العلم لن ينقذنا
في سلسلة فلاش التي كانت تصدر للأطفال والمراهقين، كتابة ورسوم خالد الصفتي، برزت إحدى الشخصيات العظيمة التي ما زال أثرها متبقيا في مخيلتي حتى اليوم، كان اسم الشخصية (علام) وكانت صفاته الشخصية أنه مغرور جدا، مشمنئط دائما، لا يفتح عينيه أبدا لأن من أمامه غالبا لا يستحق أن يُرى فعلا، وكان دائم الوقوف على ناصية معينة لا يتحرك منها، وأخيرا كان يعرف كل شيء عن كل شيء، ويستطيع الرد على أي سؤال مهما كان، حتى وإن كانت إجاباته بلهاء، فإنه لم يجب بلا أعرف أو لا أدري أبدا.
ربما يكون علام شخصية كاريكاتورية/هزلية للأطفال، لكنه يمثل تجسيدا حيا ورائعا لأتباع أحد المذاهب (الاتجاهات الفكرية) التي ازدادت شعبية في السنين القليلة الفائتة، خصوصا بعد انهيار سطوة الدين وقدرة الإسلاميين (في عالمنا العربي على الأقل) والمتدينين عامة في العالم كله على احتكار تفسير الكون وأهدافه وغاياته. أتحدث عن الإلحاد الجديد وأيديولوجيته وواجهته الأهم؛ العلموية.
العلموية و تعريفها: هي وجهة النظر التي ترى أن الطرق الاستقرائية المميزة للعلوم الطبيعية هي المصدر الوحيد للمعرفة الواقعية الحقيقية، كما أنها وبشكل خاص تستطيع وحدها أن تسفر عن المعرفة الحقيقية بالإنسان والمجتمع.
والتعريف السابق هو حسب قاموس الأفكار الحديثة طبعة 1999 لندن، قد يستخدم المصطلح بشكل ازدرائي وتحقيري كما يستخدم مصطلح الإسلاموية بشكل تحقيري (إضافة الواو والياء والتاء يضيف بعدًا ادعائيًا لأصحاب المذهب، فهذا الإسلاموي ليس إسلاميا بالفعل لكنه يدعي الإسلامية.
كما العلموي الذي يدعي أن مذهبه العلم، قد يؤخذ على المصطلح تفتيشه في النوايا ويحمل شبهة ازدراء واضحة حين يطلق على هذه الفئة أو تلك، كما كان يقال في العامية المصرية ثورجي أو كولجي أو ينايرجي للتسفيه والتحقير من الثوريين وأصحاب يناير) لكني لا أستخدم المصطلح هنا للتحقير، إنما أستخدمه للتعريف، النقد والاشتباك مع أطروحات هذا المذهب / الاتجاه الفكري.
يدعي هذا المذهب أن «العلم هو الحل»، وأن مجتمعاتنا العربية تقبع في جهالة مظلمة بسبب لا عقلانيتها المتأصلة فيها إلى أبعد مدى (البعض منهم يدعي أن فطرتنا أصلا لا عقلانية) نتيجة الإيمان بالدين أو غيره من الموروثات التي حجبت رؤيتنا وجعلتنا في ذيل الأمم.
لم ينظر حتى إصلاحيو عصر النهضة (محمد عبده، الأفغاني… إلخ) نظرة نقدية لهذه الرؤية حين انتشر مثيلها في بدايات القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، من كان منهم متدينا (أو غير متدين حتى) كان يرى أن الدين لا يتعارض مع العلم (العلم «الغربي» الحديث الذي أصبح سلطة ثقافية وأيديولوجيا ترويجية لتفوق الغرب الدائم والمستمر) وكان يحاول جاهدا إثبات هذا، لكنه لم يكن ينظر للدين والعلم كحقلين مختلفين لا تعارض أو توافق بينهما؛ لأن افتراضاتهم مختلفة في الأساس (كما أن المنطق العلمي يختلف عن المنطق الديني في أن الأول تجريبي، أمبيريقي، معملي، لكن الثاني حدسي، عقلي وقلبي؛ و هذا لا يعني أن أحدهما مقدم عن الآخر أو أفضل منه).
كان الدين يوضع تحت ضغط هائل ليس أهلا له، ذلك لأنه من طينة أخرى ومن حقل آخر، فحقل الكيمياء والفيزياء والطب والهندسة والعلوم الطبيعية المختلفة يختلف عن حقول مثل علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا واللاهوت وباقي الإنسانيات. لكن الدين كان مطالبا بأن يركض في حلبة سباق لم تعد له من الأصل مع خصم له الأفضلية وسط بيئته الطبيعية، خصم يطرح نفسه كنوع من (الخلاص الأرضي) بدلا من الدين الذي يعد (بالخلاص الأخروي).
الفيلسوف «تزفيتان تودروف» في كتابه «الحديقة غير المثالية: تراث الإنسانية»
يتحول العلم إلى سلطة لا يمكن مساءلتها وتقوم بإخضاع كل الحقول الأخرى لسطوتها سواء كان الله، الوجود، الدين، الإنسانيات وغيرها. تصبح الحرية الإنسانية أو الخيار الإنساني كلمات مبتذلة ما لم تكن الحرية هي حرية التقنية في التحرك كالأخطبوط والتحكم في عالمنا الشجاع الجديد من خصيتيه، والخيار ما هو إلا اختيار ما تم بالفعل تحديده لنا.
الإنسان في عرف العلم الحديث ليس أكثر من عبد لجيناته الموروثة وتفاعلاته العصبية، والوعي ليس سوى الضجيج الذي يحدثه إطلاق تلك الخلايا العصبية. فجأة يصبح كل شيء خاضعا للقياس، في مجتمع يزداد عبادة للعلم (حيث إن الله قد ترك فجوة كبيره حين قتلناه كما قال نيتشه، وكما أن الإنسان لا يقبل بالفراغ كما السياسة تماما، فإنه احتاج لإله جديد، وكان أنسب الآلهة الجديدة هو العلم)، ربما بعد فترة من الزمن سيمكننا العلم من أن نقيس الشجاعة والحب أو الراحة والرضا.
يقول منظرو حركة الإلحاد الجديد/العلموية، ومنهم البريطاني ريتشارد دوكينر: عالم الأحياء الشهير وصاحب كتاب وهم الإله، والأمريكي سام هاريس المفكر وعالم الأعصاب، ناقد الأديان وصاحب كتاب نهاية الإيمان.
يقول ريتشارد دوكينز: «إن العلم يطير بك إلى القمر بينما يطير بك الدين إلى المباني» (في إشاره لهجمات 11 سبتمبر والفكر القاعدي/الداعشي/الانتحاري) ويقول أيضا: «إن الدين يعلمنا أن نكون راضين بدون الفهم»، أو أن المتدين لا يملك أن يكون أخلاقيا لأنه خائف طوال الوقت من الكاميرا الخفية في السماء (الله) والمؤمن يراقب كل أفعاله وأفكاره الأساسية حتى لا يعاقب ويدخل النار.
ويقول سام هاريس إن «المتدين الأصولي يصدق أن الكتاب الذي يقرؤه كتبه رجل خفي في السماء، وأنه سيعاقبه بأبدية في النار إن لم ينفذ تعليماته بالحرف الواحد، ولن يطلب أي دليل على هذه الأشياء».
يمكن الرد على اقتباسات دوكينز السابقة بأن للدين أيضا طاقة تحررية رهيبة تبعث الإنسان من الرماد وتجعله مهتما بتعمير الكون وإحيائه «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»، رابعة العدوية قد روي في مأثور عنها أنها قالت «يا رب إذا كنت أسلمت طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإذا كنت أسلمت خوفاً من نارك فأدخلني فيها»، وكثير من المؤمنين يفعلون الخير قائلين (لوجه الله) لا لطمع في جنة أو رهبة من نار، وأحيانا كثيرة الحب والإخلاص هو ما يوجه المؤمن الحقيقي وليس الخوف فقط.
أما عن اقتباس سام هاريس فإن الأدلة كثيرة -من وجهة نظر المؤمنين- على وجود الله، وهي ليست أدلة علمية، لكن هذا لا يعني أنها خاطئة كما قد وضحنا سابقا، فالمنطق عامة شيء والمنطق الديني شيء والمنطق العلمي شيء آخر تماما.
بغض النظر عن تلك النظرة الساذجة والمراهقة للدين، تلك النظرة التي تنظر للمؤمنين بالله تماما كما تنظر للمؤمنين «بالسلعوة أو أبو رجل مسلوخة»، تلك النظرة الجاهلة كثيرا بعلم اللاهوت وتشعباته المختلفة، مهملين فكرة أن الإيمان له عبقرية وطبيعة خاصة جدا.
الإيمان «حقيقي» تماما، ليس حقيقيا بمعنى أنه يمكن رؤيته وتوثيقه أو قياسه كما يحب العلمويون أن يفعلوا تماما، كما لا يمكن توثيق وتصوير وقياس المعاني والقيم المجردة، لكنه حقيقي بالمعنى الذي يجعل «الشعر» عند محبي الشعر حقيقيا، والله عند المؤمنين به فعلا مثل «القصيدة» المؤثرة، حقيقي تماما كما هي حقيقية.
كان مرد المسيري من الرؤية المادية للعالم (الإلحاد) إلى الإسلام أساسه الخوف من تلك النسبية التي تحكم كل شيء، حيث لا مرجع للأخلاق ولا للخير أو الشر أو غيرها من الأمور التي يجب ألا نناقشها بوضع مقلوب.
كما فعل مثلا سام هاريس حين برر التعذيب في أنه يحمي حياة المواطنين الأمريكيين رغم المعرفة الأكيدة لدينا أن التعذيب لم يحم أحدا قط وأنه فعل غير أخلاقي تحت كل الظروف، ليس فقط أن التعذيب فعل لا براجماتي كما يدعي البعض (وهم في ادعائهم معهم حق لكنهم أهملوا نصف الحقيقة)، التعذيب يجبر الأشخاص على الكذب أو الموافقة على ما يطلبه منهم جلادوهم كي يتخلصوا من معاناتهم البشعة، أي أنه حل غير ناجع وغير (فعال)، لكن اعتراضنا على التعذيب ليس لهذه الأسباب البراجماتية التقنية إنما نعترض عليه من موقع مبدئي يرفضه في المطلق لأنه فعل غير أخلاقي يهين حرمة الحياة الإنسانية ويمتهنها.
كما أن اعتراضنا على حرب العراق هو عليها من حيث المبدأ، مبدأ رفض الحرب من الأساس والاعتداء، وليس مبدأ بعض الديموقراطيين الذين اعترضوا على الحرب (بأثر رجعي غالبا) مدعين أنها كلفت الخزينة الأمريكية الكثير أو تسببت في مقتل عشرات الجنود الأمريكيين (لم يكن في أسباب رفضهم أنها قتلت مليوني شخص عراقي ودمرت البنية التحتية للدولة العراقية تماما).
يدعي العلمويون معرفه مطلقة، إن لم تكن لهم فللعلم الذي يؤمنون به، ثم يسقطون النسبية على الأخلاق وعلى باقي مجالات الحياة. ويثقون في آرائهم ونظرياتهم العلمية (التي هي حتى ليست نهائية ومتجددة وقابلة للنسخ والإضافة والتعديل) ثقة عمياء، ثم يتهمون المتدينون بأنهم يثقون في كتبهم ودينهم و(خرافاتهم) ثقة عمياء.
تماما كعلام شخصية فلاش الشهيرة لا يفتحون أعينهم ليروا المؤمنين أمامهم وكيف يفكرون حقا (تعميهم الأيديولوجيا)، يقفون على (ناصيه العلم) دون رغبة في التحرك منها أو زحزحة أماكنهم قليلا ليعرفوا باقي المناهج، مكتفين باتكائهم على العلم الطبيعي بثقة لا متناهية، كما أنهم يظنون أنهم يمتلكون الرد على كل الأسئلة مهما كانت صعوبتها أو عدم قابليتها للقياس تبعا لمناهج العلم الطبيعي فقط.
ربما لو مارس العلمويون (ريتشارد دوكينز، سام هاريس، وقطاع مهم من الشباب العربي الذي يدور في فلكهم) قليلا من «الشك» الذي ينصحون به المؤمنين دائماً، لربما حينها أمكن العلم أن ينقذنا فعلا. لو تساؤلوا فقط عن حدود العلم وأنه ليس كما يظنون وينظرون وأنهم ربما لا يملكون اليقين التام عن الحياة وأصلها ومصيرها ومآلها.
وحتى ذلك الحين.. فإن العلم لن ينقذنا.