شغف العلم بين «ورطة» الحكيم و«سجن» زيمباردو
قد يأخذنا شغفنا بالعلم وحب المعرفة لمناطق وعرة لم نكن نعلم مدى خطورتها قبل البداية في هذا الطريق. وعند مواجهة بعض المخاطر، قد نتغافل عنها أو نحاول أن نسميها بأسماء أخرى كي نستمر في السعي وراء شغفنا وفضولنا.
لكن في بعض الأحيان، تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، وتقود تلك التجربة صاحبها لحافة الهاوية وينجرف دون إرادة منه، وهنا يبقى له أن يختار بين أمرين لا ثالث لهما؛ إمّا أن يسعى خلف شغفه وفضوله الذي لا يستطيع كبحه، وتصبح التجربة هي مالكة زمام القيادة فيقع في «ورطة» كما أسمى توفيق الحكيم مسرحيته، أو أن يقف على الحافة، ويدرك أن استمراره في ذلك البحث وهذا السعي الدؤوب قد يفضي به وبمنْ حوله للهلاك، فيُنهي تجربته كما فعل أستاذ علم النفس «فيليب زيمباردو» في «تجربة سجن ستانفورد».
تتلاقى كل من مسرحية «الورطة» للحكيم، ذات الطابع الكوميدي، و«تجربة سجن ستانفورد» لـ فيليب زيمباردو، في نقطة الإقدام على تجربة لخدمة العلم، لكن الأمور تتطور وتخرج عن السيطرة وتكون النتائج مؤذية للمشاركين ومُربِكة للقائمين على التجربة.
مسرحية الورطة (1966)
في إطار هذه الفكرة، يُقدّم توفيق الحكيم مسرحية «الورطة»، والتي تأخذنا في إطار كوميدي في عالم أحد أساتذة القانون الجنائي، دكتور يحيى، والذي يحاول أن يدرس الجانب النفسي للمجرمين كي تصبح المادة في كتابه -القائم على تأليفه- أكثر دقة وموضوعية، وذلك باستضافة المجرمين في منزله لدراسة سلوكهم قبل وبعد العملية الإجرامية، وذلك بناءً على اقتراح ناشر أعماله «راغب»، لكنه لم يفطن أن هذا ليس سوى شِرك أراد به هذا الناشر أن يُوقِعه به، لأنه متواطئ مع هؤلاء المجرمين، وتسري التجربة لنتائج لا تُحمد عقباها.
يوقع الناشر بالدكتور من خلال حيلة، وهي أن أحد مشتري الكتب كان له تعليق سلبي على تلك الكتب التي تُنشر عن علم النفس الجنائي من قِبل أساتذة قابعين في مكاتبهم، دون الاختلاط بهؤلاء المجرمين ودراسة سلوكهم والحافز الذي قد يكون السبب الحقيقي خلف إقدامهم على هذا الفعل. فيؤمّن الأستاذ على تلك الفكرة ويقتنع بأنه من الأفضل حقًا هو دراسة سلوك هؤلاء المجرمين عن قرب.
يطرح صاحب دار النشر فكرة تقديم مجرم للأستاذ كي يستطيع أن ينجز عمله بشكل عملي، بعيدًا عن كل هذا الكم الهائل من الجانب النظري. ويوافق الأستاذ ويستضيف مجموعة من المجرمين الذين يخططون لعملية سرقة أحد محلات المجوهرات في شقته، كي يستطيع دراسة سلوكهم والدوافع التي جعلتهم يقدمون على ذلك وما يشعرون به قبل وبعد انقضاء العملية، مع قطع وعد لهم بأنه لن يفشي سرّهم؛ ليس لأنه يُشجّع الجريمة، لا، كل ما في الأمر أنه يريد دراسة حالتهم وبالتالي عليه أن يقدّم لهم ضمانًا، وكان القسم بشرفه هو ذلك الضمان.
يتضح ذلك في كلام الأستاذ معهم، فهو غير مهتم بخطتهم للسرقة، حتى أنه عَلِم بنوع الجريمة مؤخرًا وليس من البداية، لأنه يعتبر أن ذلك شيئًا ثانويًا في التجربة التي ينوي القيام بها.
وبعد أن يجمع الأستاذ معلومات حول نشأتهم والظروف التي أدت بهم لتلك النقطة في حياتهم، يستعدون لتنفيذ عملية السرقة ويمنّون أنفسهم بالغنائم التي ستأتي بها العملية وكيف سيقومون بتقسيمها بينهم. كل ذلك دون إبداء أي شعور بالذنب، بل بشيء من السخرية والاستهزاء.
تجربة سجن ستانفورد (1971)
هذه التجربة هي واحدة من أهم التجارب في علم النفس الاجتماعي، والتي أُجريت بهدف التعرّف والتوصل لمدى حدود القوة الشخصية إذا ما امتكلت شيئًا من السلطة والقدرة على إصدار الأوامر دون قيد، وكذلك معرفة الآثار النفسية لمن هم خاضعون لتلك الأوامر والذين لا يمتلكون سلطة حقيقية.
أُجريت هذه التجربة على 21 مشتركًا لم يكن لهم أي سابقة في الجريمة، كما تم استبعاد منْ لديهم مشكلات نفسية أو صحية، ومنْ سبق لهم تعاطي المخدرات.
في البداية تم تقسيم المشاركين بين سجناء وحُرّاس، وتمت معاملة السجناء كمجرمين حقيقيين، كما كان للحرّاس امتيازات خاصة؛ بدايةً من الزي المُميز، ووصولاً إلى قدرتهم على إصدار أوامر غير ذات مغزى حقيقي، سوى إظهار تفوّقهم وتحكّمهم.
في البداية كان السجناء يأخذون الأمر على محمل الهزل، ثم بدأت الأمور تختلف وتصبح أكثر جدية وحدّة شيئًا فشيئًا، وذلك عند بداية الحرّاس ممارسة السلطة على السجناء ومضايقتهم، وكلما انغمس السجناء في حياة المذنبين وأصبحوا أكثر خضوعًا، أصبح الحرّاس أكثر عدوانية.
كان «زيماردو» مُشرفًا على التجربة ويرى تلك التعديات من جانب الحرّاس، لكنه لم يُبدِ اعتراضًا عليها. حتى عندما أظهر أحد المشاركين السجناء انهيارًا عصبيًا بسبب ما يتعرّضون له خلال هذه التجربة على أيدي الحرّاس، لم يتخذ قرارًا بالتدخل لمنع الحرّاس مما يقومون به أو معاقبتهم، فتمادوا في ذلك، مما كان له آثار وخيمة على السجناء.
الأمور تخرج عن السيطرة
أنهى زيمباردو التجربة في وقت مبكر بعد 6 أيام، بينما كان المقرر أن تستمر التجربة لأسبوعين، كما انتهت تجربة سجن ستانفورد بسبب الانهيارات العاطفية للسجناء، والعدوان المفرط للحراس. اتخذ زيمباردو هذا القرار عندما اعترضت «كريستينا ماسلاش»، طالبة الدراسات العليا في علم النفس، على ظروف السجن بعد حضورها إحدى المقابلات مع أحد السجناء، والتي لاحظت عليه أعراض الانصياع والخضوع بشكل كبير.
بالعودة لـ «ورطة» الحكيم، نجد أن الأمور أيضًا قد خرجت عن السيطرة؛ فعملية السرقة لم تتم وحسب، بل كانت نتيجتها مقتل عسكري بوليس عائل لأسرة مكونة من 4 أفراد، واتهام، بل وثبوت التهمة على شخص آخر بريء.
هنا، يُعاود الدكتور يحيى شعور بالذنب ويشعر بمدى الأذى الذي لحق بأناس آخرين أبرياء من جرّاء هذه العملية. بينما لا يشعر أي من المجرمين بذنب تجاه ما حدث، بل ويبررون فعلتهم.
يقع الدكتور يحيى في غياهب الشعور بالذنب ويفطن لمدى الجرم الذي تسببت فيه هذه التجربة.
ويستطرد الدكتور يحيى مؤنّبًا نفسه:
تنتهي المسرحية بإبلاغ الدكتور يحيى الشرطة عن نفسه حتى ينقذ المتهم البريء، دون ذكر أي من أسماء المجرمين الحقيقيين أو إفشاء سرّهم، بسبب قطعه وعدًا معهم لعدم الإبلاغ عنهم، ويقع ضحية لشغفه بالعلم الذي دفعه للسقوط من حافة الهاوية.