السعودية و«إسرائيل»: التطبيع الحذر
جاءت رحلة الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلى المنطقة، لتحقيق عدة أهداف أبرزها تنفيذ تعهده بالعمل على تعزيز ما سماه «دمج إسرائيل» في محيطها العربي. وخلال زيارته للدولة العبرية، طلب منه رئيس وزرائها، يائير لابيد، توجيه رسالة إلى الرياض مفادها بأن أيادي الإسرائيليين ممدودة بالسلام.
وفي مؤتمر صحفي مشترك، أعلن لابيد أن «السعودية مهمة لإسرائيل ولاستقرار الشرق الأوسط»، مضيفاً: «نرسل لدول الشرق الأوسط رسائل سلام.. إسرائيل تريد السلام ولن نتراجع قيد أنملة عن أمننا.. كل دولة ترغب في السلام نقول لها أهلًا بكم»، مطالبًا بايدن بالعمل خلال زيارته للمملكة بإبلاغ قادة السعودية وقطر والكويت وعمان والعراق التي ما زالت ترفض تطبيع العلاقات، بأن تل أبيب تنتظر إقامة علاقات معهم.
وزار الرئيس الأمريكي بيت لحم بالضفة الغربية، والتقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من دون أن يلمس الفلسطينيون أي فائدة تقريبًا من زيارته. فتجديد التزامه بحل الدولتين لم يغير من حقيقة جهود الاحتلال لترسيخ وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية بما يقوض فرصة قيام دولة فلسطينية، ومسألة تقديم واشنطن دعمًا ماليًا، أو تقديم الاحتلال تسهيلات في التنقل أو العمل لا يعد سوى مسكنات لا تحل القضية.
وصاحبت زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية حالة من الترقب لخطوات المملكة في طريق التطبيع مع دولة الاحتلال، بسبب التسريبات المقبلة من الإسرائيليين حول هذا الأمر، فهم يتطلعون إلى تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية تحديداً لما تحظى به من نفوذ سياسي وإمكانيات اقتصادية، فضلاً عن مكانتها الرمزية في العالم الإسلامي.
الحليف المحتمل
أظهرت التقارير الصحفية الغربية وجود اتصالات أمنية بين الرياض وتل أبيب، وذكرت مصادر إسرائيلية أن أرفع تواصل من هذا النوع كان زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتنياهو، للمملكة للقاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، لكن الخارجية السعودية سارعت بالطبع إلى نفي وقوع ذلك اللقاء.
في المقابل، صدرت عن المملكة إشارات واضحة على انفتاحها على التقارب مع إسرائيل، فولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قال في حواره مع مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية، إن دولته لا تعتبر إسرائيل عدوًا، بل «حليفًا محتملًا»، وأضاف:
وعلى الرغم من أن المملكة لا ترتبط بعلاقات مع الكيان الصهيوني، لكنها في كانون الثاني/يناير 2020 أرسلت رجل الدين السعودي محمد العيسى إلى بولندا لحضور احتفالات ذكرى المحرقة اليهودية، واستقبلت أشخاصًا يحملون جوازات سفر إسرائيلية للمشاركة في سباق سيارات «رالي داكار» في كانون الثاني/يناير 2021، واستقبلت في يونيو/ حزيران الماضي، المبعوث الخاص لرصد ومكافحة معاداة السامية بوزارة الخارجية الأمريكية، السفيرة ديبورا ليبستادت، التي صرحت بأن السعودية تغيرت ولم تعد تتبنى خطاب كراهية اليهود كما كان في السابق.
بالتوازي، شهدت المناهج الدراسية السعودية تغييرات واسعة شملت إزالة محتويات دينية لا تتماشى مع دعوات الوئام والمودة حيال أتباع الأديان المخالفة للإسلام بخاصة اليهود، ورصد أحدث تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان في السعودية أن الخطاب الديني المعادي لإسرائيل أصبح مهجورًا ونادرًا ما يحدث.
وفي مارس/ آذار 2022، كشفت تقارير إعلامية غربية عن جهود لإنشاء خط إنترنت يربط المملكة بإسرائيل ضمن مشروع «بلو-رامان» الذي يربط فرنسا بالهند بكابلين بحريين، ويتجنب المرور بالمياه المصرية، وتشرف عليه شركتا «جوجل» و«تليكوم إيتاليا». ومن المتوقع أن تعتمد عليه مدينة نيوم السعودية بعد اكتمال المشروع بعد عامين. وصرح وزير الاتصالات الإسرائيلي، يوعز هندل، بأن المشروع سيربط بلدانًا كانت تعد معادية لبعضها حتى وقت قريب.
وتحافظ المملكة على موقف معلن مفاده أن حلًا للقضية الفلسطينية شرط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، طبقًا لمبادرة السلام العربية التي طرحتها الرياض سابقًا وتم إقرارها بالإجماع خلال قمة جامعة الدول العربية التي عقدت في بيروت، عام 2002، لكن هذا الموقف المجمل لا يمنع المملكة من أن تخطو بعض الخطوات أو تُقدم على بعض أشكال التعامل مع تل أبيب في بعض الأحيان، وهذا أمر يخضع لحسابات الربح والخسارة، فالرياض تحسب حساباتها ولا تريد أن تُقدم على خطوة كُلفتها أكبر من منافعها.
فتح الأجواء
أعلنت هيئة العامة الطيران المدني السعودي، الجمعة، قبل وصول بايدن بساعات، فتح أجواء المملكة أمام كل الناقلات الجوية التي تستوفي متطلبات الهيئة، مما يعني السماح للطيران الإسرائيلي بالتحليق في سماء المملكة.
وأشاد الرئيس الأمريكي بهذا «القرار التاريخي للمملكة العربية السعودية بفتح مجالها الجوي لجميع الطائرات المدنية، بما في ذلك تلك التي تحلق من وإلى إسرائيل»، معتبرًا ذلك خطوة مهمة في سبيل بناء شرق أوسط أكثر تكاملاً واستقرارًا، وأن هذا الإجراء يأتي تتويجًا لجهود استمرت لأشهر طويلة من العمل الدبلوماسي بين واشنطن والرياض، قائلاً: «سأكون اليوم أول رئيس للولايات المتحدة يطير من إسرائيل إلى جدة بالمملكة العربية السعودية.. بينما نحتفل بهذه اللحظة المهمة، يمكن لقرار المملكة العربية السعودية أن يساعد في توليد زخم نحو مزيد من اندماج إسرائيل في المنطقة، بما في ذلك مع المملكة العربية السعودية» مكررًا تعهده ببذل كل ما يستطيع من جهد لدعم هذا الأمر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الخطوة سبقتها عدة خطوات خلال السنوات الماضية مثل السماح للطيران الهندي باستخدام المجال الجوي السعودي للطيران إلى الكيان العبري منذ عام 2018، وفتح الأجواء أمام خطوط الطيران التي تربط بين إسرائيل وكل من البحرين والإمارات منذ عام 2020، وحينها أكدت الرياض أنها ما زالت تدعم قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ولم تغير موقفها.
وبحسب موقع قناة CNN الأمريكية، فإن إدارة بايدن سعت على مدار شهور إلى تمهيد الطريق لاتفاق تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، ورأى الإسرائيليون في قرار السعودية تغييرًا جذريًا في موقفها فيما يخص التحالفات التي عرفتها المنطقة لفترة طويلة ضمن سلسلة من خطوات التقارب الأولية بين الطرفين.
وقد أعلن يائير لابيد أن طائرات إسرائيلية ستسافر إلى المملكة العربية السعودية قبل صدور هذا القرار بيوم واحد. وبعد صدوره، وصفه بأنه نتيجة «طريق طويل من الدبلوماسية المكثفة والسرية مع السعودية والولايات المتحدة»، مبينًا أنه «الخطوة الأولى فقط»، ووعد بالمزيد في طريق تحسين العلاقات.
وكان وزير التعاون الإقليمي في حكومة التغيير الإسرائيلية، عيساوي فريج، طرح الأسبوع الماضي مسألة تمكين الحجاج المسلمين من الوصول إلى مكة بالطيران المباشر من إسرائيل بدلاً من السفر عبر الأردن، ونقلت وسائل إعلام عنه قوله: «أتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي أستطيع فيه ركوب الطائرة من مطار بن جوريون حتى أقوم بواجباتي كمسلم في مكة»، مضيفاً «طرحتُ الموضوع أمام السلطات السعودية وآمل أن يأتي هذا اليوم قريبًا».
وكان فريج، كشف العام الماضي عن وجود اتصالاتٍ مع دول خليجية، بينها السعودية، فيما يتعلق بالملف الإيراني، مؤكدًا أن ذلك الملف يعد مسألة عالمية لا تخص دولة بعينها.
وذكر موقع أكسيوس الإخباري الأمريكي أن القرار السعودي الأخير يتيح لشركات الطيران الإسرائيلية استخدام مجالها الجوي للرحلات الجوية المتجهة شرقًا إلى الهند والصين ، فضلاً عن السماح برحلات طيران مستأجرة مباشرة من إسرائيل إلى المملكة العربية السعودية للحجاج المسلمين الذين يرغبون في زيارة مكة والمدينة ، كما ذكرت أكسيوس أنه كجزء من الصفقة، ستتقيد المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة بالتزامات اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية المبرمة عام 1979، ومن أهمها إتاحة حرية الملاحة في مضيق تيران للسفن الإسرائيلية.
وبسبب عدم رغبة المملكة العربية السعودية في وجود المراقبين الدوليين في الجزيرتين، لجأت إلى ترتيبات لتنفيذ ذلك، وتوسطت الولايات المتحدة منذ شهور بشكل سري بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر للتباحث حول وضع مضيق تيران، وكشف بايدن جانبًا من تلك المباحثات في بيان احتفائه بفتح الأجواء السعودية أمام الإسرائيليين السابق ذكره.
ونظرًا لعدم وجود علاقات دبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وعدم إمكانية توقيع اتفاقيات ثنائية رسمية بشكل مباشر بينهما، تم اللجوء إلى استخدام حلول قانونية ودبلوماسية أخرى لمحاولة إبرام صفقة بشكل غير مباشر.
وذكر تقرير آخر لـ«أكسيوس» نُشر الشهر الماضي أن فريقًا مكونًا من دبلوماسيين وخبراء قانون أمريكيين وإسرائيليين وسعوديين ومصريين عملوا على إعداد صياغات معقدة للاتفاقيات والتفاهمات التي ستسمح بالتوقيع على اتفاق حول تيران وصنافير، وإمكانية تنظيم رحلات جوية مباشرة لطيران الشارتر إلى أراضي المملكة لنقل الحجاج المسلمين من الكيان العبري، وفتح الأجواء السعودية أمام إسرائيل، قبل زيارة الرئيس بايدن إلى المنطقة.
تيران وصنافير مدخل للتقارب مع إسرائيل
تقع جزيرتا تيران وصنافير في المنطقة (ج) المحددة في معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. وطبقًا لترتيبات نزع السلاح في سيناء، لم يُسمح للقاهرة بنشر قوات عسكرية في الجزر، وتمركز بهما فقط قوات حفظ سلام دولية أو ما يسمى القوة المتعددة الجنسيات. وفي عام 2016، تنازلت القاهرة للرياض عن الجزيرتين، وبعد أحكام متعارضة للمحاكم المصرية استقر الأمر على تسليمها، ولكن لأن القضية مرتبطة باتفاقية السلام، فإن تغيير وضعهما تطلب موافقة إسرائيل، وذكرت الصحافة الإسرائيلية أن الرياض تعهدت بإبقاء الجزر منزوعة السلاح، والسماح للسفن الإسرائيلية بالمرور عبر المضيق.
وخلال جولة بايدن الحالية، نقلت تقارير إعلامية موافقة إسرائيل على نقل الجزيرتين الاستراتيجيّتَين إلى السعوديّة، بالتزامن مع إعلان تل أبيب رغبتها أن تُشكّل جولة بايدن إشارة انطلاق للعلاقات الدبلوماسيّة مع الرياض، أعلن بايدن من جدة مساء الجمعة/السبت أن القوات الدولية سوف تنسحب من الجزيرتين لاحقًا.
وأشار الخبراء إلى أهمية هذه الصفقة كخطوة نحو التطبيع الرسمي للعلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، اللتين تعدان حليفتان للولايات المتحدة وتجمعهما مخاوف أمنية تتعلق بإيران، لكن وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أكد في المؤتمر الصحفي الذي عقده عقب اختتام فعاليات قمة جدة أن الخطوات التي اتخذتها الرياض مثل فتح أجوائها أمام الملاحة الجوية الإسرائيلية لا يعني أنها ستتخذ خطوات أخرى إضافية في هذا الاتجاه.
ويمثل مضيق تيران أهمية فائقة لإسرائيل فهو معبرها إلى البحر الأحمر، وكان قرار مصر عام 1967 بنشر القوات المسلحة على جزيرتي تيران وصنافير وإغلاق المضيق سببًا لحرب النكسة التي نتج عنها احتلال سيناء، ومنذ هذا الوقت سيطر الإسرائيليون على الجزيرتين إلى عام 1982؛ حيث استبدلت بالقوات الإسرائيلية قوات دولية.
التطبيع العسكري بحجة التصدي لإيران
تحدثت تقارير إعلامية عديدة عن خطة أمريكية لبناء تحالف دفاعي ضد إيران يضم إسرائيل ودول الخليج ومصر والأردن والعراق، لكن هذا الخطة لم تتمخض إلى الآن سوى عن اجتماع شرم الشيخ الذي ضم عددًا من العسكريين من الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر وعددًا من البلدان العربية من بينها السعودية غالبًا، ولم يتم الاتفاق فيه على أكثر من تشكل وحدات إنذار مبكر ضد الهجمات الجوية من الاتجاه الإيراني.
في المقابل، أكد وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، السبت، عدم طرح أي نوع من أنواع التعاون العسكري مع إسرائيل خلال المباحثات، وأبدت أكثر من دولة من الدول المقصودة اعتراضها علنًا على هذا الأمر.
وتدرك الرياض أن مثل هذا التحالف المزعوم يضرها ولا ينفعها، رغم اعتبارها أن التصدي للتهديد الإيراني من أولوياتها، ويعد هذا الملف من الملفات الخلافية بينها وبين الولايات المتحدة بخاصة في ظل إدارة بايدن التي ترى الاكتفاء بالتعامل مع الخطر النووي الإيراني، ولا تدخل في أولوياتها العمل على تقييد البرنامج الصاروخي لطهران وتدخلاتها في المنطقة، وقد ناقش بايدن خلال زيارته المخاوف الأمنية السعودية وسبل التعاون في هذا الأمر، رغم أن الرياض لا تثق في الجانب الأمريكي وما زالت تخشى تقاربه مع إيران في حال نجحت المفاوضات النووية الحالية، وعدم أخذ المخاوف الأمنية للسعودية في الاعتبار كما حدث سابقًا حينما كان بايدن نائبًا للرئيس الأمريكي باراك أوباما، وحينها أبرمت واشنطن الاتفاق النووي مع طهران وأطلقت أياديها في المنطقة.
ولا يعدو الهدف المقصود من وراء فكرة تدشين مشروع تحالف أمني بين دول عربية وإسرائيل، سوى محاولة لـ«دمج إسرائيل في المنطقة» حتى وإن تمت تحت شعار التصدي لإيران، لأنه من غير المنطقي إدخال بغداد على سبيل المثال في تحالف ضد طهران بينما يحظى الإيرانيون بنفوذ في العراق يفوق ما تحظى به الحكومة العراقية ذاتها.