مدارس النساء: هل أسهمت المرأة في الحضارة الإسلامية؟
يقول المستشرق والطبيب الفرنسي جوستاف لوبون:
في المقابل نجد اختلافًا جوهريًا في النظرة إلى المرأة في العصر الإسلامي الوسيط، لقد ذكر لنا المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي (ت845هـ/1441م) قصة لطيفة ترسم لنا ملمحًا عن علاقته بوالدته، وكيف علّمته وربّته من خلال المواقف والحوادث والعبر والعظات المستقاة منها، حيث قال أثناء معاقبة السلطان جقمق (ت857هـ/1453م) لأولاد الشيخ المتوفى زين الدين أبي هريرة عبد الرحمن بن النقاش – وكان هذا الشيخ قد استولى على أرض استأجرها من أوقاف الجامع الطولوني، وجعلها وقفًا لأولاده من بعده دون وجه حق، غير أنه كان قوي الحجة؛ إذ تحصّل على فتوى من مجموعة من العلماء بجواز فعله، لكن السلطان أبا سعيد جقمق عَلِم صُنع الرجل، واستطاع أن يستفتي بعض القضاة الذين رأوا أن مدة إجارتها انتهت، ومن ثم لهم الحق في هدمها؛ لأنها من جملة الأملاك الموقوفة والعامة، والتي يحق للقاضي والحاكم الاستيلاء عليها للمصلحة العامة، وبالفعل حدث هذا، وتشرد أبناء الرجل وأحفاده، وكان ابن النقاش هذا قد جعل السلطان الناصر حسن يستصدرُ أمرًا بهدم دار رجل يُسمى قطب الدين بن الهرماس؛ لأنه بناها زيادة مستوليًا على قطعة أرض من الجامع الحاكمي بالقاهرة – فقال المقريزي معلقًا: {ولقد سمعتُ أمي أسماء بنت محمد بن عبد الرحمن بن الصايغ الحنفي، وكان ابن الصايغ من الأفراد في أمور الدين والدنيا يقول عن اللّه تعالى أنه قال: يا داود أنا الرب الودود، أعاقب الأبناء بما تفعله الجدود، فلقد عوقب في هذه الحادثة أبو أمامة أبو اليسر، أبناء أبي هريرة بما فعله جدهما أبو أمامة شمس الدين «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [2]»[3].
مدارس شيّدتها النساء
هذه الحادثة تُبين لنا أن الأم كان لها دور كبير في هذا العصر، تربية تقوم على الثقافة الراسخة، والعلم الأصيل، وأول تلك المسارات التي ساهمت فيها المرأة في سبيل النهضة الحضارية والعلمية، كان في مضمار إنشاء وبناء المدارس والجامعات على نفقاتهن. وقد زخرت مصادر التاريخ الإسلامي بكمّ هائل من المعلومات حول هذا الأمر، ففي بغداد وجدنا المدرسة الشومانية وكانت مدرسة متخصصة لتعليم الفقه الشافعي، بَنَتْها خاتون بنت ظهير الدين شومان([4])، وفي القاهرة وجدنا مدرسة جملية يذكرها المقريزي في «خِططه» وهي مدرسة أم السلطان شعبان، قال عنها:
ومثلها المدرسة الحجازية التي أثنى عليها المقريزي كثيرًا، وهذه المدرسة بنتها السيدة خَوَند تَتر الحجازية، ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، زوجة الأمير بكتَمُر الحجازيّ، وبه عُرفت، قال المقريزي عن أسس قيام هذه المدرسة، ومنهج التدريس والتربية فيها:
وأنشأت مكتبًا وسبيلاً للماء بجوار هذه المدرسة، وتأتي روعة هذا المكتب، أي المدرسة الابتدائية، من الوصف الرائق الذي ينقله المقريزي في خططه؛ إذ تتضح إنسانية هذه الحضارة، ورفقها بالأولاد الصغار لا سيّما الأيتام منهم، من خلال التربية والإنفاق عليهم في آن واحد، قال المقريزي:
وقد أُعجب المقريزي أيضًا بنظامها الإداري، والحراسة المشددة التي كانت لها، بقوله:
ومثلها مدرسة فاطمة ابنة قانباي العمري الناصري فرج (ت892هـ)، كانت إحدى الأميرات في العصر المملوكي الجركسي، قال السخاوي عن مدرستها:
وفي القدس بَنَت السيدة مصر خاتون المدرسة الغادِرية بداخل المسجد الأقصى، وواقفها (أي بانيها والمنفق عليها) الأمير ناصر الدين محمد بن دُلغادر، وكان ذلك عام 836هـ [11]. وفي اليمن اهتمت نساء الأمراء والملوك بتشييد المدارس على نفقتهن الخاصة أيضًا، من تلك الفضليات نجد السيدة الآدر الكريمة (ت721هـ)، قال الزركلي:
ولم يكن دورهن البناء والتشييد والتعمير وفقط، بل ظهرت منهن العالمات النجيبات اللاتي ذاع صيتهن، مثل «أُمامة بنت عبد السلام بن القاضي عبد الخالق بن سعيد البعلبكية؛ سمعت من جدتها ست الأهل بنت علوان، وحدَّثت وماتت سنة 744هـ»[13]، ونلحظ أنها أخذت عن جدتها، وكانت من جملة عالمات الحديث النبوي الشريف.
وكان طلبة العلم يسعون بجد ونشاط للأخذ والتلمذة على تلك العالمات الحافظات، بل كانوا يذكرونهن في مشيخاتهم وفهرستاتهم ومعاجمهم التي خلدت سِيرهن، وهي مؤلفات كان الغرض منها تقييد رحلة طلب العلم، وذكر الشيوخ والشيخات، وأنواع العلوم التي أخذها طالب العلم؛ فمنهن العالمات أمة الرحمن بنت محمد بن شيبان البعلبكية، ذكرها أبو حامد بن ظهيرة بعد الستين [14] وحدث عنها في معجمه [15]. وفي مقالنا القادم نستكمل الحديث عن دور المرأة ومساهمتها في نهضة الحضارة الإسلامية؛ إنشاءً ومشاركةً وتثقيفًا.
- جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر ص403، 404.
- الكهف: 49.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 7/ 396.
- عبد القادر بدران: منادمة الأطلال ومسامرة الخيال ص109.
- المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 258.
- المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 230.
- نوع من الحلوى والفطائر.
- المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 231.
- المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 231.
- السخاوي: الضوء اللامع 12/ 98.
- العليمي: الأنس الجليل 2/ 40.
- الزركلي: الأعلام 1/ 25.
- ابن حجر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 491.
- أي بعد سنة 760هـ.
- ابن حجر: الدرر الكامنة 1/ 491.