديد
اعذرني على الإطالة، لكن ربما تكون مشاعر خوف الأطفال في الأكاديميات هي أقسى شعور واجهته. كنت واحدًا من المحظوظين بالفعل. حصلت على عقد احترافي مع ليدز يونايتد عام 2002.
لن أحكي لك الكثير عن مسيرتي، لكن لحظة واحدة أحب أن أحكي لك عنها. كانت لحظة فريدة لا أنساها، تذكرت فيها ذلك الشعور الذي عرفته أول مرة في شوارع وايتهيفن وبعدها ليتشفيلد، كان ذلك تحديدًا في ربع نهائي دوري الأبطال عام 2005 بين يوفنتوس وليفربول. كان الأخير قد تعاقد معي بداية العام كحارس ثالث، وتجمعت الظروف، لأكون حارس ليفربول في تلك المباراة. قدمت أداءً رائعًا وتبادلت القميص مع بوفون، كانت لحظة مميزة للغاية.
وبينما كانت الأحلام تتضاعف في عقلي، وأشعر في كل يوم أن حلم الملعب المكتظ الذي يهتف باسمي لم يعد بعيدًا، فقد كانت كرة القدم قد اكتفت مني للأبد ربما.
بعد ليفربول انتقلت بين عديد من الفرق، في البريمييرليج، والتشامبيون شيب، وحتى في تركيا، ولم أستمر طويلًا في أي نادٍ. وفي كل نادٍ لعبت لبعض الوقت وجلست وقتًا أطول على الدكة، وكانت هذه هي أكبر معاناة لي في حياتي. كنت مُسجلًا كلاعب كرة قدم، لكن لم أمارس المهنة فعليًا لسنوات.
رحلتي بين الأندية وصلت بي إلى مانشستر سيتي، وهي مفاجأة بالطبع لم تكن مناسبة لمسيرتي. هناك عرفت الشعور ذاته أيضًا: شعور دكة البدلاء. حين لعبت معهم لأول مرة أمام نيوكاسل في إحدى المباريات قبل سنتين، كان شعورًا غريبًا، فقد نسيت كيف أفعل هذا.
صرحت حينها بأن الأمر كان مربكًا لي، وتوترت كثيرًا قبل المباراة واتصلت بوالدي أسأله. لم أكن متيقنًا إن كنت أعرف ما الذي يفعله حراس المرمى، ولا ألوم نفسي على ذلك، فقد مضت سنوات على آخر مرة ارتديت فيها القفاز تحت أنظار الجماهير.
على دكة البدلاء
إذا سمحت لي، سأشتكي هنا قليلًا بما لا تسمح به الجماهير عادة، فلاعب كرة القدم على الدكة، يتقاضى الملايين دون أي مجهود، هي فرصة يتمناها كل فرد من الجمهور، ولهذا يسلبك حق الشكوى، لقد قرأت مقالًا ذات يوم حمل صورتي على واجهته أيضًا، وكان عنوانه: «سكوت كارسون: الوظيفة الأسهل في التاريخ».
ربما لا يمكنني أن أختلف مع المقال كثيرًا، حيث يعتبر البعض تلك الحالة مثالية لأبعد حد. راتب مضمون وتنقل بين عواصم أوروبا، وسيارة ومنزل وزوجة رائعة، هي أحلام بعيدة المنال لك ولأمثالك، اعذرني على الوقاحة، لكن هذه هي الحقيقة.
لكن باقي الحقيقة لا أحد يخبرك بها، ولا يمكن تخيل أبعادها إلا بالتجربة. إخبارك أن راتبًا يفوق مئات أضعاف متوسط دخل المواطن البريطاني ليس كافيًا للسعادة، سيكون مجرد هراء بالنسبة لك إذا كان راتبك لا يصل إلى متوسط راتب المواطن البريطاني من الأصل.
لكن صدقني هناك ما هو أبعد من ذلك، لا أحد يكون سعيدًا حين يكون وجوده كعدمه، وأن يرى من حوله يتنافسون على الإنجازات وينتظرون المباراة القادمة والبطولة المقبلة، بينما أنت تعلم أنه لا فارق. فقط يتغير مقدار راحة الدكة من ملعب لآخر، ليس أكثر من ذلك، والأسوأ أن البعض يعتقد أنك سعيد لأنك تقوم بأسهل وظيفة في التاريخ.
هل أجد ضالتي في القراءة؟
المقولة الأخيرة، لم تكن لي، لكن قرأتها يومًا في تقرير على بليتشر ريبورت على لسان أحد اللاعبين. لا يدفعك هذا للإعجاب بي لأني أقرأ، عكس الشائع عن لاعبي كرة القدم، فهذه ليست الحقيقة. أرسل لي أحد أصدقائي التقرير، وكنت سأتجاهله بالطبع كما أتجاهل أي منشور يزيد على 4 أسطر، لكن عنوان التقرير، كان أكبر من أن أتجاهله، ولم أنسه إلى الآن. كان عنوانه: «وجود غريب: لاعبو كرة القدم الذين لم يمارسوا اللعبة أبدًا».
لحسن الحظ، لم أكن أحد الأمثلة التي استخدمها كاتب المقال، لكنك بالطبع خمنت لماذا أرسل لي صديقي المقال. كنت مثالًا حقيقيًا على هؤلاء لفترة طويلة من مسيرتي، ولا مانع من بعض السخرية مني، وقد جاريت صديقي في سخريته في هذا اليوم، لكن لم أستطع أن أتخطى هذا المقال أبدًا.
وعلى ذكر القراءة، فقد بحثت طويلًا في علم النفس الرياضي، وقرأت كثيرًا من الأبحاث عن العمل والوظيفة وعلاقتهم بالسعادة، وهذه الأشياء.
إحدى الدراسات كانت من جامعة بافالو الأمريكية، وكان مفادها أن تفضيل التحقق المهني والمادي على العائلة والأصدقاء طوال الوقت، يقود إلى التعاسة، مهما بلغ التقدم في المسار المهني.
كان الأمر مربكًا لي بالطبع، فأغلب لاعبي كرة القدم يمكنهم تخيل تلك المقارنة، والاختيار إن كانت تستحق أم لا، لكن شعرت للحظة أن قد خسرت الثانية ولم أحقق الأولى. لم أحضر عيد ميلاد طفلي الأول، لكني لم أقد السيتي لدوري الأبطال في الوقت ذاته، وبينما كان طفلي يبكي لغيابي، كنت جالسًا على دكة البدلاء للمرة الألف في مسيرتي دون تغيير.
هل تعلم؟ سألني طفلي بعد عودتي، لماذا لم أكن معه في تلك اللحظة، فأجبته أني كنت مرتبطًا بمباراة وحكيت له أننا انتصرنا بثلاثية، فسألني فلماذا لم أرك على التلفاز؟ ولم أجبه على سؤاله حتى الآن.
في مقال آخر، عرفت هرم ماسلو، وعرفت حينها لماذا أشعر بهذا القدر من الحزن، طبقًا لماسلو فقد حققت قاعدتا الهرم فقط، الاحتياجات الفسيولوجية والأمان، لكن أخفقت في الاحتياجات الاجتماعية بسبب طبيعة عمل لاعب الكرة، وغاب عني تمامًا التقدير، بل ربما لا يلاحظ أحد وجودي من الأصل، وبالطبع لا يمكنني الادعاء أن قد حققت ذاتي.
رغم ذلك، كنت ألوم نفسي في كل مرة أشعر فيها بالإحباط، فأنا أتقاضى راتبًا هائلًا مقارنة بأي وظيفة تخيلتها في ليالي الأكاديمية التعيسة، وأمتلك لحظات سعيدة في مسيرتي، ولعبت قدرًا جيدًا أيضًا من المباريات خلال رحلتي الطويلة، وهناك من هو أسوأ من بكثير، أعرف بعض اللاعبين، لم تتجاوز مشاركاتهم عشرات المباريات خلال مسيرتهم كاملة.
قد تنتقدنا بالطبع وتتهمنا بالكسل، لأننا نقبل الجلوس على الدكة، ولا ننتقل إلى أندية أقل، لنشارك، ونثبت أنفسنا، ويؤسفني أن أعتذر للمرة الثالثة، وأخبرك بمدى سذاجتك.
لا تسير الأمور بتلك السهولة، أندية القاع ليست ممهدة ليكون التألق فيها مضمونًا، وعشرات الأسباب قد تمنعك من التألق، وستنسى هناك، وبعيدًا عن ملايين مانشستر سيتي وتشيلسي، فهناك في الأسفل لن تجد تلك الأرقام، وقد تلعب بما يكفي أسرتك بالكاد.
هذا يمثل عنصرًا مهمًا للغاية في قرار البقاء أسيرًا للدكة في فريق متوسط أو كبير، فالمشاركة مهمة لك نعم، لكن أسرتك وأولادك يحتاجون ذلك المال الذي ستستغنى عنه، وعليك الاختيار، وعندها يحب البعض الدكة ويتمسك بها فقط لأن حسابه في البنك يحتاج ذلك.
لا ينطبق الأمر على الكل بالطبع، هناك من يسلم للبقاء على الدكة رغم أنه سيفقد مليون من أصل 10 يتقاضاها سنويًا، وهناك أمثلة على ذلك بالفعل، لا أنكر ذلك، لكن هذا ليس نحن.
يمكنك أن أحكي لك مئات القصص المأساوية التي امتلأ بها كرسي الاحتياط، مأساوية لا تليق بنجوم كرة القدم الذي يتمنى الملايين أن يصبحوا مثلهم، لكن ربما ذلك لأننا لاعبون مع إيقاف التنفيذ.
لن أحكي تلك القصص، ولم أحب أبدًا أن أتحدث كضحية كما أفعل معك منذ بدأنا، لكن فقط أردت أن يعرف الجميع، أننا موجودون. وجود غريب نعم، لكننا هناك، تبدأ مسيرتنا وتنتهي دون أن يسمع بنا أحد، ولم نكن كسولين، أو على الأقل أنا أؤمن بذلك، لا يهمني ما تراه أنت ولا غيرك.
صحيح، نسيت أن أخبرك، أنا أحمل لقبين لدوري الأبطال. الأول في 2005 مع ليفربول، والثاني في 2023 مع مانشستر سيتي. قد يخلدني ذلك في تاريخ الأندية الإنجليزية، لكنه لا يعني لي شيئًا، فقد تمنيت أن استبدلهما ولو لمرة واحدة بملعب مكتظ يهتف: «إنه بطلنا كارسون»، لكن لم يحدث ذلك. لا تشفق عليّ، وليلة سعيدة.