الانفتاح السعودي على المرأة: دعم للحقوق أم استدعاء سياسي؟
عاشت حياة أقرب ما تكون إلى السجن، مساحة صغيرة رسم حدودها والدها، لا يمكنها التحرك خارجها، لا يمكنها تغيير الواقع حتى لو تعلق الأمر بالحياة أو الموت. فها هي قد تعرضت لحادث سير، نزفت على إثره الكثير من الدم، كادت أن تكون في عداد الأموات، ومع ذلك رفض مسئولو الإسعاف إنقاذها، وكيف لهم ذلك فلا بد من أخذ إذن ولي أمرها أولًا حتى يتسنى لهم إنقاذ حياتها!
هكذا وجدت المرأة السعودية نفسها أسيرة لقيود القانون والمجتمع، شعرت كأنها مقيدة بالأصفاد. لم تتمكن من ممارسة حياتها الطبيعية. وكأن نصف المجتمع لم يكن لقبًا كافيًا لإعطائها ما تستحقه من حقوق، فبقت النصف الأكثر ضعفًا الذي يعلو صوته دائمًا مطالبًا بحقوقه.
رويدًا وبمرور الوقت بدأت هذه المطالبات تؤتي ثمارها، واستجابت المملكة لتلك الأصوات فخففت القيود عن المرأة، ومنحتها العديد من الحقوق والحريات، حتى وصل الأمر إلى منحها حق اختيار الانضمام إلى التجنيد، إذ أعلنت قبل أيام عن فتح الباب أمام النساء للالتحاق بوظيفة جندي.. ولكن، هل بتلك الحريات تحسن وضع المرأة السعودية، هل لحقت بنظيرتها في بقية دول الخليج، وماذا عن الأهداف وراءها؟
الخروج من الصندوق
بهذه الكلمات المقتطفة عبر عدد من السعوديات عن سعادتهن بتلك الحريات التي منحتها إياهن المملكة. فالآن بإمكانهن التمتع بحقوق كانت حتى الأمس حكرًا على الرجل. فيمكن للمرأة اليوم الخروج وقيادة سيارتها، يمكنها حضور المباريات والحفلات الترفيهية المختلطة. ولن يتوقف الأمر عند حد المشاهدة فقط، إذ بإمكانها أيضًا المشاركة في العديد من الفعاليات والألعاب الرياضية.
إذا كانت هذه الحقوق تبدو بديهية للغاية في دول عربية كثيرة تجاوزت فيها الحركات النسائية إلى مطالب أكبر، فإنها بالنسبة إلى السعوديات مثلت حدثًا فارقًا في حياتهن. فقد كانت تلك الحياة أقرب إلى صندوق كبير لا يمكن تجاوزه أو الخروج منه، فلا تستطيع أي منهن التحرك أو إجراء أي أمور تخص حياتهن إلا بإذن ولي الأمر حتى لو تعلق الأمر بالحصول على الرعاية الصحية. فذلك نظام الولاية «ولاية الرجل على المرأة» الذي فرضه القانون،فيتحتم عليها أخذ تصريح من ولي أمرها إذا أرادت السفر أو الزواج أو الدراسة في الجامعة أو غيرها من الأمور التي تمس حياتها.
وحتى إذا حاولت أي منهن الإفلات من تلك الوصاية عبر الزواج تتفاجأ بأن الرجل الذي تزوجته لا يختلف كثيرًا عن أبيها أو أخيها، فتبدأ معه مرحلة جديدة من الوصاية، وربما تعاني فيها من الإساءة والعنف.
في ظل هذه الأوضاع، اتخذت المملكة مؤخرًا عددًا من القرارات الجريئة أنصفت فيها المرأة وخففت من خلالها من سيطرة الرجل عليها.فألغت قضايا ما يعرف بـ «بيت الطاعة»، وأوقفت بذلك العمل بالأحكام القاضية بإجبار الزوجة على العودة إلى بيت زوجها.
واستكمالًا لتلك الخطوة سمحت للمرأة بالطلاق في حالة كرهها لزوجها. فقد كان كره المرأة لزوجها سببًا غير كافٍ لطلب الطلاق ولا يعتمده القضاء، وبالتالي كانت مُرغمة على الرجوع إلى البيت والبقاء رهينة للرجل. أما الآن، فتغير الوضع وأصبح كره الزوج سببًا كافيًا للطلاق بدلًا من الخلع الذي يتطلب منها تنازلًا ماديًا. وبهذه الخطوة سبقت المملكة غالبية الدول العربية التي يُطبق فيها «بيت الطاعة» على غرار مصر ولبنان والأردن والعراق ومختلف دول الخليج.
مازال الطريق طويلًا
بالرغم من هذا السبق، فالطريق مازال طويلًا أمام المملكة كي تلحق بنظيراتها من الدول العربية أو الخليجية فيما يخص قضايا المرأة. ففي دولة مثل سلطنة عمان (على سبيل المثال)،تمتعت المرأة بالحقوق والحريات النسبية، فعاشت حياة طبيعية. لا مضايقات اجتماعية أو أسرية، وإذا تعلق الأمر بحقها في التعليم، أو في خياراتها في الدراسة والعمل والسفر، فلها الحرية في رسم مستقبلها دون قيود أو أصفاد صلبة.
وإذا كانت المملكة قد سلكت أولى خطواتها في الطريق نحو تمكين المرأة بالوظائف الأمنية، فالسلطنة قد سبقتها في ذلك بما يقترب من نصف قرن. إذ كان جهاز الشرطة أول المؤسسات الرسمية التي دخلتها المرأة العمانية للعمل، وذلك في بداية السبعينيات وتحديدًا عام 1972. واستمرت المسيرة إلى أن أصبحت العمانيات اليوم قائدات في الجيش، ووزيرات وبرلمانيات وقاضيات.
لم يتوقف الأمر بالطبع عند حد الوظائف الأمنية، فامتد إلى كل جوانب الحياة، وفتحت السلطنة أمام نسائها باب المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص لتكوّنها وتعلمها وتستعين بها في مجال القوى العاملة.
وبينما تفوقت السلطنة على المملكة فيما يخص الحقوق التي منحتها المرأة، فالأمر لم يختلف كثيرًا في بقية دول الخليج. إذ مكنتها الكويت من حقوقها السياسية كاملة ووصلت إلى منصب وزيرة منذ عام 2005. كما مكنتها الإمارات أيضًا من العمل كسفيرة ووزيرة، ومنحتها الحق في اقتحام مجالات عمل ظلت لعقود طويلة حكرًا على الرجال، مثل القضاء والنيابة العامة والطيران المدني والعسكري.
وفي البحرين أيضًا نجدها تملك حق المشاركة السياسية، سواء في البرلمان أو الوزارات أو الجيش، وحق السفر والمشاركة في المؤتمرات دون أي قيد، هذا بالطبع إلى جانب حقها في قيادة السيارة، وغيرها من الحقوق التي حرمت منها المرأة السعودية لعقود طويلة.
إصلاح حقيقي أم توظيف سياسي؟
لا تعني تلك الحقوق والحريات بالطبع أن حياة المرأة في دول الخليج وردية، وأن السعودية وحدها هي من تسلبها حقوقها. فهناك الكثير من الممارسات السلبية في دول التعاون تجاه المرأة، سواء في السر أو العلن، والانتقادات الدولية كثيرة في هذا المسار، إلا أن الأمر إجمالًا يصب في غير صالح المملكة.
صحيح أن هذا أمر منطقي وغير مستغرب في ظل الطابع المحافظ للمملكة وكونها آخر دولة في الخليج تتجه نحو التغيير. (فهي لم تبدأ خطواتها الجريئة في الإصلاح إلا مؤخرًا، وخاصة مع وصول ولي العهد «محمد بن سلمان» ووضع رؤيته 2030). إلا أن الأمر في النهاية يتوقف على إذا ما كانت المملكة تسعى إلى إصلاحات حقيقية تغير بها من واقع المرأة السعودية أم أنها تجري تغييرات شكلية تهدف من ورائها لمصالح سياسية.
يمكن الجزم في هذا السياق بأن تلك الخطوات الإصلاحية -حتى وإن كانت تنبع من رغبة المملكة تحت إشراف ولي عهدها «ابن سلمان» في التحديث والاستجابة لذلك الصوت النسائي الذي دائمًا ما طالب بالتغيير- لا تخلو من حسابات سياسية. فولي العهد بتلك الإصلاحات يحاول توظيف القضية سياسيًا.
فعلى المستوى الداخلي، ولي العهد شأنه في ذلك شأن مختلف القادة السياسيين الذي يستهدفون نيل الشرعية والتأييد عبر كسب قطاعاتٍ من المجتمع لصفها، بمنحها المزيد من الامتيازات والحقوق. وعلى المستوى الخارجي يُقدم نفسه وجهًا مغايرًا ، أكثر قدرة على التعاطي مع مطالب المجتمع، وتحسين صورة السعودية خارجيًا. وهو في ذلك يستهدف تقديم أوراق اعتماده أمام المجتمع الدولي بهدف تثبيت دعائم حكمه.
وبالفعل بدأت تلك الإصلاحات تؤتي ثمارها في اعتماد ولي العهد كرائد للإصلاح، وتحسين صورة المملكة خارجيًا، وذلك بعد عقود من الانتقادات الدولية لتلك التقاليد «البالية» وحرمان المرأة من حقوقها «الأساسية». فقد أثارت تلك القرارات الإصلاحية موجة من الترحيب في الولايات المتحدة والأوساط الأوروبية، انعكست في موقف الخارجية الأمريكية المرحب بها، والتداول الإعلامي الإيجابي في الصحف ذات التأثير، مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست». وكل ذلك دفع في اتجاه تعزيز موقف الجهات والشخصيات المؤيدة للمملكة داخل أروقة صنع القرار الغربية.
كما ظهر هذا التحسن جليًا مع زيارة ولي العهد إلى المملكة المتحدة في 7 مارس/أذار الجاري. فبالرغم من الحملات التي أطلقتها منظمات حقوقية بريطانية لإلغاء تلك الزيارة، أصرّت حكومة «تيريزا ماي» على استقبال «ابن سلمان» الذي أصبح في أدبياتها رائد الإصلاح في المملكة. ولم تكتفِ بذلك، بل دشّنت مع الإعلان عن الزيارة ما يشبه حملة لتلميع صورته، تولى تلك الحملة وزير خارجيتها «بوريس جونسون».
ففي مقال له في صحيفة «التايمز»،أشاد «جونسون» بما سمّاه «الإصلاح الحقيقي في غضون بضعة أشهر»، ووضّح أن ولي العهد «جدير بالدعم لوضعه نهاية للتمييز ضد المرأة على أساس النوع الاجتماعي». كما وجّه حديثه إلى رافضي الزيارة بالقول: «إذا كنت تميل لتجاهل هذه التطورات، فإنني أقول بكل احترام إنك ترتكب خطأ كبيرًا».
هذا بالطبع ليس دليلًا قاطعًا على نجاح عملية التوظيف السياسي للمرأة بالمملكة، إذ إن بريطانيا قد تهدف من وراء تلك الحملة إلى تحقيق مصالح سياسية واقتصادية، إلا أن ذلك لا ينفي حدوث طفرة في صورة المملكة وولي عهدها لدى الغرب. وذلك باستثناء المنظمات الحقوقية أمثال «هيومن رايتس ووتش».فمازالت تؤكد أن مثل تلك الإصلاحات لا تكرس صورة «ابن سلمان» كرجل إصلاحي في ظل انتهاكات المملكة في اليمن وإزاء معارضيها وأقلياتها.
الدين أيضًا يمكن توظيفه
أخيرًا، وبصرف النظر عن نتائج توظيف المرأة سياسيًا بالمملكة، فالواضح أن الأمر لم يقتصر عليها، بل نال المؤسسات الدينية أيضًا. فبين الحين والآخر ومع كل قرار جديد يخص المرأة أو المجتمع السعودي بصفة عامة تخرج تلك المؤسسات بفتاوى جديدة، تؤيد بها تلك الخطوات وتُناقض بها فتاواها وأحكامها الدينية سابقًا.
فاليوم يجيز المفتي العام للمملكة «عبد العزيز آل الشيخ» سماع أغاني «الجاز»، وينفي أن تكون محرمة. وبالفعل يتم تنظيم مهرجان الجاز الأول «غروفز» في المملكة. ويبدو الأمر كما لو كانت المملكة مدينة «نيو أورليانز» في الولايات المتحدة (مسقط رأس موسيقى الجاز).
وقبل ذلك يخرج الشيخ «عبد الله المطلق»، عضو «هيئة كبار العلماء»، بفتوى تجيز للمرأة عدم ارتداء العباءة في الأماكن العامة، وذلك بعد سنوات من «التضييق» على المرأة ومعاقبتها حال عدم الالتزام بالعباءة، كما حدث في 2016 حينما احتجزت امرأة لخلعها العباءة في شارع رئيسي بالرياض.
وقبل هذا وذاك تبارك «هيئة كبار العلماء» قرار المملكة بالسماح للمرأة بقيادة السيارة وتدعمه في تناقض تام لسيل الفتاوى السابقة المؤكدة أن قيادة المرأة أمر مخالف للشريعة، ويجلب الكثير من المفاسد. فهل تتغير الأحكام الدينية بمرور الوقت؟
هكذا يبدو الأمر كما لو كانت تلك المؤسسات الدينية ألعوبة أو أداة سياسية في يد الملك وولي العهد، يتم توجيهها طبقًا للرغبات. فحينما تريد القيادة السياسية توجيه المجتمع في اتجاه معين بصرف النظر عن إذا ما كان إصلاحيًا أم لا، يتم اللجوء إلى تلك المؤسسات لتخرج بفتاوى وأحكام دينية تدعم تلك التوجهات، وتُسخّر الدين في خدمة السياسة ومصالحها.