مسلسل «Scenes from a Marriage»: عن الزواج والفاشية
يُلخص الكوميديان الأمريكي «غروتشوا ماركس» بتلك العبارة الدراما السوداوية في مسلسل Scenes from a Marriage، التي قُدمت كإحياء جديد لعمل للمخرج السويدي «إنجمار بيرجمان» حمل الاسم نفسه عام 1973.
الإنسان بفردانيته وحدها يُمكنه أن يحيا ويمارس تناقضاته بإخلاص، يُمكنه أن يُغيِّر هويته، أن يتوقف عن كونه كذا ويصير كذا، أمّا الإنسان كعنصر في مؤسسة لابد أن يستثمر رُغمًا عنه في التعريف الذي يُبقيه بتلك المؤسسة، فمثلًا لكيلا تُفصَل من عملك لابد أن تستثمر في المجيء باكرًا وأداء وظيفتك بامتياز وتملق رؤسائك ولو قليلًا. يمكنك أن تكره كل لحظة من تلك الأفعال، لكن باستمرارك في إتيانها تظل عنصرًا مؤسسيًا مُنتميًا. يُمكننا أن نعتبر الزواج كذلك، مؤسسة لابد أن يولد طرفاها صيغة عيش مُشترك، ولابد أن يستديماها للحفاظ على تلك المؤسسة.
صحيح أن الزواج مؤسسة لُغتها أكثر رومانسية وعواقبها أكثر أبدية، مثل الأبناء الذين يربطون الطرفين للأبد حتى بعد الانفصال، لكنها تتفق مع كل المؤسسات في فكرة واحدة مُرعبة:
أن كل مؤسسة تُقيد تعريف الإنسان لذاته، تحتكره، وتمنعه من التعرف على ذاته بشكل أكثر أصالة لأن مطاردة حقيقة الذات قد تٌخاطر بالمرء لتصرفات تُخل بما تريده منه المؤسسة، وقد تطرده من المؤسسة في النهاية.
تبدأ الحكاية بجوناثان وميرا زوجان يُبديان تفاهمًا كاملاً. في مٌقابلة مع باحثة، يُغلفان زواجهما -المُمتد لعشر سنوات والمُكلل بطفلة- بغلاف مثالي، كل كلمة وفعل يخرج مُنهما مُخلص للمؤسسة التي ينتميان لها، وهي «الزواج الأحادي»، كل منهما مُقيد في إخلاصه وتواجده وحتى ممارسة الجنس بالآخر.
يتحطم هذا الكمال الهش عندما تُخبر ميرا زوجها أنها تعرّفت على رجل آخر وأنها سترحل معه، تدوي هنا الموسيقى الأُوبرالية المفزعة التي ستستمر معنا في الحكاية بأكملها، لتصمها بطابع الأوبرا المُزلزلة للروح، بقيام ميرا بفض الشراكة وتدمير المؤسسة.
تبدأ الحكاية لتُخبرنا على مدار 5 ساعات: من هو جوناثان الحقيقي؟ ومن هي ميرا الحقيقية؟ وكم اقتطعا من أصالة ذواتهما وما يُريدانه حقًا لأجل المؤسسة الزوجية؟
الجحيم
يُشبه الأمر ببساطة تقطيع بصلة، البصل طبقات جمالية مٌصممة بعناية لتُغطي بعضها بعضًا، لكن لا يُمكنك نزع طبقة والغوص لأخرى بدون ألم ودموع، فعل الوصول للقلب الأبيض الذي لا يحوي سوى جوهر الثمرة بدون طبقات جديدة، بدون أقنعة، له ثمنه، هل ستصمد أمام الألم والدموع وصولًا للجوهر أم ستنهار في الطريق؟
هذا ما عناه نيتشة أن الحقيقة ووصولك لجوهر ذاتك سيُحررك من الارتهان للأكاذيب، لكنها رحلة لابد أن تُميت فيها أجزاء من نفسك وقد تموت خلال ذلك.
طفل خائف أسفل قناع فيلسوف
يُدرك جوناثان في علاجه النفسي بعد الانفصال أنه ليس الفيلسوف الأكاديمي اللا ديني المُفرط في عقلانيته، يُدرك أن أسفل ذلك القناع طفل يهودي أرثوذكسي يُريد إرضاء أبيه بشدة ويُريد أن تفهمه أمه، تلك الغايتان هما جوهره: الرغبة في الوصال، والرغبة في القبول.
لذا سيصير مُفرطًا في عقلانيته، سيحوِّل كل شيء لمسألة عقلية ليضمن أنه مفهوم، وسيُفرط في أخلاقيته، رغم إعلانه الدائم أنه فيلسوف هجر إيمانه، إلا أن رغبته في التفوق الأخلاقي ليُثبت جدارته لأبيه اليهودي المُتدين ستتغلغل بكل تفصيلة لديه، ستجعله مُتعاليًا أخلاقيًا في كل مواقفه، حتى وهو يستمع لأصدقائه ولزوجته، حتى في ممارسته الجنس مع ميرا، جنس خجول مُتحفِّظ، كان عليها هي أن تفض بكارته وتُرشده لكيفية الجموح فيه، وكان عليها كذلك أن تكبح شهوانيتها معه لتشاركه شيئًا من التحفظ الديني المُحبب لديه، وحبه للهروع للاغتسال بعد الجماع مُباشرة كأن ممارسة الحب قذارة ما.
تلك الرغبتان اليائستان في الوصال والقبول اللذين عجز جوناثان عن تلبيتهما مع أبويه ستجعل الحميمية لديه مُرعبة، لأنه عالم مغلق على ذاته ويعلم أن الانفتاح يحتاج وصالاً وقبولاً وكلاهما غايتان بعيدتان لم يهتدِ بعد لهما مع أقرب الناس لديه، أبويه، فكيف سيهتدي لهما مع شريك؟
تلك الطبيعة ستجعل جزءًا دائمًا من جوناثان ليس حاضرًا، باردًا رياضيًا أخلاقيًا بشكل غير إنساني، حتى لما تُجهض زوجته الطفل الذي أراده لا يُعبِّر عن غضبه أبدًا، بل يبتلعه بداخله ويُضاعف المسافة بينهما.
لأجل المؤسسة كان جوناثان زوجًا مثاليًا وأبًا مثاليًا، لا يخون ولا يغش (وحتى يلبي رغباته الجنسية في غياب زوجته بالاستمناء مثل مراهق خائف) لكنه بارد في كليته، مُنغمس بشدة في عالم بعيد يُكافح لإرضاء شخص لم يعد هنا هو أبويه.
لم تكسر ميرا وحدته أبدًا كما ظنت، بل كانت ما وصفته (شاهد ومُوثِّق للحياة) احتاجه جوناثان في مسيرة التكفير عن عجزه عن وصال أمه وإرضاء أبيه، تلك الحقيقة العميقة هي ما دفع ميرا للتساؤل: هل ذلك كل شيء؟ هل ستظل تحمل سجلها وتوثق الحياة المثالية لجوناثان الذي يحتضنها لكنه ليس بجوارها أبدًا، بل عالق في تسوياته الأخلاقية مع نفسه وماضيه؟
الزواج كشهادة ضمان ضد الوحدة
يُمكننا أن نسأل لماذا لم تنفصل ميرا؟ لماذا انتظرت حتى تخون زوجها؟
ميرا طفلة ربّتها أم بُمفردها، أم كثيرة الزواج كانت تجر طفلتها في مواعيدها الغرامية مع رجال شتى، تلك الطُفولة مع أم تعيسة ستُعلم ميرا شيئًا واحدًا أن العلاقة مع رجل هي المهرب الوحيد من الوحدة، لذا عندما دخلت عالم جوناثان كانت امرأة جامحة في علاقة حب مع شاب شهير وموسيقي، ربما ما جذبها لعالم جوناثان الأكاديمي الخجول أنه رجل لن يُشبه أبدًا أزواج أمها وأحبائها، هذا رجل يُمكن خلق مؤسسة تدوم معه ولا يُغادرها، باختصار ضمانة أبدية ضد الوحدة.
لذا عندما تُعاني ميرا من برودة عالم زوجها لا يكون فعل التحرر لها هو الانفصال، لأنه خروج لصقيع الوحدة، إنما خلق علاقة جديدة مع رجل آخر اضطرت الانتظار سنوات حتى يقدم نفسه لعالمها.
يحتاج تحرر ميرا النهائي أن تتعلم ألّا تخاف من وحدتها، وأن تؤمن أن الزواج بتعريفه كمؤسسة للهروب من الوحدة هو تعريف واهٍ لا يُمكن الاعتماد عليه، لأنه يصنع امرأة على أهبة الاستعداد دومًا للرحيل.
يُخبر جوناثان زوجته يوم الانفصال أن كليهما خرج من وحدة عالمه وصنعا معًا مُعجزة باقترانهما، كان زواج جوناثان وميرا مُعجزة مؤقتة لسد احتياجاتهما العميقة والوفاق مع الطريقة التي نُحتت بها ذواتهم، وكانت ميرا أكثر شجاعة في إعلان أن المعجزة ماتت ولابد من مواجهة الذات، وتبعها جوناثان في رحلة نيتشوية، قارب كل منهما فيها على الجنون، وهو يفقد أجزاء من ذاته في سبيل أرضية أكثر صلابة، للوقوف عليها ومواجهة الحياة بدون شريكه.
المُطهر
المُطهر هو مرحلة وسيطة بين الجنة والنار في المسيحية، يتطهّر فيها المؤمنون من خطاياهم ليستعدوا لدخول الملكوت.
بينما يعبر جوناثان وميرا جحيم الانفصال، يخلعان عن ذواتهما التعريف الذي افترضته شراكتهما ومؤسسة الزواج، وفي سن الأربعين يواجهان الحاجة لحل مشاكل الذات والهوية العالقة. يُعيدان تعريف كل اسم كاذب وضعاه لمراحل حياتهما، وتحديد الدوافع الحقيقية وراء كل لحظة مضت، تصير تلك العملية مؤلمة لأن إعادة التسمية وإعادة تعيين الدوافع تُشبه مُساءلة ذكرياتك كاملة، مُساءلة الجمال الذي اختزنته على مدار الرحلة، هل كان جمالًا حقًا؟ هل كل حب تلقيته كانت دوافعه كاذبة؟ هل كل حب منحته كان أنانية واحتياجًا مُغلَّفًا بعناية؟ ذلك هو المُطهر حيث يتطهر المؤمنون من أكاذيبهم ليعودوا لبراءتهم الأولى.
في المُطهر سيعاني كلاهما من رغبة مُلحة للعودة للزواج القديم حتى لو كان الجحيم ذاته، لأنه مألوف خير من الوضع العالق في الأعراف أو الليمبو، حيث لا يدري كلاهما إلى أين سيوصِّله النبش في حقيقة ذاته طبقة خلف الأخرى؟ الجحيم أكثر ألفة وأمانًا.
كان التخلص من هذا الإلحاح لكليهما عنيفًا، يُشبه التحرر من إدمان أو استحواذ شيطاني. وهذا الجانب المُرعب من القصة، قُدرة المؤسسة التي ينتمي لها الفرد أيًا كان نوعها أن تُعيق رحلة الفرد في التعرف على ذاته، وأن تقتات على حبه للأمان لتوقن أنه سيُخلِص للمؤسسة بدلًا من الخروج في رحلة قد يفقد فيها نفسه.
الجنة
في نهاية الرحلة يتعلم جوناثان أن يحيا بدون رغبته المُلحة في أن يرضي أباه بتفوقه الأخلاقي، يأتي موت أبيه ودفنه إياه كمجاز عن دفن ذاته القديمة معه، وفي يوم دفنه يُعيد وصال طليقته ميرا ويُمارس معها الحُب في مكان طفولته، بينما المُعزون بالأسفل، كأنه يفرض حضور ذاته الجديدة في مكان سجنه القديم.
يبدأ جوناثان يحتضن مُتناقضاته ويحيا بها، يحيا رغبته في أن يكون أبًا مع أم جديدة تُحب طفلها، ورغبته في الوفاء بحُبه لميرا التي شهدت رحلته من الجحيم للمطهر، التي شهدت قناعه وشهدت تعريه الكامل، لن يتخلى عن الشخص الوحيد الذي فهمه خلال كل أقنعته.
في نهاية الرحلة تعزف ميرا عن الزواج، وتحاول وصال حياتها والوحدة التي تخشاها.
يُمارس ميرا وجوناثان الحب أخيرًا لأجل الحب، دون الرغبة في إثبات شيء، لا يُريد جوناثان اليهودي الأرثوذكسي الخجول أن يتبع خُطى ميرا كطفل، ولا تُريد ميرا كبح شهوانيتها لاحترام تدين زوجها، لا يُريد جوناثان التأكد عبر الجنس من مشاعره تجاه ميرا قبل توقيع أوراق الطلاق، ولا تُريد ميرا إغراءه ليعود لها.
تُخبره ميرا: «لقد واجهنا الأسوأ، لم يعد يُخيف تواجدنا معًا». لم يعودا شُركاء مؤسسة بل شركاء سفر الخروج منها.
يجد ميرا وجوناثان راحة في عزلتهما في سرير في ليلة وحيدة مُختلَسة من سياق حيواتهما المُعلنة، خارج حياته كزوج لامرأة جديدة وخارج حياتها كأم عزباء، ليتعريا بحقيقتهما كناجيين من مؤسسة فاشية بطبعها، فرضت على كليهما لسنوات أن يكون آخر. وصال مُبرأ من كل التعريفات المفروضة ومن خوفها من الوحدة وخوفه من احتياجاته، يلتقي عالمهما لأول مرة خارج قيود المؤسسات. لم يصِر كلاهما أكثر نجاحًا أو أخلاقية بالمعايير المؤسسية، لكنهما صارا أكثر صدقًا من كل الأدوار التي فرضاها على نفسيهما ليهربا من ذواتهما.