مُدارسَة ومذاكرة: في نظام الوقف وجدلية الحرية والاستبداد
المُدارسَة … عمل متعدد الأبعاد، هدفه التمحيص والتدقيق والغربلة للكشف عن حب حصيد الأفكار والمسائل والموضوعات المدروسة. أما الدرسُ فهو: عمل أحادي البعد، هدفه نقل نتائج المدارسة وحب حصيدها من القائم بها إلى المخاطب بتلك النتائج. المدارسة فعل جماعي منفتح على مختلف الاحتمالات، والدرس فعل فردي محدد الاتجاه والغاية. المدارسة شورى علمية غير ملزمة، والدرسُ قرار علمي يوشك أن يكون ملزماً للمخاطب به.
والمذاكرة … عمل متعدد الفاعلين؛ يذكِّر بعضهم بعضاً. هدفه لم شتات الأفكار وأجوبة المسائل وأطراف الموضوعات محل المذاكرة. أما المحاضرة فهي: عمل يسير في اتجاه واحد؛ من المحاضر إلى المخاطبين بموضوع المحاضرة. هدفه نقل اجتهادات وآراء تبلورت لدى المحاضر، واستحقت أن يستدعي مخاطبيه للحضور لتلقي هذه الاجتهادات وتلك الآراء عنه بشكل مباشر، وهم في حضرته، أو «وهم حضور». المذاكرة فعل جماعي منفتح على أبعاد الموضوع المحددة سلفاً، والمحاضرة فعل فردي يسير من أعلى لأدنى، مثله كمثل الدرس. المذاكرة سعي وتشاور في محيط الموضوع، والمحاضرة أداء يوشك أن يكون إبراءً لذمة المحاضر؛ ما لم تعقبه مناقشات وحوارات تعيد الأمر إلى نصاب «المدارسة»، أو «المذاكرة»، أو إليهما معاً.
في نور تلك المعاني وفي بروقِ تلك الفروق بين: «المدارسة»، و«الدرس»، و«المذاكرة»، و«المحاضرة»، يندرجُ هذا النص الذي خصَّصته لموضوع «نظام الوقف» في علاقته بجدلية «الحرية والاستبداد» في ظل الدولة العربية الحديثة. وليكن واضحاً، إذن، أن هذا «النص» مدارسةٌ ومذاكرةٌ في حركية نظام الوقف بين أطروحة الحرية ونقيضها الاستبداد، على نحو مركب وليس أحادياً، وحيوي وليس جامداً.
ما أطرحه هنا، وأدعو إلى تدقيق النظر فيه مدارسةً ومذاكرةً هو: أن نظام الوقف الإسلامي في أصوله المعرفية وفي أغلب تطبيقاته التاريخية، مستوعَبٌ بأكمله في «مفهوم الحرية»، ومؤسِّسٌ لهذا المفهوم؛ فلسفياً، وإيمانياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وفق المرجعية المعرفية الإسلامية. وأتصور أن فاعلية هذا النظام الاجتماعية والحضارية قد ارتبطت تاريخياً بإسهاماته في الحقل الدلالي/التطبيقي للحرية، أولاً وقبل أي شيء آخر. ففي الفترات التاريخية التي كانت فيها المبادرات الوقفية مستجمعة شروط «الحرية»، ازدهرت فاعلية نظام الوقف، وأضحى عوناً للمجتمع والدولة معاً، أما في الفترات التي فقدت فيها تلك المبادرات شروط الحرية، فقد تقوضت فيها فاعليته، وأمسى عبئاً على المجتمع، عوضاً عن أن يكون عوناً له. وأوضح دليل على ذلك هو: أن دولة الاستبداد العربية الحديثة عندما قوضت معاني الحرية في نظام الوقف، وعندما ألحقته ببيروقراطيتها العامة، فإنها قد أفقدته فاعليته، ونقلته من حيز تعزيز الحريات الفردية والجماعية، إلى حيز ترسيخ التسلط والاستبداد.
إن «الوقف» باعتباره تبرعاً اختيارياً بما يملكُه المتبرع أو ببعض ما يملكُه؛ هو عمل يؤسس معنى «الحرية» داخل الإنسان قبل أن يشيدها خارجه؛ وإذا ما تأسست الحرية داخل الإنسان فإنها تطرح ثمراتها خارجه بيسر وراحة. وأول درجات تأسيس الحرية داخل النفس هو تحريرها من أسر شهوة التملك، فالوقف يعني التنازل الطوعي عن الملكية وردها إلى مالك الملك وهو الله سبحانه وتعالى.
لا يبدأ فعل الوقف تشييد الحرية من خارج النفس؛ لأن هذه طريقة وضعية مادية تعتمد على بناء الحرية وفق معطيات موازين القوى المادية؛ فمن يملك قوة أكبر يتمتع بحرية أكبر، ومن يملك قوة أقل فحريته على قدر ما يملك. أما فعل الوقف فإنه يقلب تلك المعادلة ويستهدف إعادة بناء موازين القوى على قاعدة معنوية موحدة يتشارك فيها الجميع ويتشوق إليها وهي «حب الخير»، وأفضل الخير هو ما كان «صدقة جارية»؛ أو هو ما كان وقفاً، وعلى أساس هذا الفعل الخيري تتأسس الحرية وتتأصل في أعماق النفس الإنسانية، ولا تكون مجرد حاصل علاقات القوة السائدة واختلالاتها.
وثمة أربعة عناصر تجعل الوقف مؤسساً للحرية في صميم النفس الإنسانية وفي وعيها بذاتها، وهي:
1. أن فكرة الوقف ونواته المعرفية الصلبة هي «الصدقة الجارية». وقد ورد النص عليها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدام انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). وجريان الصدقة بحد ذاته عمل تحريري من أوله وبأكمله؛ فهو يحرر الشيء الموقوف من قيد «اللحظة» والزمن النسبي، ويربطه بالزمن الممتد «أبد الآبدين ودهر الداهرين» بحسب ما نص عليه الواقفون في صكوك وقفياتهم. ولولا «جريان الصدقة» لما كان جريان الثواب وتجدده على امتداد الزمن.
إنك تستطيع أن تتصدق صدقة غير وقفية مرة أو مرتين أو مرات، وأن تكررها يوماً أو يومين أو أياماً، ولكنك لا تستطيع أن تفعل ذلك في كل أيام حياتك، وهب أنك استطعت؛ فلن تستطيع أن تفعل شيئاً بعد وفاتك، أما بصدقة الوقف فإن ثوابك يتجدد مع تجدد الأيام والليالي «إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»، بحسب ما نص عليه الواقفون أيضاً في صكوك وقفياتهم. وكل فكرة تستهدف إصلاح نظام الوقف ولكنها لا تحافظ على جوهر «الصدقة الجارية» باعتبارها نواته الصلبة؛ هي فكرة غير صحيحة؛ لأنها تفرغ الوقف من مضمونه.
ثم إن هذا الشيء الموقوف يتحرر «اقتصادياً» من القواعد التي تنظم البيع والشراء والميراث وغير ذلك من المعاملات التي تجري عادة على الملكية. فالموقوف لا يجوز: بيعه، ولا رهنه، ولا توارثه، ولا يخضع في السوق لقواعد العرض والطلب، وإنما يتحرر منها، ويدخل في «نسق مكارم الأخلاق»، ولهذا النسق قواعد خاصة مبنية على عاطفة الشفقة والتراحم بين المخلوقين.
2. أن أركان فاعلية الوقف مشيدة على معنى الحرية، وهذه الأركان هي:
- احترام إرادة الواقف وعدم مخالفتها، حتى قال العلماء إن: «شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به»، ويدخل احترام الإرادة في صميم المحافظة على الحرية.
- القضاء له ولاية عامة على الأوقاف؛ والقضاء هو أكثر السلطات العامة حرية واستقلالية عن السلطة التنفيذية.
- الاعتراف للوقف بالشخصية الاعتبارية، وهي شخصية قائمة بذاتها، ومتحررة من شخصية الواقف وليست تابعة لها، وهي تتمتع بالحقوق وتتحمل الالتزامات، ومستقلة عن شخصية الواقف نفسه، ومستمرة في حياته وبعد مماته. وأي إجراء أو تصرف ينتقص ركناً من هذه الأركان فإنه يفقد الوقف معناه ويسلبه فاعليته، ويجعله عبئاً على المجتمع لا عوناً له.
3. أن الممارسات الاجتماعية التاريخية للوقف تكشف عن أنه نسق «استيعابي»، وليس «استبعادياً». هو نسق يستوعب ولا يستبعد مساهمات أو استحقاقات: الرجال والنساء، الحكام والمحكومين، الأغنياء والأقل غنًى، والأتقياء والأشقياء الراغبين في التوبة وفعل الخيرات، والمسلمين وغير المسلمين من النصارى واليهود وغيرهم. وفعل الاستيعاب يندرج في أفعال الحرية، بخلاف الاستبعاد الذي يندرج في أفعال الاستبداد. ويقع خارج نظام الوقف أي اقتراح أو تنظيم أو إجراء يحد من قدرته الاستيعابية، أو يجعله إقصائياً لفئة أو لجماعة، أو لطائفة، أو لمذهب، أو لجنس، أو لعرق.
4. أن الوقف عمل مؤسسي من الناحية العملية. والمؤسسة مشروع في خدمة فكرة. هي عمل له نظام. والنظام يخدم الحرية الحقة، والنظام أيضاً ضد الفوضى التي تخدم الاستبداد وتبرر وجوده. والمؤسسات التي أنشأتها الأوقاف أو مولتها مثل: المساجد، والمدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية الاجتماعية، أسهمت وتسهم في تحرير أفراد ومجموعات وفئات كثيرة من القيود التي فرضتها عليهم أحوالهم الاجتماعية. فالمساجد بروحانيتها تحرر الأنفس من أعباء الحياة المادية، ومن أسر الذنوب والآثام المعنوية. والمدارس تسهم في التحرر من أسر الجهل وقيوده. والمستشفيات تسهم في التحرر من قيود المرض والعجز. ودور الرعاية الاجتماعية تسهم في التحرر من ذل العوز ومن أغلال الاحتياج.
تلك العناصر الأربعة، في مجملها، من شأنها أن تنشئ دوائر للحريات الفردية والجماعية، وأن تسهم كذلك في تحقيق قدر معتبر من الاستقلال الذاتي. ويسهم التمويل الوقفي لها في الاستغناء عن كثير من الخدمات التي تقدمها الدولة.
والمُشكل في الخدمات التي تقدمها الدولة الحديثة بالذات هو: أنها قد لا تكون بمقابل مادي، أو قد تكون بثمن أقل من سعر السوق لاعتبارات تتعلق بالعدالة الاجتماعية، ولكن الدولة تتقاضى في مقابلها -في جميع الأحوال- ثمناً معنوياً باهظاً يتمثل في: الخضوع، والامتثال، والطاعة غير المشروطة، وإلا فالحرمان والطرد من ساحة تلك الخدمات؛ هي إذن خدمات مقابل الاستبداد والقمع. وعليه فإن إسهام الوقف في توفير خدمات عامة يعني في الوقت عينه حماية المجتمع بأفراده وتكويناته الجماعية من استبداد الدولة؛ لأن مؤسسات الوقف تحرم هذه الدولة من أن تمارس هوايتها في تقديم ترياق القمع، المتمثل في المنفعة أو المصلحة العامة. وهذا هو السبب الأساسي الذي جعل «استبداد» الدولة التقليدية/ السلطانية محصوراً في نطاق ضيق، لا يتجاوز عتبات قصور الولاة والأمراء والسلاطين، بخلاف «استبداد» الدولة الحديثة التي قوضت التكوينات والنظم الحمائية الموروثة، ولم تسعَ لإصلاحها أو تجديدها، وفي مقدمتها نظام الوقف ومؤسساته المتنوعة.
لقد وفدت «الدولة» بمفهومها الحديث إلى المجال العربي الإسلامي قبل قرنين من الزمان تقريباً. وليس من الدقة في شيء أن نسميها «الدولة العربية»؛ لأنها من ناحية لم تنشأ بإرادة عربية خالصة؛ وإنما نشأت وتخلقت ملامحها في سياق المد الاستعماري والسيطرة الأوروبية على مجتمعات أمتنا الإسلامية. ومن ناحية أخرى لا يوجد في التراث «العربي» أيديولوجية أو منظومة فكرية يمكن أن تنشأ منها أو عليها «دولة»؛ أجل يوجد أدب، وتوجد ثقافة، وتوجد أخلاق عربية، ولكن لا توجد أفكار «عربية» بالمعنى الحصري للكلمة تتعلق بتأسيس الدول.
ثم إن وصف هذه الدولة بأنها «عربية» فيه إقصاء للتكوينات الاجتماعية الأصيلة غير العربية، وهي تكوينات موجودة في مختلف بلدان الأمة من المحيط إلى الخليج. وعليه فإن الأدق أن نتحدث عن «الدولة الحديثة في المجال العربي الإسلامي»، بدلاً من «الدولة العربية الحديثة»، مع قصر وصفها بأنها «حديثة» على معنى حداثة نشأتها وعمرها الذي لا يتجاوز مائتي عام، وأحياناً لا يتجاوز في بعض البلدان عمر كهل في سن الـ 50، في مقابل عراقة الدولة السلطانية، أو التقليدية، التي يزيد عمرها عن 1200 عام، ونظام الوقف الذي ترجع نشأته إلى 1400 عام.
لقد اتسمت «الدولة» حديثة النشأة في المجال العربي الإسلامي، بأنها دولة نافية للمجتمع، ومنكرة له، وغير متآلفة معه في أغلب الأحوال والأوقات. وكانت ولا تزال مشدودة الوثاق بالخارج، ومتشبثة بتقليد «الدولة القومية الحديثة» في أوروبا. وإلى جانب استيراد أجهزة المقع والهمينة الأيديولوجية، اكتشفت النخب الحاكمةُ في دولة المجال العربي الإسلامي أن فكرة «سيادة الدولة» هي أعز ما يُطلب من الدولة القومية الأوروبية وأنفع ما يُؤخذ منها، فزاد تشبثهم بهذه الفكرة. وهي فكرةٌ مراوغةٌ غاية المراوغة، وغالباً ما وظفتها السلطة لتقييد الحريات الداخلية؛ بعكس ما تبديه من تهاون مفرط فيها تجاه الخارج. وقد اعتبر بعض قادة الإصلاح الإسلامي الحديث والمعاصر أن فكرة سيادة الدولة نوعاً من «الشرك بالله تعالى»، وعليه فإنهم تركوا المشاركة في أعمالها ووظائفها، فاحتكرها سدنة «الدولة القومية الحديثة» في بلادنا وأمسكوا بتلابيبها. وإضافة إلى ذلك فإن مفهوم «سيادة الدولة» يناقض مفهوم «سيادة الشريعة»؛ الأولى ذات نزعة استبدادية ومتحيزة للطبقة المسيطرة على مقاليد السلطة ويمكنها تعريف مفردات «السيادة» وإعادة تعريفها كيفما شاءت، والثانية ذات نزعة تحررية، وغير متحيزة لفئة أو لطبقة بعينها؛ فالجميع أمامها سواء.
مع ظهور الدولة «الحديثة» في المجال العربي الإسلامي، دخل نظام الوقف في محنة ممتدة، ولم يخرج منها حتى اليوم. والسبب الأساسي في محنته هو: تضاد نزعة الاستبداد التي تشكل جوهر عمل «الدولة الحديثة»، مع نزعة «الحرية» التي تشكل النواة الصلبة لنظام الوقف بأصوله وفروعه. وبرهنت تلك الدولة على نزعتها الاستبدادية بزحفها الدائم على المجتمع واستيلائها على دوائر توليد الحرية في نسيجه الواسع، وسيطرتها على مكوناته الموروثة التي كانت تضمن له قدراً من استقلاليته وحريته وحيويته في مواجهة سلطة الدولة السلطانية القديمة. والدولة الحديثة لا تقبل «الشريك»، ونظام الوقف بمؤسساته المتنوعة يعتبر شريكاً قوياً، ولهذا صممت الدولة الحديثة في بلادنا على سحقه، فإن لم تستطع، تعمد إلى احتوائه، فإن لم تستطع، تتركه دون إصلاح أو تطوير إلا إذا بات في خدمتها، وطوع أوامرها.
ولما كانت الدولة الحديثة في المجال العربي الإسلامي قد توافقت نشأتها مع حالة الضعف والجمود في الحياة العامة، فقد كان من السهل أن يقع نظام الوقف ضحية لنزعتها الاستبدادية المتأصلة فيها وفي أجهزتها الأيديولوجية (الثقافية والبيروقراطية)، وعليه فقد شرعت «الدولة الحديثة» منذ وقت مبكر في انتزاع نظام الوقف عنوة من مجاله الاجتماعي الأهلي، وسعت لإدماجه في المجال السياسي عبر سياسات ومراحل مختلفة، وبلغت هذه العملية ذروتها بإنشاء «وزارة» للأوقاف، يكون وزيرها عضواً في مجلس وزراء الحكومة، وملتزماً بخططها وبرامجها السياسية، وليس ملتزماً بشروط الواقفين أو رغباتهم التي سجلوها في حجج أوقافهم، بل أباحت له قوانين الأوقاف في بعض البلدان أن يغير شروط الواقفين وأن يبطل إرادتهم بإرادته.
وشيئاً فشيئاً، نجحت الدولة الحديثة في تحويل وظيفة الأوقاف من دعم الحريات الفردية والجماعية، إلى خدمة الاستبداد والاستئثار بالسلطة، ومن دعم توازن العلاقة بين المجتمع والدولة على قاعدة «المجال التعاوني المشترك»، إلى الانحياز لجهة الدولة على حساب المجتمع. ما سبق يكشف عن السبب الرئيسي الذي دفع «الدولة الحديثة» للاستيلاء على نظام الأوقاف، وهو كونها دولة «حلولية» بتعبير عبد الوهاب المسيري، تدَّعي لذاتها صفات الإله: خالق كل شيء ومدبر كل شيء. وعليه فإنها تنبذ الشركاء كما أسلفنا. وأبغض الشركاء إليها هو العمل الخيري الحر، وأبغض منه عندها هو الوقف الخيري المؤسسي الذي يسهم في تلبية المنافع والمصالح العامة.