السعودية بين هيئتين: من الأمر بالمعروف إلى الترفيه!
في القرن الماضي، في هذه الصحراء الجرداء مترامية الأطراف مهد الديانة الإسلامية، ظهر «محمد بن عبد الوهاب» شيخ التيار السني الوهابي. وقد رأى ما وجده من فساد للأخلاق وازدراء للدين، فألزم نفسه ببدء حملة تصحيحية للدين الإسلامي.
كيف مهدت دعوة «محمد بن عبد الوهاب» لـ«هيئة الأمر بالمعروف»؟
الحملة التي دشنها الشيخ في جزيرة العرب على من تصوّف في الدين أو من غاب عنه، لم يكن لديها سوى التكفير لمن خرج عن منهجه، فلم يبرئ المتصوف تصوفه من التكفير أو مهمل الدين شرد عنه.
طورد «ابن عبد الوهاب» في الجزيرة، فضاقت عليه بما رحبت من رمالها حتى وجد ضالته في «محمد بن سعود» مؤسس السعودية القديمة. وقد أضاف حينها «ابن عبد الوهاب» بريق الدين لسيف «ابن سعود» لعدوٍ قد استحسنا عداوته. الخلافة العثمانية، أو كما أسماها أتباع «محمد عبد الوهاب» الإمبراطورية العثمانية رفضًا لتسميتها بالخلافة.
وقد استقوت حينها شوكة المحمدين، فبدأ «ابن عبد الوهاب» بسنّ شرعيته على أعتاب مكة بهدم المقامات وإزالة مظاهر الاحتفاء بقبر النبي، وبُسط نفوذ «آل سعود» على نجد ومنطقة الحجاز. وبعد سجال سياسي وديني مع «محمد علي» حاكم مصر هُزمت هذه الدولة وتلك الدعوة. لكنها ما لبثت أن عادت أوائل القرن العشرين لإنشاء الدولة الجديدة في تحالف بين «آل سعود» وأحفاد «آل الشيخ»، وكانت تلك اللبنة الأولى لتحالف القيادة الدينية مع السياسية التي استمرت حتى الآن.
الصورة التي تشكلت عليها المملكة في السطوة السياسية لـ«آل سعود» والدينية لـ«آل الشيخ» في العصر الحديث للمملكة، تجلت فيها صورة الحاكم سياسيًا كملك ودينيًا كشيخ. تولى «آل الشيخ» مظاهر الدين في الدولة وكان أحد أبوابها منظمة سياسية أُطلق عليها «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، خُولت هذه الهيئة التابعة بشكل مباشر لمجلس الوزراء بإدارة القبضة الدينية في البلاد، فكان يسير رجل الدين خلفه الضابط ينفذ أوامره.
الهيئة ذائعة الصيت، التي تتابع على رئاستها أبناء «آل الشيخ» ممن انحدروا من نسل «محمد بن عبد الوهاب»، ساهمت بشكل كبير في محاربة المفاسد وإضفاء الطابع الديني لدولة احتضنت بين أضلاعها أحد أهم معالم المسلمين. حاربت تلك الهيئة «التطرف» لكن في اتجاه واحد، فكل ما من شأنه التقليل من الطابع الإسلامي الاجتماعي كانت له بالمرصاد إلى أقصى درجة.
ساهم النفوذ الذي تمتعت به «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في إبراز أعضائها تصرفاتهم غير اللائقة، التي جلبت السخط الشعبي على الهيئة. فكان من أبرز الأحداث التي جلبت السخط عليها وفاة شاب وصديقه متأثرين بجروحهما، إثر مطاردة الهيئة لسيارتهما داخل مدينة الرياض. أيضًا ما عرف إعلاميًا بـ«فتاة النخيل» التي استوقفها رجال الهيئة إلى أن تطور الموقف بسحل الفتاة في شوارع المدينة، والكثير من الأحداث التي جعلت منها مصدرًا للخوف.
وحادثة المواطن البريطاني وزوجته السعودية، عندما اعتدى عليهما رجال الهيئة، وهو ما اضطر الحكومة السعودية لتقديم اعتذار رسمي لهما بعد تدخل الحكومة البريطانية لحماية مواطنها.
قد لا تثير استغرابك هذه الأحداث، لكن أن يستوقفك أحد رجال الهيئة مترجلًا من سيارته يطلب منك غلق بعض الأزرار من قميصك، أو أن قصة شعرك لا تروقه فيصحبك لقص شعرك، أو أن يطلب منك هاتفك النقال ليرى ما قد تخفيه؛ حينها ستعلم قدر الحنق الذي ولدته ممارسات الهيئة.
تجاوزات الهيئة شرعت في تجسيد صورة عن أفرادها في مخيلة العامة تثير مخاوفهم عند رؤية أفرادها، هذه التجاوزات أفقدتها الكثير من قيمة أعمالها، على الجانب الآخر ساعدت الهيئة في تحجيم الكثير من المفاسد وساعدت الكثير من الأفراد قليلي الحيلة.
الهيئة في ظل 2030!
جيل الحكام السابق في المملكة ذو الفطرة الدينية كانت استراتيجيتهم في تلك المواقف هي تغيير رؤساء تلك الهيئة أو تقليص شيء من تلك السطوة للحفاظ على توازن الحرية الاجتماعية. مقابل الصبغة الدينية التي أضفوها على الدولة، لم يكن يتطرق علماء الدين إلى نقد السلطان في تصرفاته. أما الآن مع القيادة الجديدة الشابة للمملكة ذات الرداء المنفتح على علمنة الدولة، لم تجد تلك الهيئة موطئ قدم في رؤية 2030.
مدن المملكة التي كان يسكنها الهدوء في الليل تغيرت عاداتها منذ تدشين الهيئة لأعمالها. لم تعد تهدأ الرياض والدمام وجدة، أصبح لأنغام العازف العالمي «ياني» القدرة على أن تختلط بهواء تلك المدن في 6 حفلات له حتى الآن. أصبح بمقدور الفنانات أن يقفن على خشبة المسرح أمام جماهيرهن، وأصبحت تلك المدن كالسجادة الحمراء التي يصعد إليها الفنانون من شتى البقاع.
تتجه تلك الهيئة الآن إلى الانحدار وراء الستار لتصعد إلى الأضواء هيئة جديدة بطابع هو الأقصى على الطرف الآخر. حفلات غنائية ومهرجانات ترسم إيقاعاتها «هيئة الترفيه».
المملكة الجديدة أرادت أن تجدد دماء ثقافتها في كل شيء تقريبًا، في تحولات على النقيض في شتى المجالات، فهل سيحدث هذا فرقًا جديًا يرجوه المواطنون؟
بين اضمحلال دور «هيئة الأمر بالمعروف» وسطوع دور «هيئة الترفيه»، تتمزق الثقافة الاجتماعية المحافظة التي طالما بناها أبناء «آل الشيخ» على مدى الأربعة العقود الماضية. فالمجتمع المنفتح الذي يرجوه الحاكم الجديد بصدد مواجهة حتمية مع التيار المحافظ الديني على أرض تشبعت من النداء الديني في مدارسها وشوارعها وأسواقها ومساجدها، فتحولت حي على الجهاد إلى حي على الترفيه!
يسعى مبتكرو رؤية 2030 في تلك النقطة لكسب شرعية للحكم من الترفيه لا الدين، فالسخط الذي شيدت أطلاله «هيئة الأمر بالمعروف» بسط الفراش أمامهم لكسب النقاط أمام هذا السخط الاجتماعي الداخلي والتحفظ الدولي على تلك الهيئة، في أن تكسب الدولة الجديدة بعض النقاط في جولاتها.
على الجانب الآخر وقد أصبحت حياة المواطن الفارهة بصدد التقليص، وأصبح أمام الكثير من القرارات التي من شأنها أن تؤرق نومه، فتقديم بعض الترفيه الداخلي وتقليص القبضة الدينية من شأنه التخفيف من سخط المواطن على حكومته السياسية، وإضفاء بعض الأمل على رؤية 2030 وما تحويه في جعبتها.
ما هو ترفيه قد يكون تسييسًا!
المملكة التي طالما أوعز ملوكها حكمهم المستند إلى القرآن والسنة في سن قوانين الدولة منذ تأسيسها، فكان الغناء والاختلاط قد أصبح ضمنيًا من باب المحرمات في مبادئ الدولة.
«هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي تلقفت الضوء الأخضر في مسيرتها على مدى العقود الماضية لتغرس كل ما هو ديني وتنزع ما هو عكس ذلك من عقول العامة. هي اليوم تقف أمام الضوء الأحمر مكتوفة الأيدي، وقد وجه الحاكم أضواءه الخُضر إلى منافستها الجديدة «هيئة الترفيه».
«هيئة الترفيه» حسب ما ذكرت: «تقوم على تنظيم وتنمية قطاع الترفيه في المملكة وتوفير الخيارات والفرص الترفيهية لكل شرائح المجتمع في كل مناطق المملكة، لإثراء الحياة ورسم البهجة، ولتقوم على تحفيز دور القطاع الخاص في بناء وتنمية نشاطات الترفيه».
في مراجعة بسيطة لأخبار فعاليات تلك الهيئة نجد أن ما تتسم به أغلب تلك الفعاليات هي الحفلات الموسيقية والطرب.
الموسيقى والطرب التي طالما حاربتها نظيرتها «هيئة الأمر بالمعروف»، تلك الثقافة التي غرستها الثانية في مجتمعها على الطاعة والتقرب إلى الله والبعد عن ملاهي الحياة أوجدت شيئًا من السخط المجتمعي لفعاليات «هيئة الترفيه»، فقد يصعد بين الحين والآخر بعض الوسوم المناهضة لتلك الفعاليات. فصراع الهيئتين في عقل المواطن البعيد عن الوسطية، أوجد مشاهد الثقافة المتناقضة في المجتمع.
يظهر في المقطع نموذج من الثقافة التي غرست بذورها «هيئة الأمر بالمعروف» في أحد «المطاوعة» -اسم يطلق على ذوي اللحى في السعودية- وهو يُكسر إحدى الآلات الموسيقية، على المقابل نجد أحد نماذج الثقافة التي غرستها «هيئة الترفيه» في المطربة السعودية التي هربت من وطنها لمحاولتها الغناء حين كانت سطوة «هيئة الأمر بالمعروف»، وقد اعتلت المسارح وطرزت ثوبها الجديد بالعلم السعودي.
حرب لا وسطية بين الهيئتين المتناقضتين، حرب بين هيئتين لم تكمل إحداهما تعريفها وغايتها، فأين كانت هيئة الأمر المعروف من حكم السلطان وغضها البصر عن أفعال الحاكم أو ذوي الحظوة في الدولة. وهل اقتصر الترفيه يومًا ما على حفلات غنائية لإحياء أركان المدينة الإسمنتية ومحاربة الصبغة الدينية، لدولة صنعت من سِمتها الأساسية بين الجميع توقير ذوي اللحى وإضفاء الطابع الإسلامي على حياتها؟
ولكن الوجه السياسي لدحر طائفة المحافظين ذات السطوة الدينية التي قد تسحب شرعية الحاكم الدينية في دولة محافظة أقيمت على تحالف سياسي ديني في حال مواجهة مباشرة، أو تحالف مع تيار مضاد للرؤية الجديدة، تطلبت قدرًا من التخفي وراء هيئة ترفيهية تُعنى هي بمحاربة هيئة دينية بعيدًا عن مواجهة مباشرة ذات خسائر فادحة.