السعودية توسع دائرة الاشتباك باستقطابها المرجع الشيعي
بدأت الحرب في العراق ضد تنظيم الدولة تضع أوزارها، ويسعى الجميع لإيجاد موطئ قدم له داخل البلد المنكوب، والذي تحوّل في السنوات الفائتة لساحة حرب بالوكالة وتصفية للنفوذ بين العديد من القوى. ووسط استمرار هذا الزخم بدأت السعودية تغير نهجها، لتطرق أبواب العراق حيث تتمتع الفصائل السياسية الشيعية بالنفوذ الأكبر، لتُتوَّج المساعي السعودية نهاية الشهر الماضي بزيارة مفاجئة للمرجع الشيعي العراقي، «مقتدى الصدر»، ولقائه بولي العهد السعودي، «محمد بن سلمان».
عراق موحَّد غير طائفي!
استقبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المرجع الشيعي العراقي مقتدى الصدر يوم 30 من يوليو/تموز الماضي،في زيارة لم يعلن عنها مسبقًا، ولم يتم الكشف عن تفاصيل ما دار فيها بين الجانبين، لكن توقيت اللقاء وما يجري في المنطقة يوضح الكثير؛ فالعراق الآن على وشك إنهاءٍ لوجود تنظيم الدولة بعد هزيمته في أهم معاقله بالموصل، وعراق ما بعد داعش سيكون مختلفًا عما قبله، ويسعى الحاكم الجديد للمملكة لبحث إيجاد ذراع سياسية له داخل العراق، لأنه لن يقدر على خلق وكلاء عسكريين له بالداخل.
تولى مقتدى الصدر إعادة إحياء «التيار الصدري» منذ عام 1999، بعد اغتيال عمه قائد التيار، والذي أُنشئ بالأساس لمواجهة نظام «صدام حسين». ومع الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 شكل مقتدى الصدر «جيش المهدي» لمقاومة المحتل، لكنه شكل كذلك ما عُرف بـ «فرق الموت»، والتي استهدفت السنة ثم حدث اصطدام مع حكومة «نوري المالكي» ليخرج من العراق متوجهًا إلى «قم» الإيرانية في 2008 ويعود في 2011 تحت شعارات التغيير، استغلالًا لموجة الربيع العربية.
واستمر الصدر في معارضته للحكومة وآخر موجاتها تظاهرات الساحة الخضراء، حيث مقر البرلمان والحكومة في مايو/آيار 2016، ورفع أنصاره فيها شعارات مناهضة لطهران «إيران برا برا»، ليذهب الصدر في التالي مباشرةً إلى طهران ويعتذر عن هذه الشعارات، وليس هذا فحسب بل فض التظاهرات التي كان يقودها، وهو ما يؤكد أنه لن يقدر على الخروج تمامًا من الفلك الإيراني كما يروج له.
واختارت المملكة التقرب للصدر رغم أنه زعيم اثنين من أبرز فصائل ميليشيا الحشد الشعبي، هما «سرايا السلام»، و«لواء اليوم الموعود»، واتُهم الحشد من قبل المملكة ذاتها بارتكاب جرائم وانتهاكات وأعمال قتل بحق السنة، لكن جاء قرار التقرب من الصدر؛ لأن السعودية أدركت أنه لا بديل عن التعاون مع أحد التيارات الشيعية داخل العراق فهي الحاكمة الآن ومستقبلا، أما السنة فيُنظر إليهم الآن على أنهم متواطئون مع داعش وسيهمشون أكثر من ذي قبل.
وللمفارقة طلبت الحكومة العراقية استبدال السفير السعودي ثامر السبهان لأنه «شخص غير مرغوب فيه» مبكرًا رغم أن التمثيل الدبلوماسي بين البلدين كان مقطوعا لأكثر من 25 عامًا، وحينما عاد في كانون الأول/ديسمبر 2015 لم يلبث كثيرًا ليرحل في أغسطس/آب 2016، وذلك بعد انتقاده المتكرر لميليشيات الحشد الشعبي التي نكلت بالسنة تحت ستار محاربة داعش، وتعرض السبهان إلى محاولات اغتيال أثناء وجوده في العراق من قبل هذه الميليشيات.
وفي رسالة إلى إيران والمكونات الشيعية بالداخل استقبل السبهان والذي يشغل الآن منصب وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي مقتدى الصدر بالمطار، ولمحاولة إزالة الشبهات عن المملكة بأنها تتعاون مع قيادات شيعية مقربة من إيران وزعماء ميليشيات كما تتهم قطر، طالب السبهان بضرورة التفريق بين المذهب الشيعي الأصيل وبين مذهب الخميني المتطرف الجديد، وقال «التشدد السني والتشدد الشيعي لا يبنيان الأوطان والمجتمعات، لغة الاعتدال والتسامح والحوار هي ما يجب أن تسود لتحقيق المصالح العليا».
وحاولت المملكة التقرب للحكومة العراقية قبل عودة التمثيل الدبلوماسي لكنها فشلت في هذه الخطوة بتحريض من إيران على طرد السبهان، وهو ما حدث بالفعل بذريعة تدخل سفيرها في الشأن العراقي، حيث تخشى طهران من تهديد الرياض لمكاسبها في بغداد، والآن تحاول المملكة التقرب للصدر الذي يحاول إظهار نفسه بأنه خرج من فلك إيران ويسعى لإقامة عراق موحد غير طائفي.
أي مهمة على الصدر أن يضطلع بها؟
تحاول السعودية جاهدة تحقيق أي اختراق في العراق، فبعد طرد سفيرها السبهان من بغداد أجرى وزير خارجيتها عادل الجبير في فبراير/ شباط الماضي، زيارة رسمية إلى العراق هي الأولى من نوعها منذ نحو 14 عامًا، قال إنها جاءت لإعادة العلاقات الثنائية إلى مسارها الصحيح، وعلى وقع الأزمة الخليجية حاول العراق الاستفادة منها لذا أجرى رئيس وزرائها حيدر العبادي في 19 يونيو/حزيران الماضي زيارة إلى السعودية والكويت مبديًا استعداده للوساطة في الأزمة لكن لن يقبل أحد بوساطاته لعلاقته القوية مع إيران.
تعلم الرياض أنها لن تستطيع السيطرة على حكومة العراق، لكنها تريد أن يكون لها ذراع سياسية في الداخل، قادر على مراعاة مصالحها أو على الأقل التقليل من حدة العداء لها، نتيجةً لوجود إيران، وإلى جانب رغبة السعودية في مزاحمة طهران سياسيًا داخل العراق فإنها تريد الترويج لخطاب شيعي عربي بعيدٍ عن إيران، وهو ما قد تجده في مدرسة الصدر، ويظهر ذلك في تعليق السبهان على الزيارة.
وبالإضافة إلى ذلك قد تستعين الرياض بالصدر في مواجهة التمرد المتزايد للشيعة في المنطقة الشرقية وخاصة القطيف، حيث تجري أعمال إرهابية واستهدافٌ لرجال الأمن بشكل متزايد يكاد يكون يوميًا، وخاصة بعد إعدام الداعية الشيعي نمر باقر النمر، وتوضح مصادر عراقية أن الصدر يحظى هناك بشعبية جيدة، ويوجد مقلدون لحوزة النجف التي يُعتبر محمد الصدر، والد مقتدى، المؤسس والمنظر الأول لها.
أين سُنة العراق من هكذا تواصل؟
رغم وجود تيارات سنية داخل العراق إلا أن ولي العهد السعودي أراد التقرب من أحد التيارات الشيعية، من ناحية السنة الآن في وضع سيئ على خلفية الهجوم عليهم بسبب داعش بجانب ضعف نفوذهم السياسي، وحتى التيار السني هناك إنما على صلات قوية بقطر وتركيا، وبالتالي لن تقبل الرياض بتعاون وكلائها مع هذين البلدين في ظل الأزمة الحالية والتي لا تتجه إلى الحل أكثر ما تتجه إلى الجمود.
وفي إطار دعم قطر لتيارات سنية داخل العراق، نظمت مؤتمرا للمعارضة في سبتمبر/ أيلول 2015، أثيرت معلومات حول مشاركة رئيس البرلمان العراقي «سليم الجبوري» فيه وقيادات من حزب البعث المنحل، رغم مهاجمة الحكومة العراقية للمؤتمر واعتباره دعمًا للطائفية. كذلك عملت تركيا على تشكيل قوات من السنة داخل العراق لتكون ذراعها العسكرية بالداخل.
وبالفعل أنشأت تركيا قوات «حرس نينوى» ودربتها في معسكر بعشيقة قرب الموصل وتضم ضباطًا ومتطوعين، ويرأسها «أثيل النجيفي» محافظ نينوى السابق والذي صدرت أوامر لاعتقاله بتهمة التخابر مع تركيا، و كان السفير السبهان قد حاول التقرب من العشائر السنية بالعراق في وقتٍ سابق لكن إيران وحلفاءها بالعراق أجهضوا ذلك مبكرًا، وبالتالي ليس أمام السعودية إلا الدخول عبر بوابة التيارات الشيعية.
وستتقرب السعودية بشكل أكبر من كيانات شيعية أخرى بخلاف التيار الصدري، استغلالًا لما يمر به العراق الآن وحالات الخلاف؛ فسبق أن أعلن «عمار الحكيم» الشهر الماضي تخليه عن قيادة «المجلس الأعلى الإسلامي» أكبر الكيانات السياسية الشيعية وإنشائه «تيار الحكمة الوطني» في خطوة وصفت بالانفكاك عن إيران، وبالفعل هناك أنباء عن توجيه دعوة للحكيم لزيارة الرياض مثل الصدر.