سيد قطب: من ضيق الأيديولوجيا إلى رحابة التوحيد
ليس ثم تعريف نهائي جامع مانع للأيدلويوجيا، كما يُقِرُّ جمهرة الفلاسفة الغربيين؛ ولكن يُمكن تتبُّع بعض معالمها من خلال التعريفات الإجرائية، التي أوردها بعضهم؛ فهي قد تكون: «عملية إنتاج المعاني والإشارات والقيم في السياق الاجتماعي»، أو: «مجموعة من الأفكار التي تميِّزُ طائفة أو طبقة اجتماعيّة مُعيّنة»، أو: «أفكارٌ [حقيقية أو زائفة] تُسهِمُ في إضفاء المشروعية على سُلطةٍ سياسية مُهيمنة»، أو: «اتصالٌ إنساني مُشوَّه بصورةٍ منهجية ليُعلي من شأن قضيةٍ ما»، أو: «صيغ فكرية تتشكَّلُ بدافع مصالح اجتماعيّة مُعينة»، أو: «جدليّة فكريّة هويّاتية»، أو: «وهمٌ اجتماعي ضروري»، أو: «اقتران الخطاب الاتصالي والسُلطة»، أو: «الوسيط الفكري الذي يُضفي من خلاله الفاعلون الاجتماعيون المعنى على عالمهم»، أو: «مجموعات من الاعتقادات الموجِّهة للعمل»، أو: «الوسيط الفكري الذي لا غِنى عنه ليتمكَّن الأفراد من الحياة خارج إطار علاقاتهم بالبنية الاجتماعية»، أو: «العملية التي تتحوَّل من خلالها الحياة الاجتماعية إلى واقع طبيعي/مادي». أو هي، عندنا؛ ذلك كله، أو بعضه مُتداخِلًا مُتراكبًا.
ومن خلال عمليّات تفكيكٍ وتركيبٍ طويلة ومُعقَّدة أمكننا تجريد بعض خواص النسق الأيديولوجي، لتصير أكثر تجانُسًا وتفسيرية؛ وإن كانت بعيدةً البُعد كله عن الصيغ النهائية، الجامعة المانعة؛ التي تصِمُ النسق الأيديولوجي نفسه. وهو قريبٌ مما فعله أستاذنا المسيري مع تجليات العلمانية، والتي كانت الفلسفة الغربية تتعاطى معها بوصفها ظواهر/شظايا مُستقلة؛ فجاء هو بجهده التفكيكي والتركيبي ليُبصِر الوحدة الكامنة فيها خلف التنوّع الظاهري، وينظُمها جميعًا في سلكٍ واحدٍ، هو سلك التعبير عن رؤية كونية علمانية.
وقد وجدنا أن ثمة روابط عدّة تجمع تعريفات الأيديولوجيا، وتكشِفُ عن طبيعة النسق الأيديولوجي وتكوينه، وتسمح لنا، ببعض التجوّز؛ بتوصيف الظواهر المعرفية والاعتقادية الفردية والاجتماعية، للوقوف على مدى أدلجتها؛ أي مدى تعبيرها عن النسق الأيديولوجي. هذه الروابط يُمكن التعبير عنها بخمس خصائص رئيسة يمتاز بها النسق الأيديولوجي، وهي ليست الخصائص الوحيدة، إذ يُمكن لغيرنا تجريد مزيد من الخصائص تكشِفُ جوانِب أخرى من ذات النسق. وبذا، يصير تعريفنا للأيديولوجيا، من خلال هذه الخصائص؛ ليس بالتعريف النهائي، وإنما هو تعريفٌ مُنفتحٌ نجده أكثر تفسيرية مما سواه، ويُمكن لغيرنا أن يزيد مقدرته التفسيرية، أو حتى يُضعِفها بما يكشِف ويُجرِّدُ من النسق نفسه.
وتتبدّى الخصائص التي تُميِّزُ النسق الأيديولوجي في هذه المتتالية: أولًا أنه أفكار أو صياغات فكرية بشرية، أي مُنتج وضعي. وليس كل فكرٍ بشري هو محض تعبير أيديولوجي بالضرورة، لكن كل فكرٍ بشريٍ وضعي، ومن ثم يُمكن أدلجته بسهولة، لانتفاء العصمة عنه؛ حتى لو كان تأويلًا أو تفكُّرًا في الوحي الإلهي. هذه الأدلجة الميسورة تتحقَّق بتحول بعض الفكر البشري، في روع المُقلِّدين؛ إلى مُنتج نهائي لا تاريخي، أي نزعه من سياقه التاريخي ليصير قيمةً فوق تاريخية ذات قداسة. قيمة نهائية ودينًا مُنزلًا لا يمكن مناقشته ولا رده، كما عند جُلّ المُتأخرين من المنتمين لشتى مذاهب الفقه والاعتقاد، وهذه هي ثانية الخصائص. أما الثالثة فهي صيرورة هذا المنتج وعيًا زائفًا هوياتيًا قارًا ساكنًا، وعيًا حاجبًا يكفي في روع المبتلى ويُغني -ضمنًا- عن تمثُّل الوحي الإلهي والحركة به، دعوة بالنفس؛ داخل التاريخ عروجًا إلى الله. بل يصير هذا الوعي الهوياتي دينًا بديلًا للدين الحق، ويحلُّ محل التمثُّل ودوام المكابدة في الاتباع، ليصير مُجرَّد الاعتقاد النظري (والهوية البرانيّة المقننة الساكنة) كافيًا لتحقيق الخلاص الإنساني، كما عند بعض السلفية أهل الهدي الظاهر، وكما عند المسيحيين، الذين يرون في محض«الإيمان» القلبي بيسوع مُخلِّصًا كفاية لتحقيق الخلاص الكامِل، ولو فسد العمل وغابت المكابدة كُليًا. ورابعة هذه الخصائص هي أن النسق ذي أثر اجتماعي مُمتد بطبيعته للغير، وقد يتجلّى ذلك في محاولة فرض القيم والمعاني والرموز الهوياتية المُنتجَة على المجتمع (برانيًا وبالقهر الفوقي)، أو إضفاء المشروعية على نظامٍ سياسي من خلال التعبير عنه بنفس الشفرة الهوياتية المزيِّفة (إمعانًا في التضليل الإعلامي)، أو التشويه المنهجي لفكرٍ أو قضيةٍ ما حفظًا لمصالح بعض الملأ، أو ترشيد الحياة الاجتماعية وتحويلها إلى واقعٍ طبيعي/مادي (بنزع التكريم الإلهي عن الإنسان) لتيسير التحكُّم فيها وضبط مساراتها على هوى القائم بترشيد الواقع. هذا الأثر الاجتماعي المرغوب من الملأ، ومن الجماهير التي تُساق بالأيديولوجيا؛ لا يُمكن تحقيقه على نطاقٍ واسعٍ بصورةٍ طوعيةٍ صادرةٍ عن اعتقادٍ جوانيٍ مُخلصٍ، ومن ثم؛ يلجأ سدنة النسق الأيديولوجي إلى الصراع البراني مع البنى الاجتماعية المناوِئة، بُغية تقويض تصوّراتها وإكراهها على تبني التصوّر الأيديولوجي الاختزالي للوجود. وهذه الطبيعة الصراعية نفسها هي الخاصية الخامسة للأنساق الأيديولوجية، فهي أنساقٌ بشرية اختزالية تتصارع مع الوجود برانيًا لفرض نفسها، ولا يُمكنها الاكتفاء بالدعوة والاعتناق الطوعي الذي يبدأ من الجواني.
ومن هذا كُله، يتبدَّى لنا الارتباط شبه الحتمي بين الأيديولوجيا والطوبيا، كما سنُفصِّل؛ وبينهما معًا وبين العُنف البراني المُفرِط. بل يتبدَّى لنا تشابُهُ آليات النسق الأيديولوجي وبعض خصائصه مع النسق التوحيدي المُنفتح، وهو تشابُهٌ مرجعه وحدة الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها، وأن النسق الأيديولوجي نفسه ليس دينًا قائمًا بذاته، بل هو دينٌ تخلَّق في رحم انحراف الإنسانية عن الدين الحق بطول الأمد، فهو في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، مثله في ذلك مثل كل تجليات الشرك؛ مُجرَّد عالة على التوحيد، وذلك بوصفه انتكاسًا في صيرورة الاستقامة أو في الفطرة.
وربما كانت مشابهة النسق الأيديولوجي للنسق التوحيدي هي سبب وقوع كثير من ذراري المسلمين في الغلط، والخلط بينهما؛ مُعتبرين الإسلام محض أيديولوجيا، سواء منهم الإسلاميين السُذج الذين يحسبون الأيديولوجيا بنية إيجابية يُمكن اختزال الإسلام فيها (وفي ذلك خلط واضح بين الإسلام والفكر الإسلامي)، أو العلمانيين الجُهال الذين لا يعرفون من الإسلام سوى الاسم، ويحسبونه من ثم أيديولوجية «وضعية» مثلها في ذلك مثل تخبُّطات البشر التي ألِفوها. وقد تتجلى هذه المشابهة مثلًا في أن الأيديولوجيا قد تكون اعتقاداتٍ نهائية موجِّهةٍ للعمل، أو وسيطًا فكريًا/اعتقاديًا يُضفي من خلاله الفاعلون الاجتماعيون المعنى على عالمهم المعزول، أو وسيطًا فكريًا/اعتقاديًا يُتيحُ للأفراد مفاصلة البنية الاجتماعية والحياة خارج إطار علاقاتهم بها.
والحقيقة أن هذه المشابهة لا تنفي الفروق الواضحة، والتي لا يُدركها إلا من تحقَّق بالمكابدة على طريق التوحيد. ذلك أن الاعتقاد الموجِّه للعمل ليس سُبة في ذاته، ولكنه عند المؤدلج اعتقادٌ في وضعي (ولو توهَّم فيه قداسة وتجاوزًا) تُسبَغُ عليه قداسة لا تاريخية، وهو اعتقادٌ نهائي مقرون بنتيجةٍ ماديةٍ ومصلحة اجتماعية أو سياسية مرغوبة التحقُّق اﻵن وهنا. أما في النسق التوحيدي فهو اعتقادٌ في إلهٍ متجاوزٍ لخلقه مُهيمن عليهم، واعتقاد في نصٍ تأسيسي إلهي معصوم، ومهيمن على التاريخ. إنه اعتقادٌ غيبي نهائي في رحمة الله، وليس في برنامج وضعي أو خطة عمل أو قدرات ومهارات بشرية؛ إنه اعتقادٌ لا يقترن أبدًا بأية نتيجة مادية أو مصلحة بشرية، وليس له من هدفٍ سوى تزكية النفس على طريق الاستقامة، ليَكِل كافة النتائج الممكنة إلى التوفيق الإلهي، فلا ينتظر ثمرة لسعيه، ولو كان مُجرَّد نُصرة ما يدعو إليه بنفسه وماله وأهله.
كذا فإن «الوسيط» الذي يُضفي من خلاله المؤدلجون المعنى على عالمهم، ويُتيح لهم من ثم مفاصلة مجتمعهم والحياة خارج إطار بنيته الاجتماعية؛ شديد الشبه هو اﻵخر في ظاهره ببعض أفعال أهل التوحيد، الذين لا يلجئون لوسيطٍ فكري أو اعتقادي وضعي، وإنما يركنون إلى معية الله مباشرة ويستكينون في كنفه، ليس بمُفاصلة المجتمع والحياة خارج إطار بنيته الاجتماعية، كما فعلت جماعة شكري مصطفى مثلًا؛ ولكن بمفاصلته شعوريًا وروحيًا مع مكابدة الحياة داخل بنيته الاجتماعية بوصفها مجال دعوتهم التي تُعبِّدوا بها. إنهم لا يحتاجون لإضفاء المعنى على طوبيا متوهَّمةٍ معزولة، لأنهم يعبدون الله بمكابدة التاريخ ومشاقه وأدرانه وأهله في كل لحظة.
إن الفارق الأهم والأبرز بين النسقين الأيديولوجي والتوحيدي ليس في أن الأول يُبشِّر بطوبيا (فردوس أرضي) والثاني لا يُبشر بشيء، بل في أن الأول يعبُدُ عالم الشهود ولا يستطيع الفكاك من سجنه أما الثاني فإنه يرنو إلى عالم الغيب وبذا يتحرَّك بكفاءة في عالم الشهود. وهي ليست حركة إجرائية أو تقنية أفقية لتحقيق مصالح أرضية، ولكنها حركة دعوية يحدوها دوام مكابدة النفس وتزكيتها للعروج إلى بارئها.
إن ارتباط الأيديولوجيا بالطوبيا ارتباط سببي صلب، ذو طبيعة دينية. إذ يُبشِّر اليقين في البرامج والإجراءات بإمكان بلوغ الفردوس اﻵن وهنا. ولأن الطوبيا هي محض نتيجة متخيَّلة للبرامج والإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية …إلخ؛ فإنها مُجرَّد مثال مُتوهم تفتقت عنه قريحة بشرية، قد يتلبَّس ثوب الدين الساري في المجتمع، وقد يصير دينًا جديدًا بلاهوتٍ جديد. وهو مثال نظري لا جذور له في التجربة التاريخية البشرية ولا أصول تُعضِّده، وإنما محض أحلام وخيالات وأوهام. لذا؛ فإن القرآن حين يعرض المثال النبوي للمؤمنين يسوقه في ثوب الأسوة الحسنة: القدوة التاريخية الحيّة القابلة للاحتذاء، وليس المثال النظري المبتوت الصلة بحياة ابن آدم وحقيقة مكابداته وأشواقه. إنه أسوة تحدو قافلة الإيمان ببشريتها، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ وكذا كان كل الأنبياء من قبل، صلوات الله عليهم أجمعين. إن المثال القرآني مثالٌ تاريخي يقتدي به المؤمن في الاستقامة على أمر الله باديء ذي بدء، ثم في الدعوة إلى الله بما استقام عليه، وأخيرًا في حركته المعيشية لتلمُّس أسباب الرزق.
إن الإسلام بذاته لا يتصارع برانيًا مع ما دونه من أوهام البشر لأنه مُهيمنٌ عليها ابتداء، ولكن قد يتصارع المسلمون مع غيرهم ممن يعبدون العبيد، ليحفظوا على الإنسانية حريتها. حريتها في الاعتقاد، وحريتها في العبادة. حريتها حتى في أن تُشرك بالله الذي خضعت له الرقاب طوعًا وكرهًا، لكن بعلم؛ فالهدى هدى الله. ذلك أن الإسلام لا يُريد من البشر أن يتوهّموا فيه محض انتماءٍ ساكنٍ أو هويّةٍ قارّةٍ ميتةٍ لا تمور بها النفس ويتغيَّر بها وجه الأرض. إنه لا يُريد منهم لافتات، بل يُريد منهم مكابدات. إنه يُريد أن يبدأ أثره الاجتماعي من قلوب الأفراد، مجال حريتهم؛ والتي صانها سبحانه حتى عن قهره. إن الاجتماع الإسلامي لا يبدأ بأشخاصٍ قد تواضعوا على الهراء المُسمى بـ«الاقتصاد الإسلامي»، ولا ببعض الهوام الذين يقتلون النفس التي حرَّم الله باسم «الخلافة». إنما يبدأ بقلبٍ أخبَت ونفسٍ زكت، نفس استكانَت لربها فاستقامت. وكلما زاد عدد النفوس التي تعرُج إلى بارئها صادقة مخلصة كل ليلة؛ اتسع نطاق الأثر الاجتماعي. اتسع الأثر الإلهي في الاجتماع ليتحرَّر البشر من سطوة العبيد ومن سلطان العبيد ومن العبودية للعبيد. يتحرَّروا بالوصل. يتحرَّروا بالصلاة. يتحرَّروا بالمدد الإلهي. يتحرَّروا نسبيًا، وبدرجاتٍ متفاوتة؛ من التقليد الأعمى الذي يؤدلج تصوراتهم، فيصير المقلِّدُ منهم حتى في أمور الفقه مُقلّدًا بدليلٍ وعلى بينة، وبغير عصبيةٍ مُنتنة. إن مثل هذا الوجود الإنساني ليس نتاج فكرة بشرية، ولا هو ثمرة مبدأ نظري مُسبَق، ولا هو بالوجود الفردوسي النهائي الساكن؛ بل هو صلاة جماعية إلى قبلةٍ واحدة. صلاة تتجدد في اليوم مرات ومرات. وما بين هذه الصلوات قد يغلِب ثقل الأرض، وقد تغلِب شهوات الأرض، وقد يغلب ضعف الأرض؛ لكن المؤمن يَفِر من ذلك كله إلى الصلاة. بل يفر منه بالصلاة.
إن العنف الحتمي الذي يلجأ إليه المؤدلج محاولًا فرض فردوسه الأرضي بالحديد والنار، بقسر الناس على أيديولوجيته؛ يُشبه القتال الذي يلجأ إليه المسلم حين تعترضه هذه الطوباويات الكامنة في ضراوة الأدلجة. القتال الذي يلجأ إليه لتحطيم كل ما يُعبِّدُ الناس لغير الله. إنه يفعل ذلك باسم الله، وشفقة على الناس؛ لا ليُخادِعهم ويسوقهم إلى فردوسٍ/طاغوتٍ «إسلامي»، وإنما ليُخلّي بينهم وبين ربهم. يفتح الباب أمامهم ليشهدوا الحق، وبعدها؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولهذا؛ فإن الوجه الآخر لعُنف المؤدلج هي البراغماتية الخسيسة، أما قتال المؤمن فهو وجهٌ واحد ووجهة واحدة: الشهادة إقامة للحُجة، أو النصر أحيانًا بدخول الناس في دين الله أفواجًا حين يتبيَّن لها الحق. الحق الذي قد ينكشف ما بينها وبينه من حجاب بتقويض الطواغيت متى أراد الله لها الهدى، ورضي عن عبده المؤمن فاستعمله في تقويض طاغوتٍ يُعبَدُ من دونه.
وفي ذلك يختلف المؤمن عن المؤدلج اختلافًا بيّنًا. إذ لا يرى المؤمن إلا ربه عز وجل، بينما لا يرى المؤدلج سوى هذا العالم، ولو صلى وصام وحج البيت الحرام!
كان هذا التقديم المفصِّل لازمًا لبيان الفضاء المعرفي الذي تحرَّك فيه سيد، رحمه الله؛ مُنتقلًا من ضيق الأدلجة إلى رحابة الإسلام، وذلك على عكس ما يتوهَّم أكثر قراؤه. والحقيقة أن كلًا من الغربيين وذراري المسلمين يختزلون المراحل التي مرَّ بها الرجل، مُكرِّسين القطيعة بينها ومتغافلين عن التدرُّج في تغيُّر أفكاره، وطبيعة هذا التغيُّر؛ ومآله. بل يجهلون طبيعة الإسلام نفسه، الذي اكتشفه في رحلة بحثه الطويلة؛ وكيفية استجابته لها. فقد يرون أنه انتقل من العلمانية إلى «الإسلام السياسي»، أو من العلمانية إلى «الراديكالية الإسلاموية»، أو من «الأنسنة» إلى «الأدلجة»، أو أية قوالب اختزالية أخرى يعمدون لفرضها على مسيرة الرجل تلبية لانطباعات مُسبقة تشرَّبوها واستبطنوها كليًا قبل معايشته.
لكننا قد نوافق الباحث الأسترالي وليم شبرد، جزئيًا؛ في بعض تقسيم المراحل التي مرَّ بها سيد. إذ تتسم كتابات قطب، إبّان ما يمكن تسميته بالمرحلة العلمانية؛ بقبولٍ شبه كاملٍ للقيم والمرجعية الغربية، ومحاولة تنزيلها على الواقع. ثم حين يبدأ التفاته للإسلام أواخر الحرب العالمية الثانية، في محاولة لاستدعاء بعض الخصوصية؛ يشرَع في أسلمة بعض القيم الغربية (والقوالب المعرفية والأيديولوجية)، وذلك كما يتجلى مثلًا في أسلمة النسق الأيديولوجي بكتابه الشهير: «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، المنشور عام 1949م؛ متوهِّمًا أن الكل الإسلامي المنزَّل هو مجموع أجزاء الإجراءات «الإسلامية» وتفاصيل «النظام الإسلامي». وتُمثِّل المقالات التي نشرها مطلع الخمسينيات ثم جُمعت في كتاب: «نحو مجتمع إسلامي»، تُمثِّلُ آخر خطوة في مرحلة الأسلمة؛ بمحاولة أسلمة القيم والحركيات الاجتماعية. ثم هو يخطو خطوة أخرى داخل الإسلام، ليتخفَّف من بعض أدلجته وإيمانه بالقيم الغربية (التي سعى لأسلمتها سابقًا) في كتاب:«الإسلام ومشكلات الحضارة»، المنشور حوالي عام 1960م؛ ثم يخطو خطوة أبعد في هذا التخفُّف من أوهاق الحضارة الغربية وقيمها وقوالبها ومناهجها في كتابيه: «خصائص التصور الإسلامي»، يليه كتاب: «هذا الدين»، المنشور عام 1962م. ليكتمل انسلاخه من جاهليته كليًا في كتابه القارِص: «معالم في الطريق»، والذي نُشِرَ للمرة الأولى عام 1964م. وعلى التوازي مع تلك الرحلة الحافلة كانت رحلته المباركة في ظلال القرآن توجِّهه وتحدوه إلى طريقٍ لم يكُن يرجوه من قبل، وإنما ألقاه القرآن فيه رحمة من ربك.
إن المتتبِّع جيدًا لسيد يجده قد شرع أنذاك ليس بالتخلي عن أدلجته فحسب، بل والتخلي عن نفسه وأفكاره كذلك. ليس بالمعنى المبتذل الذي عناه نُقادُه ودراويشه على حدٍ سواء، بل بالمعنى الصوفي لفناء الذات وغياب الأنا البشرية بشهود الحضرة الإلهية. فقد أدخله القرآن في تجربةٍ صوفيةٍ عرفانية جارفة امتدت منذ شرع بكتابة «خصائص التصور الإسلامي»، لدرجة أنه يُكرر مرارًا رغبته في رص اﻵيات دون أدنى تدخُّلٍ منه، ولكنه يخشى أن يحول طول العهد وتدهور اللغة دون إدراك القاريء لمقاصد القرآن ومراميه. إنه يحمل القاريء حملًا إلى القرآن وحده. يُشير إلى القرآن ويُريد أن يصمت في هذه الحضرة القُدسية مُتأدبًا خاضعًا تمام الخضوع، لكن ما يلقاهُ يُنطِقُه.
وحين ينطِقُ في شهادته الموجِعة، والتي خطَّها في كتابه الأشهر: «معالم في الطريق»؛ لا يُشير إلى شيءٍ سوى للطريق الذي سلكه بنفسه. لا يُشيرُ إلى طريقٍ متوهَّمٍ قد يُفضي إلى فردوسٍ أرضي، ولا يُشير إلى طريقٍ قد يُفضي إلى نُصرةٍ لحملة هذه الدعوة. لا يُشير إلى شيء حاشا طريق العروج. إنها معالم في الطريق إلى الله، أو معالم في طريق العروج إلى الله. وهو يبدأ الكتاب/الطريق فعليًا ببيان حقيقة الحركة الاجتماعية بالدعوة، واستعراض عملية تنشئة الجيل القرآني، ثم يربِط التصوّر كله بالمنهج القرآني وطبيعته اللصيقة بحياة المسلم وحركته في الوجود؛ فالإسلام نفسه حقيقة لا تنفصل عن منهج تطبيقها في الوجود. ثم يُفصِحُ عن معنى الجهاد في سبيل الله، ويُعيد التأكيد على طبيعة المنهج القرآني بفصل «نقلة بعيدة»، ثم قبل أن يكشف لك عن خاتمة المطاف؛ يُبيّن معنى استعلاء الإيمان، الذي به وحده يصبر الإنسان على مشاق هذا الطريق الوعِر. الطريق الذي لم ينته بمُلكٍ أو سلطانٍ أو تمكينٍ في الأرض، ولكنه انتهى في رحاب الله. انتهى بالشهادة في سبيل الله. انتهى بالعروج إلى الله. إنهُ طريقٌ صوفي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وشتان بينه وبين النصوص الأيديولوجية التي تُبشِّر بفردوسٍ أرضيٍ تحاول رسم ملامحه المادية، وتُشقي الإنسانية في سبيل قهرها على بعضه. لقد ختم سيّد حياته بنصٍ لا يرسُم شيئًا ولا يُعيّنُ شيئًا ولا يطلب شيئًا ولا يحشد لأية غرضٍ دنيوي/طوباوي، وإن كان يُعنى أشد العناية بتحقُّق الإيمان في الفرد والمجتمع. إنه نصٌ يُهدِرُ كل رغبةٍ أرضية، وكل شهوة دنيوية، وكل غواية إجرائية؛ يُهدِر ذلك كله ليقول لك أنه ليس إلا وجه الله. لا شيء يجب أن يطلبه المسلم إلا وجه الله. لا شيء يجب أن يشهده المسلم إلا وجه الله.
إن سيد يختار لشهادته المدوَّنة، ولطريقه إلى الله؛ نهاية فذَّة ومآلًا مفتوحًا. إنها النهاية المتفرِّدة التي كتبها الرب العلي سبحانه على أصحاب الأخدود. يختارها سيد لا ليُخاطِب بها نفسه فحسب، مُناشدًا إياها الثبات في الإقبال على الحق؛ بل يُخاطب بها كذلك أصحاب الدعوة إلى دين الله في كل زمان ومكان. إنها استعادةٌ للميراث الرمزي لسيدنا الإمام الحسين ابن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آل بيته. إقامة الحجة. إذ على كل مسلم أن يسعى فحسب لإقامة الحُجة على نفسه ومجتمعه، وما عدا ذلك؛ فأمرٌ لا يعنيه وشأن لا يُغنيه.
يقول رضي الله عنه: إن «الباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا، ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاءً مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه. والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس.كذلك يضرب الله الأمثال وكذلك يُقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات، ومصائر الأعمال والأقوال، وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل».
«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)».[1]
[1] -سورة الرعد.