سكورسيزي وتارانتينو: فلسفة سينمائية أم عنف دموي؟
تلك إجابة من إجابات عديدة قدمها المُخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو عن سؤال العنف بأفلامه وضرره على المشاهدين قبل أن ينفجر في مُقابلة مع المذيع البريطاني كريشنان جورو عام 2013 مُعلنًا أنه لن يُجيب عن هذا السؤال مرة أخرى.
بينما رد سكورسيزي دومًا على اتهام أفلامه بتمجيد العنف والخارجين عن القانون بأن:
يضع كثير من النقاد أفلام تارانتينو وسكورسيزي في مُقدمة الأفلام التي تتوسل العنف لتنجح وتؤثر بالسلب على المتلقين، نحاول هنا تفسير لماذا يعتمد مُخرجان من حائزي الأوسكار على العنف في سرد عوالمهم؟ وهل يستخدمانه بشكل واحد؟ وأخيرًا هل يُمكن أن يكون العنف طريقتهم للتعبير عن فلسفة أكثر عُمقًا؟
البطولة للأشرار
يبدو العنف دومًا وسيلة الأشرار لتسوية أمورهم و أفلام سكورسيزي وتارانتينو تدور دومًا حول الشرير أو ضد البطل.
السطر الشهير أعلاه من افتتاحية فيلم goodfellas لا يلخص حال بطله بقدر ما يلخص طفولة سكورسيزي في حي (ليتل ايتالي) بنيويورك حيث لا ينجو المرء حسب قول سكورسيزي إلا بأن يكون قسًا أو رجل عصابات.
تعلق سكورسيزي بالأشرار وقدمهم مرارًا لا لشيء إلا لكونهم أبطال طفولته بالأساس، حاول أن يكون قسًا وبالفعل درس اللاهوت قليلًا وعندما لم يفلح ذهب وراء شغفه الثاني وهو دراسة السينما التي ارتادها في طفولته أكثر من أي شيء بسبب مرض الربو الذي جعله غير مناسب للعب أو الانضمام للعصابات، كان يشاهد رجال العصابات من نافذة منزله وراء الزجاج وصاروا هم شخوص أفلامه من وراء الكاميرا.
لم يرتاد تارانتينو معاهد السينما إنما درس السينما في سن ال22 عندما عمل في محل شرائط فيديو في مانهاتن بيتش وهناك شاهد كل أنواع الأفلام خاصة أفلام الدرجة الثانية والويسترن. تشرب كوينتن جرعة عشوائية ومُضاعفة من السينما لذا جاءت السينما خاصته بهدف واحد هو التجريب:
يعترف تارانتينو في مقابلة مع مجلة إمباير 1994 أنه يسرق من كل فيلم تم صنعه، لذا وقع في غرام الأشرار، لأنهم أكثر متعة، لا يوجد فيلم رخيص بدون شرير صارخ ولا يتصدر أفلام الويسترن الطيبون، هم يختبئون في الحانة بينما اثنان من الخارجين عن القانون يتبارزان في صحراء خالية، انبثق أسلوب تارانتينو من التركيب والتبديل بين كل الجونرات السينمائية وكان لابد أن يحمل جموحه شخوصًا أقل وداعة وأكثر نزقًا لذا كانت البطولة في عالمه للأشرار.
اختلاف النشأة ذلك سيجعل سكورسيزي مخلصًا لأصالته ولما يعرفه ولمدينته نيويورك التي احتوت أغلب قصصه، إخلاص دقيق حتى في تفاصيل الطبخ والأزياء والموسيقى سيجعل ذاكرتنا البصرية تتجه لأفلامه بمجرد ذكر كلمة المافيا، بينما نشأة تارانتينو ستجعله أكثر خفة في التجربة وأقل اهتمامًا بالأصالة، تارانتينو لم يتعلم من واقع بعينه هو يخلق أفلامًا من أفلام، لذا كانت المبالغة سمة في أسلوبه السينمائي فضحاياه ينفجرون دمًا عند قتلهم وبطلته بسيف يمكنها محو جيش.
ميل سكورسيزي للحكي من الواقع سيجعل أفلامه دراما وثائقية بطلها صوت الراوي وبنيتها السردية متماسكة من بداية ووسط ونهاية، بينما قدم تارانتينو نفسه للعالمية بفيلم pulp fiction وهو تجربة عبقرية تعتمد على فوضى البنية السردية فالأحداث تبدأ من المنتصف والقصص تنفتح على بعضها بإبداع، ستصم تلك النشأة أسلوب المخرجين في كل شيء من مخرج جعلته تجربته الشخصية شديد الأصالة والدقة وآخر جعلته تجربته ميالاً للتجريب والمبالغة والاقتباس.
أشرار تافهون وأشرار مثلنا
تقول “ثيلما شوميكر” مونتيرة أغلب أفلام سكورسيزي أن ما يفتنه حقًا ليس الطيب أو الشرير بل الرمادي، فالإنسان في سينما سكورسيزي هو فرد يبحث عن خلاصه، تأثره بدراسته اللاهوتية جعل الوجود لديه ذنبًا كاثوليكيًا والخلاص هو ما تختاره الشخصية والشخصية رهينة بيئتها، لذا بيئتك هي مقبرتك أو خلاصك. يقول ذلك على لسان الشرير “فرانك كوستيلو” في مقدمة فيلمه الأوسكاري departed حيث المرء دومًا صنيعة بيئته و كل ما أراده فرانك أن يصنع بيئته لا أن يكون صنيعتها.
يحاول سكورسيزي استكشاف الشر الذي تورثه البيئة للإنسان، لا يحاول إدانته ولا تشجيعه إنما يحاول فهمه، لأن الشر قريب جدًا منك، كان سكورسيزي موصومًا أنه ولد في حي للأشرار وكان يُمكن أن يكون رجل عصابات، مصادفات وحظ حسن لا أكثر هو ما جعله رجل سينما، أنت طيب فقط لأنك ولدت في الحي المحظوظ.
يخلق سكورسيزي سياق بطله الشرير، يقدم بيئته وخلفيته ثم نهايته مورطًا إياك في التعاطف معه، كل أبطال سكورسيزي نراهم منذ الصغر، من بيئتهم التي شكلتهم ثم ببطء درامي دمرتهم.
لو أفزعتك إجاباتي، ربما عليك أن تتوقف عن طرح أسئلة مفزعة
لا يهدف تارانتينو في أفلامه لإجابة أسئلة فلسفية كبرى مثل سؤال الشر ودوافعه إنما يهدف لسلب الشر هالته المُفزعة وتقديم الأشرار على حقيقتهم كأطفال تافهين يمكن سحقهم.
في pulp fiction يؤسس الفيلم لسطوة “مارسيلاس والاس” رجل العصابات المُرعب، لا نكاد نرى وجهه إنما نرى فزع رجاله وهم ينفذون أوامره. في نهاية الفيلم بلمسة كوميدية مُذلة يتعرض مارسيلاس لاغتصاب جنسي على يد مُنحرف.
في inglorious bastards يتحول هتلر والنازيون لفئران عالقين في سينما تحترق، لم تكن مقبرتهم ساحة حرب بل دار سينما في مجاز بديع عن كيفية استعمال تارانتينو للسينما كسلاح هجومي ضد أعدائه لإفقادهم هيبتهم حتى لو كانوا بحجم هتلر. ففي النهاية ما قتل هتلر في عالم تارانتينو هو فيلم سينمائي معروض أمامه.
في once upon a time in Hollywood يفقد اسم تشارلز مانسون المجرم الشهير هالته الإجرامية ويتحول رجاله لمجموعة من الحمقى يقتلون بسهولة على يد كومبارس ينفذ مخاطر ومُمثل بسلاح سينمائي.
لا تهدف سينما تارانتينو بعنفها المُفرط لإجابة سؤال الشر إنما ترويض سطوته وإفقاده هيبته و طمأنتنا أنه خلف الأسلحة يوجد رجال تافهون يُمكننا أن ننتقم منهم بوضعهم في سياق هزلي يكونون فيه ضحية العنف لا صناعه.
لماذا العنف؟
يقول الناقد جوليان كورنيل «لا توجد شخصية في سينما سكورسيزي تجد خلاصها في العنف، العنف لا يقوم بوظيفة تطهيرية بل يدمر صناعه» فالعنف في أفلام سكورسيزي مُلازم لنمط الحياة التي اختارها أبطاله أو ورثتهم البيئة إياه، العنف أسلوب نجاتهم بتلك البيئة، ليس العنف تجلي القوة للشخصية إنما تجلي الهشاشة، نرى ذلك في مشاهد القتل في أفلام العصابات حيث تموت الشخصيات في كادرات خاطفة بطلقة في الرأس لا تكاد تُرى، بينما تستمر الحركة في الكادر بلا مبالاة، كل شخصية في عالمه تعرف أنها يمكن أن تموت برصاصة في الرأس على يد صديقها الصدوق لو صدر الأمر بذلك، تلك هشاشة عالم سكورسيزي، العنف هو طريقة التعبير في هذا العالم لكنه يجعله عالمًا هشًا سائلاً عاجلًا أو آجلًا تسقط العصابات والإمبراطوريات فيه كبيت من أوراق اللعب.
خارج أفلام العصابات نجد العنف في taxi driver متنفسًا فاشلاً لم يحقق الخلاص لشخصية مأزومة، كذلك كان العنف في فيلم raging bull لجاك لاموتا هو تفريغ داخل الحلبة لعقده الشخصية خارجها، لذا باعتزاله وجه العنف لمن حوله ولنفسه و خسر كل شيء، بقليل من التأمل تجد العنف في أفلام سكورسيزي ليس الإجابة الصحيحة أبدًا.
كيف تصنع عنفًا مروعًا وتجعل الناس تضحك خلاله؟
يقول تارانتينو إن العنف واحد من أكثر السمات التي تُميز أمريكا، العنف في الواقع حضوره قبيح ومفاجئ ولا يُمكنك أن تكون جاهزًا له، بينما في السينما خاصته العنف cool أو مُمتع.
كما يُروض تارانتينو الأشرار وينزع عنهم هالتهم ويقذفهم في أشد السياقات إذلالًا وهزلًا، يُروض العنف ويجعله مُمتعًا عندما يوجهه نحو من يستحقونه ومن يهددون به دومًا لذا مشاهد قتل الأشرار تأتي تفصيلية ومُبالغة ومُمتعة لأنها تلبي غايتنا العميقة في التشفي التي لا يمكن ممارستها واقعًا، عندما يجعل العنف مسبوقًا بموسيقى تصويرية وكادرات مُنبئة عنه، لأن تارانتينو تعلم من السينما، هو لا يحاكي عنف الواقع إنما يقدم ميزة السينما في جعله متوقعًا ومنحك لذة مشاهدته عن بعد مصحوبًا بكل لذائذ تجربة التلصص.
ما يجعل عنف تارانتينو غير تجاري على الإطلاق كعنف أفلام السلاشر الشهيرة أنه ليس غاية الحكاية بل وسيلة من ضمن وسائل لسردها. يتموضع العنف في سينماه ضمن أدوات كثيرة يستخدمها في خلق أوركسترا إيقاعه، العنف دافع الحكايات الرخيصة وأفلام الويسترن ومُحرك تيمات الانتقام وكل روافد الحكايات التي رآها في محل الفيديو في شبابه، لذا العنف طريقة سرد لا غنى عنها لكنها ليست غاية الحكاية أبدًا.
يقول سكورسيزي إن الأشرار هم نحن والعنف تعبيرهم عن حياتهم وربما هو كامن فينا لكنه لم يجد البيئة التي يتجلى فيها، بينما يقول تارانتينو إن الأشرار هم بلا حول أو قوة على مسرحه والعنف موجه ضدهم وبينما لا نستطيع التنبؤ بعنف الواقع والتحضر له يمكننا أن نذخر سلاح السينما بالذخيرة التي خلقناه لأجلها. يمكننا تخيل العنف وانتظاره ورميه في سياق يجعله مضحكًا، نتلصص عليه ونستمتع ولا نكون ضحيته.
يستدعي سكورسيزي شخصياته من حكايات حقيقية ليُخبرنا أن شخوصه موجودون، فالمافيا كانت تنمو في نيويورك جوار المسارح ووحشية جاك لاموتا وهوس هوارد هيوز وطمع جوردان بيلفورت هو خطايا كاثوليكية لشخوص حقيقية، التاريخ مادة سكورسيزي لنواجه ظلنا الموحش، بينما التاريخ مادة يستخدمها تارانتينو لإعادة سرد الحكاية وجعل الشرير ضحيتها، يموت هتلر في دار سينما وتموت عصابة مانسون على يد كلب متوحش وممثل يقتلهم بسلاح مستعار من سينما الخيال، سكورسيزي يستكشف الشر وتارانتينو يروضه.
يقف فقط العنف كأسلوبية على قمة جبل عميق من السمات تجعل كليهما أسطورة في صناعة السينما، العنف لا يتجزأ عن سينما سكورسيزي وتارانتينو لكنه لا يختزل السينما خاصتهم أبدًا.