السعودية تكتفي بهذا القدر من الحزم والعزم
تذكر.. تذكر.. الخامس من نوفمبر، ليلة السكاكين الطويلة، أو كما قال في وصفها وزير الرياضة المُقال، تركي آل الشيخ: «ليلة الأحد.. لن ينجو أحد». إبراهيم العساف، وزير مالية آل سعود، وعلى مدار ثلاثة ملوك، يودع السجن، سجن الأمراء، الريتز كارلتون، متهمًا بتلقي رشاوى من رجل الأعمال العجوز بكر بن لادن، نظير حصول الأخير على عقد توسعة الحرم المكي الأخيرة، شملت القائمة عديدًا من الملوك ورجال الأعمال، أبرزهم الوليد بن طلال، وبكر بن لادن، ومحمد العمودي، وصالح كامل.
لن تنسى الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية، ولا السعوديون أنفسهم تلك الليلة، التي بدا فيها الأمير الشاب محمد بن سلمان عازمًا على تأديب الجميع وقيادة السفينة بمفرده، لحظة بدا فيها وكأنه الحاكم الأول والفعلي للمملكة برغم وجود أبيه الملك سلمان، بدت الإدارة الجديدة في لحظة أورجازم/غضب، كان على الجميع أن يحترمها، والجميع بالفعل احترمها، وتراجع خطوة للوراء. لكن الإدارة السعودية الفتية تمادت في تلك اللحظة ولم تنتقل منها سريعًا لما بعدها، حيث كان يُنتظر أن يرسخ الأمر ابن سلمان سياسة هادئة، تزين الصورة التي أنفق الأمير ملايين الدولارات لرسمها، كأمير شاب على عكس من سبقوه من الأعمام، ثوري عازمٌ على حرب الفساد بادئًا بالأقربين، وليبرالي يشيد المدن الاقتصادية ويفتح السوق السعودية لمرحلة ما بعد النفط، وإصلاحي يبيحُ ما حرمه السابقون من غناء وحفلات، وانحياز لحق المرأة في القيادة، لكن تلك اللحظة التاريخية لم تصمد طويلًا.
سرعان ما خرج قطار الأمير عن مساره، وكان العالم بدأ يتأفف من نزاع الحلفاء في الخليج، وكانت حرب اليمن قد وصلت لذروة المأساة الإنسانية، والسعودية الضالع الأول في مأساتها، كانت أصوات تتعالى بين لحظة وأخرى تقابلها أبواقٌ مدفوعة، ولعلنا جميعًا نذكر المقالة التي أفردها توماس فريدمان للمديح في خطة ولي العهد لإعادة هندسة المجتمع السعودي على قواعد الليبرالية والانفتاح، وجاءت حادثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي لتصدم قطار ابن سلمان، وتهدم تلك الصورة التي استثمر فيها خلال السنوات الماضية.
تلك اللحظة التي بدأ فيها الملك الوالد يظهر في الصورة من جديد، متخذًا بعض الخطوات التي من شأنها أن تخفف من حدة التوترات حول المملكة، كأن يتحدث هاتفيًا عدة مرات مع الرئيس التركي آملًا الحد من آثار الجريمة، أرسل دعوةً خطية لأمير قطر لحضور القمة الخليجية الأخيرة، وأخّر عددًا من المسؤولين عن أزمة خاشقجي، ولا يزال يؤخر الوجوه المرتبطة بحقبة ولي العهد، هو ما فهمناه من تغييرات اليوم.
اليوم 27 ديسمبر/كانون الأول أعلن الملك سلمان بن عبد العزيز بعض الترتيبات في مجلس وزراء البلاد تحت قيادته، وأعفى عددًا من الوزراء من بينهم وزير الخارجية عادل الجبير، ووزير الرياضة تركي آل الشيخ، وأبرز من تم تعيينهم:
1. إبراهيم العساف بديلاً لعادل الجبير
العسّاف صاحب الـ 69 عامًا، أحد نزلاء الريتز، المتهم بالفساد قبل الإفراج عنه بعد نحو شهر من اعتقاله، والذي عمل وزيرًا للمالية في المملكة بين عامي 1996 و 2016، قبل أن يعفيه الملك سلمان من منصبه إلى منصب وزير دولة، وهي مرتبة أقل، يكون فيها عضوًا في مجلس الوزراء له حق التصويت داخله، لكن بدون وزارة.
وظل وزير دولة إلى اليوم، برغم اعتقاله بتهم فساد، قالت المملكة إنها أفرجت عن بعض من اعتقلتهم بعدما أجرت معهم تسوية مالية، ثم في لحظة مفاجئة جاء قرار اليوم بتسميته وزيرًا للخارجية، وهي الوزارة التي تاريخيًا لم تخرج من بيت الملك، إلا بين عامي 1960 و 62، قبل أن يقرر الملك سلمان الاستعانة بالجبير وزيرًا للخارجية أبريل/ نيسان 2015 مع تصعيد ابنه وليًا لولي العهد، أول تصعيد لابن سلمان ضمن سلالة الحكم.
يُعد إبراهيم وجهًا من دولاب الدولة القديمة، عمل وزيرًا للمالية لثلاثة ملوك، هم على التوالي فهد وعبد الله وسلمان، قبل أن يعفيه الأخير، وها هو يعيده على أهم وزارات الحكومة، وزارة الخارجية، بعدما فقدت احترام الجميع، وفشلت في تبييض وجه المملكة الذي صار مستقبحًا.
2. تركي الشبانة بديلًا لعواد العواد
من أهم التغييرات التي جاءت في الأوامر الملكية اليوم، تلك التي طالت وزارة الإعلام. عواد العواد، سفير بلاده السابق لدى برلين، ووزير الثقافة والإعلام، تزامن صعوده مع صعود ابن سلمان وليًا لولي العهد في أبريل/ نيسان 2015، والإطاحة به ربما ترجع للفشل الإعلامي في التغطية على جريمة خاشقجي والحرب الإعلامية الدائرة على المملكة من كبريات الصحف العالمية، واشنطن بوست ونيويورك تايمز، إلى جانب حرب اليمن والتغطية الإعلامية السعودية الهزيلة لها.
تركي الشبانة شغل قبل تعيينه اليوم وزيرًا منصب الرئيس التنفيذي لقطاع التلفزيون في مجموعة روتانا، واختير الشهر الجاري ضمن قائمة تضم 500 شخصية مؤثرة في الإعلام داخل بلدانها وحول العالم.
3. عبد العزيز بن تركي بن فيصل آل سعود بديلًا لـ تركي آل الشيخ
عُرف تركي آل الشيخ إلى جانب المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطان كأكثر مستشاري ابن سلمان قربًا منه، عُرفا كوجهين لنظام ابن سلمان، وارتبط ذكرهما بالأعمال غير الأخلاقية التي لا ينبغي للأمراء التورط فيها. افتُضح أمر الأخير بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وعُرف فيما بعد أنه تطاول على أمراء الريتز، ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إبان توقيفه في المملكة نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
تركي الشيخ الذي عُرف في الأوساط المصرية المعارضة بـ «شوال الرز» لكثرة الأموال التي أنفقها في محاولة منه للسيطرة على قطاع الرياضة في مصر، كان أحد الأوجه الإعلامية لحصار قطر وعزلها عن محيطها الخليجي، ومثل التصعيد ضد قطر لحظة صعوده داخل المملكة، حتى أن النظام المصري بات يعامله كمبعوث رسمي للنظام السعودي في مصر، ويُعتقد أن عزله اليوم عن وزارة الرياضة التي كانت سلمًا له لاعتلاء عرش الرياضة العربية، ربما هو تراجع سعودي عن الخطاب الحاد والإقصائي في الفترة القادمة.
استُبدل تركي الشيخ بعبد العزيز بن تركي الفيصل، الرياضي ورجل الأعمال السعودي، وابن تركي الفيصل الرئيس التاريخي للاستخبارات السعودية (1979 – 2001)، وسفير السعودية لدى واشنطن (2005 – 2007) قبل أن يستبدله الملك الراحل عبد الله بعادل الجبير، الوزير المقال.
كانت حركة اليوم في مجلس الوزراء محدودة، وشملت إلى جانب ما ذُكر تغيير قائد الحرس الوطني خالد بن عبد العزيز بن عيّاف بالأمير عبد الله بن بندر بن عبد العزيز آل سعود، وهو المنصب الذي شغله متعب بن عبد الله قبل الإطاحة به، لكنها تبعث برسالة أن المملكة على وشك تغيير خطابها، والخفض من التوتر الذي يهدد صورتها العالمية وقيادتها للمنطقة العربية.