العلم يتفوق على العقل البشري وقدراته المحدودة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
الحسن بن الهيثم (965 – 1040)
إن العلم يواجه أزمة بيانات، ففي خلال العام الماضي، كان هناك أكثر من 1.2 مليون ورقة جديدة نُشِرت من خلال دراسات العلوم الطبية الحيوية وحدها، ما يصل بالعدد الإجمالي لأوراق العلوم الطبية الحيوية التي خضعت لمراجعة الأقران (peer-reviewed) إلى أكثر من 26 مليون ورقة سنويا. على الرغم من ذلك، فإن العالِم العادي يقرأ 250 ورقة خلال العام الواحد. في غضون ذلك، شهدت جودة المؤلفات العلمية انخفاضا. وخلصت بعض الدراسات مؤخرا إلى أنه لا يمكن إعادة إنتاج نتائج أغلب أوراق العلوم الطبية الحيوية.
إن التحديين المتعلقين بالكم الكبير والجودة القليلة يتأصلان في القدرة العصبية المحدودة للعقل البشري. إن العلماء يستخلصون الفرضيات من جزء أصغر من معرفتنا الجماعية وبالتالي يوجهون أسئلة خاطئة أو يسألون أسئلة قد سبق الإجابة عنها. أيضا، يبدو أن الإبداع البشري بات يعتمد بشكل متزايد على تصادفية تجارب سابقة، وهي أحداث حياتية محددة تسمح لأي باحث بملاحظة شيء لا يلاحظه الآخرون. وعلى الرغم من أن الصدفة تُعد عاملا في الاكتشافات العلمية، فإنها تلعب في الوقت الحالي دورا أكبر مما ينبغي.
إن إحدى الاستراتيجيات الواعدة لتجاوز الأزمة الحالية هي دمج الآلات والذكاء الاصطناعي داخل العملية العلمية. فالآلات تحظى بذاكرة أكبر وقدرة حسابية أعلى من العقل البشري. من الممكن أن تزيد أتمتة العملية العلمية معدل الاكتشاف. وقد تبدأ حتى ثورة علمية أخرى. لكن تلك الإمكانية الهائلة تتوقف على سؤال ضخم بنفس القدر، ألا وهو: هل يمكن حقا أتمتة الاكتشاف العلمي؟
أعتقد أنه يمكن، من خلال استغلال نهج عرفناه لقرون. إن الجواب على هذا السؤال يمكن أن نجده في أحد أعمال السير فرانسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزي بالقرن السابع عشر والرائد الرئيس للعلوم الحديثة.
يمكن تعقب التكرارات الأولى للمنهج العلمي بالعودة إلى قرون سابقة ومفكرين مسلمين مثل الحسن بن الهيثم الذي أكد التجربة والفلسفة التجريبية. على الرغم من ذلك، فقد كان بيكون أول من قام بصياغة المنهج العلمي وجعله موضوعا للدراسة. وفي كتابه «Novum Organum 1620» (الوسيلة الجديدة) قدم بيكون نموذجا للاكتشاف لايزال معروفا حتى يومنا هذا باسم المنهج البيكوني. وعارض بيكون القياس المنطقي للتأليف العلمي، الذي اعتبره غير جدير بالثقة. وبدلا من ذلك، فقد قدم منهجا يتم من خلاله جمع الملاحظات ذات الصلة حول ظاهرة محددة وجدولتها وتحليلها تحليلا موضوعا باستخدام المنطق الاستقرائي لتوليد أفكار معممة. ويرى بيكون أنه يتم الكشف عن الحقيقة فقط عندما يكون العقل خاليا من البديهيات غير الكاملة.
لقد حاول المنهج البيكوني إزالة الانحياز المنطقي من عملية المراقبة وصياغة المفاهيم من خلال تحديد خطوات التوليف العلمي والاستفادة المثلى من كل خطوة على حدة. وكانت رؤية بيكون تتلخص في الاستفادة من مجموعة من المراقبين لجمع كميات ضخمة من المعلومات عن الطبيعة وجدولتها في سجل مركزي يسهل الحصول عليه من خلال التحليل الاستقرائي. وفي Novum Organum كتب: «إن التجريبيين كالنمل، إنهم يجمعون ويضعون كلّ شيء. لكن العقلانيين كالعنكبوت، ينسجون الخيوط من أنفسهم. إن المنهج الأفضل هو ذلك الخاص بالنملة، فهي توجد في مكان ما بين اثنين وتقوم بجمع المواد المتاحة واستخدامها».
ونادرا ما يستخدم المنهج البيكوني في يومنا هذا. لقد ثبت أن ذلك المنهج شاق للغاية ومكلف، وأن تطبيقاته التقنية مبهمة. على الرغم من ذلك، ففي خلال مرحلة صياغة المنهج العلمي مثّل المنهج البيكوني تقدما ثوريا. وقبل ذلك، كان العلم تجريديا يستطيع الوصول إليه عدد قليل من المطلعين، ومعظمهم من النبلاء. وعن طريق رفض سلطة الإغريق القدماء ورسم خطوات الاكتشاف، وضع بيكون برنامج عمل يسمح لأي شخص، بغض النظر عن معرفته، أن يصبح عالما.
لقد كشفت أفكار بيكون أيضا حقيقة خفية مهمة، وهي أن عملية الاكتشاف خوارزمية بطبيعتها. فهي نتاج عدد محدود من الخطوات التي تتكرر حتى يتم التوصل إلى نتيجة ذات مغزى. لقد استخدم بيكون صراحة كلمة «آلة» في وصفه لمنهجه. إن خوارزميته العلمية تتألف من 3 مكونات أساسية: الأول هو أنه ينبغي جمع الملاحظات ودمجها داخل إجمالي النصوص المعرفية، والثاني استخدام الملاحظات الجديدة في إنتاج فرضيات جديدة، أما الثالث فيتمثل في أن يتم اختبار الفرضيات من خلال تجارب مصممة بعناية.
وإن كان العلم خوارزميا، فيجب أن تكون لديه القدرة على الأتمتة. لقد استعصى ذلك الحلم المستقبلي على علماء الحاسوب والمعلومات طيلة عقود، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى أن الخطوات الثلاثة للاكتشاف العلمي تشغل مستويات مختلفة. فالملاحظة حسية وإنتاج الفرضيات عقلي والتجربة ميكانيكية. إن أتمتة العملية العلمية ستتطلب إدماج الآلات بشكل فعال في كل خطوة، وبشكل عام فإن الخطوات الثلاثة ستغذي بعضها البعض دون خلاف. لكن أحدا لم يتعرف على الكيفية التي يمكن من خلالها القيام بذلك.
لقد شهدت التجربة التقدم الأهم في الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، تستخدم صناعة الأدوية عادة منصات آلية عالية الإنتاجية لتركيب الدواء. أيضا، شركات ناشئة مثل ترانسكريبتيك وإميرالد كلاود لاب، وكلتاهما في كاليفورنيا، تقومان ببناء أنظمة لأتمتة كل المهمات البدنية تقريبا والتي يقوم بها علماء الطب الحيوي. يمكن للعلماء تقديم تجاربهم عبر الإنترنت، حيث يتم تحويلها إلى رمز وإدخالها لمنصات روبوتية تنفذ مجموعة متماثلة من التجارب الحيوية. تكون هذه الحلول أكثر صلة بالتخصصات التي تستلزم التجربة المكثفة مثل البيولوجيا الجزيئية والهندسة الكيميائية، إلا أنه يمكن تطبيق مناهج مماثلة في مجالات كثيفة البيانات، تمتد حتى إلى التخصصات النظرية.
يُعد الإنتاج الآلي للفرضيات (Automated hypothesis-generation) أقل تطورا، إلا أن ما قام به الدون سوانسون في ثمانينيات القرن الماضي قد قدم خطوة مهمة للمضي قدما. فلقد أثبت وجود صلات كامنة بين الأفكار غير المتصلة في المؤلفات العلمية، وباستخدام إطار عمل استنتاجي منطقي وسهل، تمكن من ربط أوراق في مجالات مختلفة. بتلك الطريقة، كان سوانسون قادرا على وضع فرضية (hypothesise) حول وجود رابط غير مألوف بين زيت السمك ومتلازمة رينو دون إجراء أي تجارب أو أن يكون خبيرا في أي من المجالين. ثمة مناهج أخرى أكثر حداثة مثل تلك الخاصة بأندريه رزيتسكي بجامعة شيكاغو وألبرت لازلو براباشي من جامعة نورث إيسترن، اللذين يعتمدان على النمذجة الرياضية ونظرية المخططات. ويقوم الاثنان بدمج مجموعات كبيرة من البيانات، يتم خلالها تصوير المعرفة كشبكة، حيث تكون العُقد مفاهيم والروابط علاقات بينها. وتظهر الفرضيات الجديدة كروابط غير مكتشفة بين العُقد.
إن الخطوة الأكثر تحديا في عملية الأتمتة هي كيفية جمع ملاحظات علمية فعالة على نطاق كبير. لا يوجد حاليا بنك بيانات مركزي يحمل المعرفة العلمية الكلية للبشرية على صعيد الرصد. لقد حققت معالجة اللغات الطبيعية (Natural language-processing) تقدما للدرجة التي تمكنها ليس من استخلاص العلاقات تلقائيا فحسب، بل أيضا السياق من الأوراق العلمية. على الرغم من ذلك، فإن ناشرين علميين كبار قد فرضوا قيودا شديدة على تحليل النصوص آليا.
الأمر الأكثر أهمية، هو أن النص الموجود بالأوراق يكون متحيزا لتأويلات العالم (أو التصورات الخاطئة)، فضلا عن أنه يحتوي على مفاهيم معقدة وأساليب يصعب استخلاصها وتحديد حجمها. على الرغم من ذلك، فإن التطورات الأخيرة في مجال الحوسبة وقواعد البيانات الشبكية تجعل المنهج البيكوني عمليا للمرة الأولى في التاريخ. وحتى قبل أتمتة الاكتشاف العلمي، فإن تبني نهج بيكون كان يمكن أن يثبت قيمته في الوقت الذي يصل فيه الاختزال الصريح لأقصى استفادة منه.
لا يمكن للعقول البشرية إعادة بناء الظواهر الطبيعية المعقدة بكفاءة في عصر البيانات الضخمة. إن المنهج البيكوني الحديث يجمع الأفكار الانتقائية من خلال تحليل البيانات، لكنه لاحقا يقوم بتحليل هذه المعلومات من خلال نماذج حسابية استقرائية inductive computational models، ما يمكن أن يغير فهمنا للعالم الطبيعي.
إن مثل ذلك النهج يمكننا من وضع فرضيات جديدة تحظى بفرص أعلى في أن تملأ الفراغات الموجودة في معرفتنا. كما أنها ستذكرنا بالشكل الذي من المفترض أن يكون العلم عليه، بمعنى أنه يبحث عن الحقيقة ويكافح الاستبداد ويتمتع بحرية لا محدودة.