تقدير موقف: سيناريوهات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
إعداد: د. عدنان عبد الرحمن أبو عامر. [1]
عديدة هي الأوصاف التي يمكن إطلاقها على الهجوم النوعي الذي نفذه مقاتلو كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، صباح السبت الموافق السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، باتجاه مستوطنات غلاف غزة، وأسفر عن مقتل قرابة ألف مستوطن وجندي إسرائيلي، وإصابة ما يزيد على ألفين وخمسمائة آخرين، مما أحدث صدمة غير مسبوقة في دولة الاحتلال، دفعت بكبار قادة دولة الاحتلال للتهديد بتنفيذ عدوان واسع النطاق على غزة انتقاماً مما حصل.
وقد انتظر الاحتلال مرور أول أربع وعشرين ساعة بعد «طوفان الأقصى» قبيل شروعه بتوجيه قصف مركّز باتجاه أهداف مختلفة في قطاع غزة، مع بدء صدور تهديدات إسرائيلية من جميع المستويات السياسية والعسكرية بتنفيذ عدوان واسع النطاق على غزة أطلق عليه «السيوف الحديدية».
السطور التالية ستنشغل في تحديد وجهة هذا العدوان، وأين سيصل في غزة، وهل يشمل عملية برية، وكيف سيكون عمقها الجغرافي، ومداها الزمني، وما هي الدلالات السياسية والعسكرية لهذا العدوان؟
أهداف العدوان
عديدة هي التصريحات التي أطلقها جملة من أقطاب الساسة والعسكريين الإسرائيليين، بدأت بحديث عن تدفيع حماس ثمن ما قامت به من عملية غير مسبوقة، وآخر ذكر أن العدوان يسعى لإيصال حماس إلى مستوى لا تشكل بعده تهديداً لـ«إسرائيل»، وتطرّف مسؤول ثالث بتهديده أن العملية ستعيد غزة إلى العصر الحجري، ورابع حدّد أن العدوان يهدف لإزالة أي تهديد قادم من حماس لخمسين عاماً قادمة، ولكن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بدا لافتاً حين ذكر أن العدوان على غزة سيغيّر وجه الشرق الأوسط. وتوعّد نتنياهو خلال بيان إعلان الحرب الذي ألقاه أمام الكنيست، حركة حماس بمحوها من على وجه الأرض، وكذلك صرّح يوآف غالانت، ومن بعده بني غانتس. واشترط أفيغدور ليبرمان رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» المعارض للانضمام لحكومة الطوارئ أن يتضمن إعلانها القضاء على حماس.
وقد أوضح الاحتلال خلال الأيام الثلاثة الماضية أن الترجمة الميدانية لهذه التهديدات يمكن تركيزها في النقاط التالية:
1. جباية ثمن بشري مكلف من حماس عقب عملية طوفان الأقصى، ويتمثل ذلك بإيقاع أكبر عدد من الشهداء والجرحى والضحايا الفلسطينيين من عمليات القصف الجنونية على منازلهم ومؤسساتهم وبناهم التحتية، مع أن جيش الاحتلال أعلن رسمياً توقفه عن استخدام سياسة «الطرق من السقف» التي تتعلق بإنذار أصحاب المنازل قبل قصفه، واستبدالها بمطالبة أحياء كاملة بإخلاء جماعي لسكانها، والشروع في القصف المباشر للمنازل على رؤوس أصحابها، ونتيجة لذلك ارتقى حتى هذه اللحظة قرابة ألف شهيد، وقرابة أربعة آلاف جريح، والمئات ما زالوا تحت الأنقاض.
يسعى الاحتلال من جباية هذا الثمن الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة، وهي سياسة متبعة في كل عدوان يشنّه على غزة، لكنه هذه المرة أشدّ وأقسى، لا سيّما وأن أعداد الشهداء في تصاعد متسارع خلال ساعات، وإقدامه على قصف المنازل على رؤوس أصحابها سياسة جديدة، إضافة إلى كونها لا تشمل بيوت قادة المقاومة من الصف الأول، بل إن القصف يستهدف منازل كوادر من الصفوف الوسطى، كما أن شدة القصف تترك تبعاتها الكارثية على منازل مجاورة بسقوط شهداء وجرحى.
2. ترميم الصورة الردعية للاحتلال التي تضررت بصورة غير مسبوقة، بل أصابها تصدّع لن يكون ترميمه أمراً متاحاً بسهولة، لا سيّما وأن الجمهور الإسرائيلي رأى بأم العين كيف استطاع مقاتلون فلسطينيون بأسلحة فردية من اختراق السياج الحدودي، ومن فوق الأرض، وليس من تحتها، وفي وضح النهار وليس في عتمة الليل، والتجول في مدن ومستوطنات غلاف غزة طوال أكثر من 60 ساعة، يقتلون ويصيبون ويأسرون مئات الإسرائيليين، فيما جيشهم الذي يشكل لهم جدار الصدّ الأخير يقف مشدوهاً متجمّداً لا يقوى على مواجهتهم.
يعلم الإسرائيليون أن ما حصل من إهانة تاريخية لن تمحى طوال سنوات قادمة، ولكن إقدام الاحتلال على تدمير قطاع غزة على رؤوس أهاليه، وقتل الآلاف منهم، وتحويله إلى كومة من الخراب قد يشبع لديهم غريزة الانتقام، دون ضمان ردع الفلسطينيين، وإجبارهم على رفع الراية البيضاء.
3. الضغط العسكري على حماس بطريقة تجرّدها من قدراتها العسكرية لفترة طويلة من الزمن من خلال ضرب مقدراتها القتالية، سواء شبكات الأنفاق الدفاعية والهجومية، أم منصات إطلاق الصواريخ أم مراكز السيطرة والتحكم، وصولاً لاغتيال الكوادر الميدانية والقادة العسكريين، وكل ما له علاقة بالجناح العسكري للحركة، في محاولة إسرائيلية لا تخطئها العين لإعادة الحركة سنوات إلى الوراء من النواحي العسكرية والقتالية.
بجانب هذه الإجراءات المستهدفة المركزة، يسعى الاحتلال من هذا العدوان الذي قد يستغرق عدة أسابيع كما تحدث بذلك عدد من المسئولين الإسرائيليين إلى استنزاف الترسانة الصاروخية لدى المقاومة، وإفقادها ما لديها من قدرات تهدِّد بها الاحتلال، مع العلم أن مثل هذه الخطوات ليست في متناول يد الاحتلال، على اعتبار أنه دأب عليها عقب كل حرب شنّها على غزة، ولكن المقاومة في كل مرة كانت ترمّم قدراتها، وتستعيد قوتها.
4. استهداف البنى التحتية المدنية في قطاع غزة، وليس العسكرية والحكومية فقط، وما يشمله ذلك من محطات الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي والوقود، حيث قصفتها الطائرات الإسرائيلية مباشرة، بما يعنيه من التسبب بأزمة إنسانية كارثية حذرت منها المنظمات الحقوقية الدولية، بهدف إفقاد الفلسطينيين القدرة على الصمود، والتكيف مع فترة الحرب التي قد تطول، ولذلك فقد ظهرت مبكراً أعراض التأثر السلبي بانقطاع الكهرباء والمياه والإنترنت، وبدأت الشكوى بالنقص في بعض السلع الغذائية الأساسية، وحتى حين حاولت مصر إرسال مساعدات إنسانية قام الطيران الإسرائيلي بقصف عدد من الشاحنات، وأجبرتها على العودة الى الأراضي المصرية.
5. ضرب القدرة الحكومية لحماس في غزة من خلال استهداف كل المقار الوزارية والبنوك المصرفية والمؤسسات السلطوية مما يفقد الحركة القدرة على إدارة الوضع في القطاع فترة طويلة من الزمن بعد انتهاء الحرب، صحيح أن هذا الأسلوب معتمد في كل حرب، ولكن هذه المرة حجم الاستهدافات يبدو واسعاً، فقد قصف الاحتلال كل فروع البنوك والمقر العام لمجلس الوزراء ومراكز الشرطة في جميع أنحاء القطاع.
السلوك العسكري
في محاولة إسرائيلية لتحويل الأهداف الواردة أعلاه إلى واقع على الأرض، فقد انتهج سلوكاً عسكرياً ميدانياً ظهر أشدّ فتكاً وأصعب تبعات على الفلسطينيين من العدوانات السابقة، ويمكن حصره في الإجراءات التالية:
1. شنّ غارات جوية غير مسبوقة شاركت فيها ستون طائرة حربية تقصف أهدافاً مدنية من منازل ومنشآت وجامعات ومساجد على مدار الساعة، وعلى رؤوس ساكنيها، ودون سابق إنذار، مما أوقع هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى، والأضرار المادية الكبيرة، إضافة إلى ما سيسفر عنه من تعطيل الدراسة الجامعية والإضرار بالمرافق المدنية.
2. اتباع سياسة الأرض المحروقة في مربعات سكنية واسعة، تركزت في مناطق شرق قطاع غزة، لا سيّما مناطق الشجاعية وبيت حانون والبريج وخانيونس، تمهيداً لإقامة حزام أمني فارغ من الفلسطينيين، وقد وزع منشورات عليهم تحذرهم من الاقتراب من مسافة تزيد على ألف متر من الحدود الشرقية للقطاع، وهي محاولة اسرائيلية تسعى للتمهيد لتقدّم القوات البرية باتجاه الغرب.
3. استهداف مناطق جديدة في قلب مدينة غزة لم تكن مدرجة سابقاً في عدواناته على القطاع، لا سيّما حي الرمال الجنوبي المسمى «حي الأثرياء»، ويضمّ معظم الوزارات الحكومية والجامعات وسلسلة المطاعم والمؤسسات الترفيهية، الأمر الذي يعني إحداث شلل كامل فيه في مرحلة ما بعد الحرب.
تعدّدت التحليلات التي سعت لمعرفة هذا الاستهداف على غير العادة، من بينها قطع خطوط الاتصال العلنية والسرية فوق الأرض وتحتها، وتضييق الخناق على قادة المقاومة الذين يقدر الاحتلال أنهم يتمركزون في هذه المنطقة، كما حصل في حرب 2021 فيما عرف «ضربة المهندسين» التي أسفرت عن استشهاد عدد من مهندسي القسام عقب ملاحقتهم تحت الأرض عبر حزام ناري في شارع الصناعة الكائن في قلب مدينة غزة.
4. تعمّد القصف الجوي بكثافة نارية غير مسبوقة دفعت أوساطاً إسرائيلية للحديث عن تقدير إحصائي مفاده أن حجم القنابل النارية التي ألقيت على حي الشجاعية في اليوم الثالث للعدوان، الإثنين الموافق التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول، يساوي أربعة أضعاف ما استخدمه الجيش في حرب لبنان الثانية سنة 2006، بما يزيد على مئة طن من المتفجرات.
5. الإعلان عن تجنيد كامل لجيش الاحتياط بعدد قرابته ثلاثمئة ألف جندي خلال ثمانية وأربعين ساعة، وهي الخطوة التي لم تحصل منذ حرب سنة 1973 في إشارة واضحة على الاستعداد لخوض حرب شاملة، وليس جولة قتالية أو عملية عسكرية أسوة بسابقاتها، وهو ما أعلنه صراحة نتنياهو ووزراؤه علانية، حتى إن الحروب التي خاضها الاحتلال سنتيْ 1982 مع منظمة التحرير في لبنان، ومع حزب الله في 2006، إضافة إلى كل الحروب مع حماس في غزة، لم تشمل تسميتها بمفردة الحرب، وهنا يكمن الفرق.
6. في خطوة غير مألوفة، استهدف جيش الاحتلال قصف معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر جنوباً بصورة مركزة أسفرت عن تعطيل العمل فيه، وفي الوقت الذي توقف معبر بيت حانون شمال القطاع عن العمل؛ من خلال مهاجمة المقاتلين الفلسطينيين له في عملية «طوفان الأقصى» ذاتها، فإن القطاع بات محاصراً فعلياً، يمنع الدخول إليه والخروج منه.
العملية البرية
منذ اللحظات الأولى لبدء العدوان الإسرائيلي على غزة ظهرت الأصوات الإسرائيلية عالية بتنفيذ عملية برية في قطاع غزة، دون تحديد عمقها الجغرافي أو مداها الزمني أو حجمها، ولكن ما بدا واضحاً أن نتنياهو لم يتردد في الإعلان أنه طلب من الرئيس الأمريكي جو بايدن الإذن بدخول غزة، وتوالت بعد ذلك التصريحات الإسرائيلية الداعية للشروع في هذه العملية بزعم أنها الكفيلة بتوجيه ضربة قوية ضدّ حماس.
مع العلم أن الذاكرة الجمعية الإسرائيلية تزدحم بعديد من الأحداث القاسية التي رافقت الجنود خلال توغلهم البري في أنحاء مختلفة من أطراف قطاع غزة، لا سيّما ما حصل في حرب سنة 2014، حين وقعت معارك أحياء التفاح والشجاعية شرق غزة وتخللها أسر الجندي شاؤول أرون، ومعارك شرقي رفح وشملت أسر الضابط هدار غولدن، إضافة إلى تفجير العبوات الناسفة بالجنود المتوغلين، ومشاهد الجنود وهم يجمعون أشلاء رفاقهم التي تناثرت بفعل الاشتباكات مع المقاومين، وبالرغم من ذلك فإن الإصرار الإسرائيلي كما يبدو هذه المرة على تنفيذ عملية برية يستغل حالة الغضب الداخلية، والرغبة بالانتقام من غزة، للدفع قدماً بالجنود نحو القطاع.
لا تبدو العملية البرية المتوقعة باتجاه غزة ذات وجه واحد فقط، بل هناك عديد من المستويات المحتملة، ومن الواضح أن الأوساط السياسية والعسكرية في تل أبيب ستخضع كلاً منها لمزيد من التمحيص والتحليل، وإجراء موازنة في الكلفة والعائد والجدوى، على النحو التالي:
1. الاجتياح الكامل:
المقصود به إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ثمانية عشر عاماً إلى ما قبيل الانسحاب الإسرائيلي من غزة في مثل هذه الأيام من سنة 2005، أي الاحتلال الكامل للقطاع، من خلال الزجّ بعشرات الآلاف من قواته إلى العمق الجغرافي للقطاع، وهو الخيار الأكثر كلفة، والأقلّ تشجّعاً من قبل الإسرائيليين، لكثير من الاعتبارات المتعلقة بأعداد القتلى الذين سيسقطون من جيش الاحتلال، إضافة إلى الأعباء السياسية المترتبة على مثل هذا الخيار التي تتطلب بالضرورة إسقاط حماس في غزة، وما يعنيه ذلك من أعباء اقتصادية مرهقة للاحتلال، بجانب تصويره من جديد على أنه قوة احتلال.
بالرغم من كل هذه الكوابح التي تحول دون ذهاب الاحتلال لهذا الخيار «الشمشوني»، لكن تدحرج الأمور الميدانية في القطاع لا أحد يضمن مآلاتها، وقد تجد «إسرائيل» نفسها متورّطة في الوحل الغزاوي بحسب تدرُّج السياقات.
2. إقامة حزام أمني:
من خلال التدخل البري الجزئي المتعلق بدخول قوات الاحتلال إلى مسافة كيلو متر كامل باتجاه حدود القطاع الشرقية، من أقصى الشمال في بيت حانون إلى أقصى الجنوب في رفح، من خلال إيجاد حزام أمني لقواته في استنساخ لما كان قائماً في الحزام الأمني بجنوب لبنان، والغرض منه إبقاء التدخل العسكري قائماً في بعض مناطق القطاع دون الحاجة لقرارات عسكرية وسياسية، بالرغم مما لهذه الخطوة من تبعات تتعلق باستمرار مقاومته من قبل الفلسطينيين، واستنزاف الاحتلال من خلال استهدافه المباشر.
مع العلم أن الاحتلال في حال فكّر بهذا السيناريو الجزئي فإنه سيسبقه للقيام بحملة «تطهير» لأنحاء القطاع الشرقية من المظاهر المسلحة، وشبكات الأنفاق، بحيث يضمن لنفسه ولقواته إقامة مستقرة أمنيّاً، على الأقل في المرحلة الأولى.
3. تقطيع أوصال القطاع:
والمقصود به تقسيمه قطاع غزة إلى عدة أجزاء، وهو الإجراء الذي كان متبعاً في مرحلة ما قبل الانسحاب، والحرب الأولى في سنة 2008، بحيث تفصل قواته شمال قطاع غزة الذي يشمل مناطق بيت حانون وبيت لاهيا ومدينة غزة، عن وسط القطاع الذي يضمّ مخيمات اللاجئين: النصيرات والبريج والمغازي ودير البلح، عن جنوب القطاع الذي يضمّ مدينتيْ خانيونس ورفح، وهذا التقطيع يسبقه قصف جوي لمناطق الفصل تأميناً للقوات قبل أن تنزل على الأرض حماية لها من شبكات الأنفاق وتفجير العبوات الناسفة والكمائن المسلحة.
وفي حال لم ينجح مثل هذا الخيار المتمثل بوجود قوات ميدانية على الأرض خشية من تحضّر المقاومة لها، فقد يكتفي الاحتلال بتقسيمها عبر الجو من خلال إحداث حفر كبيرة تمنع انتقال الفلسطينيين بين هذه المناطق الثلاث، كي ينفرد بكل منطقة على حدة، إضافة إلى انتقالهم في مركباتهم، لا سيّما المقاومين منهم.
4. التوغل الخاطف لعدة أيام ثم الانسحاب:
والمقصود به تقدم القوات الإسرائيلية باتجاه القطاع بغرض «تنظيف» المناطق الحدودية من الأنفاق وشبكات الاتصالات الأرضية، وخريطة العبوات الناسفة، ثم الانسحاب بعد عدة أيام، رغبة منها بعد التورط في اشتباكات يتحضر لها المقاومون.
5. عمليات الإنزال البحري:
سبق لقوات الاحتلال أن نفذت عمليات جزئية في عدوانات سابقة وأوقات هدوء لتنفيذ عمليات أمنية استخبارية، واليوم في ظلّ سياسة الإخلاء الجماعي للمربعات السكنية الواسعة قد يعمد جيش الاحتلال للقيام بهذه المهمة لأغراض اغتيال أو اختطاف سريعة.
الأبعاد السياسية
في الوقت الذي صدرت فيه الدعوات الإسرائيلية تباعاً لتنفيذ العدوان العسكري الواسع على غزة، فقد ترافق مع هذه الدعوات دلالات سياسية لافتة يمكن إدراجها في البنود التالية:
1. للمرة الأولى منذ بداية العدوانات الإسرائيلية على غزة خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة منذ سنة 2008، طالب الاحتلال عبر أكثر من مسئول بارز، وعلى رأسهم نتنياهو شخصياً، الفلسطينيين بالخروج من القطاع، لأنه لن يكون آمناً لهم بفعل القصف الذي سيطال كل مناطقه، ولن يستثني أحداً، فيما تحدث ناطقون عسكريون ووزراء إسرائيليون، تصريحاً وليس تلميحاً، بأن على سكان القطاع التوجه إلى سيناء المصرية كونها منطقة آمنة، وبمنأى عن أي خطر على حياتهم، الأمر الذي استدعى من السلطات المصرية إصدار موقف رسمي واضح بعدم السماح لأي من الفلسطينيين بالمرور إلى أراضيها.
يصعب على المرء أن يتصور أن هذا الهدف مرتبط بالأبعاد العسكرية فحسب، بل يمتد إلى تصورات سياسية مرتبطة باليمين الإسرائيلي عموماً الساعي للتخلص من الوجود الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، ومحاولة تهجيرهم خارجها، فلسطينيو غزة إلى سيناء، وأشقاؤهم في الضفة الغربية إلى الأردن.
2. في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات الأمريكية الإسرائيلية خلال الشهور التسعة الماضية توتراً متصاعداً، وصل حدّ القطيعة، ولكنها استعادت قوتها ومتانتها فور اندلاع الأحداث الأخيرة إلى الحدّ الذي دفع الإدارة الأمريكية الديمقراطية لإعلان دعمها الكامل لحكومة نتنياهو اليمينية، وبعد أن مكث نتنياهو وبايدن تسعة أشهر دون إجراء اتصال هاتفي واحد، فقد أجريا في الأيام الأخيرة ثلاثة اتصالات للتعبير عن الدعم الأمريكي اللا محدود للاحتلال الذي تمثل بإرسال ثمانية مليارات دولار على الفور، وتوجيه حاملة الطائرات جيرالد فورد إلى شواطئ فلسطين المحتلة، وإعلان بايدن في خطابه أنه يدعم «إسرائيل» بلا حدود في حربها ضدّ الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة.
لا شكّ أن هذا التحول السياسي له ما بعده من استعادة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، مما يمكن اعتباره «قفزاً» من واشنطن على انقلاب نتنياهو القضائي، إضافة إلى رغبة بايدن بالاستفادة من دعم الاحتلال كي تكون له دعاية انتخابية مبكرة لتجديد ولايته الرئاسية الثانية في سنة 2024.
3. لم يقتصر الأمر على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بل وصلت إلى الاتحاد الأوروبي التي سارعت دوله المركزية: فرنسا وألمانيا بجانب بريطانيا، لإعلان دعمها المطلق للاحتلال في عدوانه القائم على الفلسطينيين، بالرغم مما ساد علاقاتهما من توتر وقطيعة بسبب سياسة الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وانقلابه القضائي، وهو ما سيكون له تبعات عن انحياز أوروبي سافر بجانب الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية، من خلال إصدار بيانات مشتركة تدعم الاحتلال في عدوانه العسكري.
هنا يظهر تخوف فلسطيني مشروع من تشكيل تحالف دولي، أو على الأقل غربي، ضدّ حماس، في ضوء المواقف العدوانية التي أصدرتها تلك الدول ضد الحركة عقب عملية «طوفان الأقصى»، أسوة بما حصل في مؤتمر شرم الشيخ سنة 1996 إبان تنفيذ حماس لعملياتها الاستشهادية ضدّ الاحتلال انتقاماً لاغتيال قائدها العسكري المهندس يحيي عياش.
وقد بدا لافتاً أن هناك جهوداً إسرائيلية حثيثة لتحريض المنظومة الغربية على حماس من خلال تشبيه هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة بأحداث سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة، وهجوم اليابان على ميناء بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية، وكذلك استخدم نتنياهو وبايدن معاً مفردة أن حماس تساوي تنظيم الدولة، وأن العالم مطالب بالقضاء عليها كما حصل مع التنظيم.
4. مسارعة الاحتلال لتشكيل حكومة طوارئ وطنية عاجلة مهمتها الرئيسية إدارة الحرب القائمة على غزة، وقد دعا نتنياهو خصومه يائير لابيد وبني غانتس للانضمام إليه أسوة بما قام به مناحيم بيجن بالاستجابة لمطلب ليفي أشكول رئيس الحكومة إبان اندلاع العدوان الإسرائيلي على الدول العربية سنة 1967.
هذا يعني «تجميد» الخلاف الإسرائيلي القائم بسبب الانقلاب القضائي، وما تخلله من استقطاب حادّ بدأ منذ تسعة أشهر، من خلال انخراط الحلبة السياسية الإسرائيلية برمّتها، الائتلاف والمعارضة، في حكومة واحدة لاستهداف الشعب الفلسطيني في غزة.
قراءة استشرافية
من الواضح أننا أمام بداية عنيفة دامية للعدوان الإسرائيلي، وطالما حصل الاحتلال على ضوء أخضر أمريكي، ودعم غربي، وصمت عربي، فإنه سيواصل عدوانه على القطاع، طالما يشعر أنه يحقق نتائجه المرجوة، من وجهة نظره، لا سيّما مشاهد الدمار الهائل في مختلف مناطق القطاع، وارتفاع أعداد الشهداء والجرحى، وتكدّس النازحين في مدارس الأونروا، واحتمال تسهيل مرورهم إلى الأراضي المصرية، بداعي الحفاظ على أمنهم الشخصي.
في الوقت ذاته، فإن قراءة في سيناريوهات العملية البرية المزمع تنفيذها قد ترجح السيناريو المتجه نحو الدمج بين مختلف البدائل المعروضة أعلاه، بحيث تبدأ العملية بتكثيف القصف باتجاه الحدود الشرقية للقطاع بغية تنظيف المناطق الأمامية للجيش قبيل التوغل، وفي حال شعر بقدرته على التقدم بالتزامن مع تنفيذه لسياسة الأرض المحروقة فقد يسعى للحصول على صورة يقدمها للرأي العام الإسرائيلي في مناطق معينة على مشارف غزة.
وفي حال شعر الاحتلال أن السقف الزمني بقي قائماً، وخسائره البشرية محدودة، فقد يواصل عدوانه لجباية المزيد من الأثمان البشرية، وهذه المرة في صفوف قيادات المقاومة السياسية والعسكرية، إضافة إلى استنزاف ما لديها من قدرات صاروخية، بحيث يصل معها إلى ما هدد به الاحتلال من حالة لا تعود تشكل فيها تهديداً حقيقياً عليه.
مع العلم أن المقاومة التي تبدو متحضّرة لهذا السيناريو قد تكون أعدّت مفاجآت غير سارة للاحتلال، مما قد يجعلها قادرة على التكيّف مع أي من السيناريوهات المعروضة أعلاه، ولكن الكلفة البشرية الباهظة من المدنيين، وحالات النزوح الجماعي لمختلف سكان القطاع، قد يشكّل على قيادتها عبئاً قاسياً، لا أحد يعلم كيف ستتعامل معه، لا سيّما وأن اليوم الخامس للعدوان شهد محواً كاملاً لأحياء سكنية كاملة.
النتائج والتوصيات
- من الواضح أننا أمام عدوان إسرائيلي على غزة يختلف عن سوابقه منذ سنة 2008 في كونه أتى نتيجة عملية مقاومة غير مسبوقة في حجمها وآثارها على الاحتلال، مما دفعه لتوظيفها لخدمة أجندته السياسية والأمنية تجاه القطاع.
- ما زلنا في بداية العدوان، ومن المتوقع أن يستمر أسابيع قادمة، في ضوء الأهداف الموضوعة له من قبل أطرافه الرئيسية: الاحتلال والإدارة الأمريكية، الأمر الذي يعني مزيداً من ارتكاب المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة، وازدياد مطّرد في أعداد الشهداء والضحايا والخسائر المادية.
- يظهر الاحتلال في هذا العدوان مسلّحاً بدعم أمريكي منقطع النظير لم يحصل عليه بهذه الفجاجة إلا في عهد إدارة الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش الأب الذي دعم الاحتلال في الحرب الأولى على غزة سنة 2008، ولكن الجديد ذلك الدعم الأوروبي غير المسبوق لحكومة يمينية فاشية لم تشهد علاقة الاتحاد الأوروبي معها أي تحسّن طوال تسعة أشهر.
- يتوقع أن يشرع الاحتلال في محاولة تطبيق مخططاته القديمة الجديدة تجاه مستقبل قطاع غزة، سواء ما تعلق منها بـ «تنظيفه» من المقاومين، وتحويله إلى منطقة «منزوعة السلاح»، أم توسيعه جنوباً باتجاه سيناء، وهذه المرة بحجة حماية المدنيين من ويلات الحرب.
- على الرغم من تعويل المقاومة في غزة على انضمام جبهات أخرى بجانبها ضدّ الاحتلال للتخذيل عنها، والتخفيف من الضغط الممارس عليها، لا سيّما جنوب لبنان والضفة الغربية وفلسطينيي 48، ولكن الحراك فيها ما زال متواضعاً، صحيح أن الجبهة الشمالية تشهد حتى الآن مناوشات مستنزفة للاحتلال مثل إطلاق قذائف ومحاولات تسلّل، ولكنها ليس كفيلة بتشتيت قواته عن غزة، لا سيّما في ضوء التهديد الأمريكي لأي دولة أو منظمة تحاول استغلال الظرف القائم لاستهداف الاحتلال، أما الضفة فتشهد تصعيداً متدرجاً، كما أن فلسطينيي 1948 لم تظهر في وسطهم علامات فارقة على تحرك نوعي، خصوصاً في ضوء الضغط الواقعين تحته.
أمام هذه النتائج المتحققة حتى اليوم الخامس للحرب، يمكن الخروج بعدد من التوصيات العاجلة:
- من الأهمية بمكان إسعاف قطاع غزة بما يحتاجه من معدات طبية وإنسانية عاجلة، فالكارثة بدأت بالتحقق مع مرور الوقت، لا سيّما في ظلّ إغلاق الاحتلال لمعابر القطاع.
- العمل في القنوات الدبلوماسية لاستصدار مواقف دولية وعربية تحاول كبح جماح الاحتلال عن المضيّ قدماً في مخططاته الدامية ضد القطاع، ووقف استهداف المدنيين، وعدم منحه السقف الزمني الذي يحتاجه لاستكمالها.
- التنسيق والتشبيك مع المؤسسات الدولية المؤثرة للضغط على الولايات المتحدة لوقف دعمها للاحتلال في عدوانه الجاري.
- ضرورة استنهاض الجبهات المجاورة لقطاع غزة للانخراط في المواجهة الدائرة مما يخفف عنه حالة الاستباحة التي يقوم بها الاحتلال، بما تعنيه من سفك مزيد من دماء أهله.
- أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة، قطاع غزة، فلسطين. حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة دمشق. متخصص في الدراسات الإسرائيلية. نشر عدداً من الكتب حول السياسة الفلسطينية المعاصرة والصراع العربي الإسرائيلي. يعمل باحثاً ومترجماً لدى عدد من المراكز البحثية العربية والغربية. ويكتب بصفة دورية في عدد من الصحف والمجلات العربية.