لم تمر لحظة إلا وهناك دين، منذ اللحظة الأولى في تاريخ البشرية، طالما كان هناك سؤال الوجود كان هناك ظهورٌ جديد للدين؛ من نحن، من أين أتينا، وإلى أين نذهب؟ وكانت الإجابات هنالك في متناول الإنسان البدائي، فكر فيها وتأملها على مهل، وتخيل صورتها، وكيف تتحرك مع بعضها البعض، الوجود وصوره.

هكذا يكون تاريخ الدين بظهوراته المختلفة هو نفسه تاريخ البشرية، يكون مساوياً له في الزمن ومؤثراً فيه بمقدار، تاريخ الاقتصاد هو تاريخ البشرية كما علمنا ماركس، وتاريخ السلطة هو تاريخ البشرية كما علمنا فوكو، وتاريخ الدين هو تاريخ البشرية أيضاً.

غير أن تبني كيفية واحدة من كيفيات التاريخ– الاقتصاد أو السلطة أو الدين- ما هو إلا محاولة لصناعة نظرية كل شيء، ستكون نظرية كل شيء الخاصة بماركس هي تاريخ الاقتصاد حصراً، وعند فوكو تاريخ السلطة حصراً، دعا ذلك كلاً على حدة لتجاهل قيمة كيفيات الزمن الأخرى بما فيها الدين.

إذا كنت ترغب في عمل نظرية كل شيء؛ فعليك أن تنتقي وجهة واحدة تحرك الأشياء جميعاً، ستكون هي المركز وكل ما عداها صادرٌ عن هذا المركز وواردٌ إليه. الاقتصاد أم السلطة؟ عليك أن تختار، لكن ما هي هذه الوجهة التي تحرك كل شيء؟ إنها المطلق، وقد كان الدين يبحثُ عن المطلق لكن من طرقاتٍ أخرى.

ظل سؤال الوجود ذاك المؤرق الأول لأبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي، المعروف بالحلاج، حتى آخر لحظة في حياته. عجوز، هزيل، يقدمُ على ميتةٍ مفجعة، فما البنية العقلية التي امتلكها الحلاج وجعلته يقدم على تجديد صورة الدين لملايين المسلمين من بعده؟

ربما هي نفسها البنية الروحية التي دفعته لأن يقدم بقلبٍ شجاع على الموت مصلوباً حتى تأكل غربان السماء من عينيه. البنية الروحية أمر صعب على التقصي العلمي لما يحيطُ بها من أبعادٍ غيبية، لكن ورغم كل شيء ما زال بالإمكان استشفاف بنيته العقلية من القليل الذي وصلنا من أثره؛ في نصوصه الشعرية ومخطوطة الطواسين، مما لا يمكن استعراضه في حيزٍ ضيق.

صورة واحدة من صور المطلق الذي عرفه الحلاج على النحو الخاص به قد تكفي لملء صفحات عديدة لكن ما زال بالإمكان تأمل وجه واحد من أوجهه، إنها صورة الشر الضروري –إبليس الحلاج.

مخطوطات الطواسين هي عددٌ من المقامات والأسرار (بالتعبير الصوفي للمقام والسر) كتب الحلاج معظمها أثناء سجنه وقبيل وفاته، وربما لهذا السبب قد أودع فيها خلاصة فكره وحسه وطاقته الروحية قبل أن يسلم نفسه للموت، وصلنا منها عشرة طواسين كلٌ منها يسمى طس، من بينها وأكثرها إثارة للفكر والجدل طس الأزل والالتباس.

في طس (الأزل والالتباس) يكتب الحلاج:

التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال: يا إبليس ما منعك من السجود؟ فقال: منعني الدعوى بمعبودٍ واحد، ولو سجدتُ لآدم لكنتُ مثلك، فإنك نوديت مرةً واحدة انظر إلى الجبل فنظرت، ونوديتُ أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت، لدعواي بمعناي

 لا يعرف أحد ما إذا كانت هذه القصة الواردة عن إبليس قصة متواترة على ألسنة الناس في زمن الحلاج كحاكاية شعبية، أم أن هذه القصة كانت استعارة عن التصور الذي يدور في ذهن الحلاج عن إبليس وفكرته وعلاقته بالله وبالإنسان! يمكن اعتبارها فضلاً عن ذلك استعارة عما اجتهد فيه الحلاج في تفسير قصة إبليس الواردة بالقرآن الكريم، أي استعارة درامية عن القصة الدينية الأصلية.

يعود فيكتب: (فقال له– أي موسى: «تركت الأمر» قال– أي إبليس: «كان ذلك ابتلاءً لا أمراً»).

في الاستعارة الدرامية التي يبنيها الحلاج: خالف إبليس الأمر لأنه أطاعه– أي أطاع الله- ولفك ذلك الالتباس يمكن لقارئ نص الحلاج أن يتخيل أمرين إلهيين: أمرٌ سابق لا يتقادم بالزمن وهو التوحيد مع تحريم السجود إلا لمعبودٍ واحد، وأمر آخر بالسجود لآدم.

طبقاً للأمر الإلهي الأول وغير القابل للتقادم يكون إبليس قد أطاع الله طاعةً عظيمة برفضه السجود لآدم، وطبقاً للأمر الإلهي الثاني يكون إبليس قد خالف الله مخالفةً جسيمة، وهو ما يفسر الاقتباس الثاني على لسان إبليس: كان هذا ابتلاءً لا أمراً، إذا خالف إبليس يكون قد أطاع، وإذا أطاع يكون قد أخلف، وهنا يتجلى الموقف الدرامي الملتبس لإبليس، التباسٌ درامي من ذاك النوع الذي يثري الدراما ويجعلها أكثر فنية وأكثر تعبيراً عن الواقع، واقع الموجودات الملتبسة بشكلٍ دائم.

يأخذ طس الحلاج «طس الأزل والالتباس» اسمه من هذا الالتباس الوجودي العميق الذي يتعرض له إبليس، ربما هي نفسها حالة الموجودات الواقعية جميعها، الوجود المتناقض في ذاته كما يعلمنا هيجل، وهذا الالتباس بعينه لا يدفع الحلاج لإنكار قصة إبليس بل لإثباتها، كقصة مركبة عن شخصية مركبة كسائر الشخصيات الواقعية.

يظهر إبليس إذن كشخص مركب بموقف من الله والعالم شديد التعقيد، فهو الأعلم من بين مخلوقات الله بالله، والأقرب من بين مخلوقات الله لحبه، ولم يتفوق عليه في المكانة إلا أحمد، بحسب موضعٍ آخر من الطواسين.

 لكنه يسقطُ فجأة في موقفٍ شديد التعقيد فيخسر مكانته ويحافظ عليها في الوقت نفسه.

إن نتيجة الموقف الذي طولب فيه إبليس بالسجود لآدم لم تكن بسيطة أو أحادية، بل مركبة بالقدر نفسه الذي جرى به تركيب الموقف؛ فبحسب الاستعارة الدرامية لقصة إبليس الحلاج لا يكون إبليس قد سقط من مكانته، بل تحول إلى مكانةٍ جديدة.

فقال له– على لسان النبي موسى: لا جُرم فقد غير صورتك، فقال– أي إبليس-: ذا تلبيسٌ وهذا تلبُّس، والحال لا مُعوِّل عليه، لأنه يُحوَّل، لكن المعرفة صحيحة كما كانت، ما تغيرت، وإن كان الشخصُ قد تغير

وهكذا لا يسقط إبليس من مكانته– بحسب استعارة الحلاج- بل يستبدلها بمكانةٍ أخرى، يتحول حالُ الشيء لكنه لا يفقد جوهره «والحال لا مُعوِّلَ عليه».

ميتافيزيقا الحلاج وكيف نشأ منها تصوره عن إبليس

ربما كانت ميتافيزيقا الحلاج على وفاقٍ مع المذاهب الكلامية الأخرى (مذاهب الأئمة واصل بن عطاء وأبي موسى الأشعري وأبي حامد الغزالي) لكنها كانت على تنافرٍ واضح مع مذهبين فقط من المذاهب الكلامية، هما: مذهب المجسمة (حيث ينظرون إلى الله باعتباره محصوراً في جسد له عينٌ وأذن وأيادٍ) ومذهب الإمام ابن تيمية الذي يحصر الوجود الإلهي ويقيده في مكان واحد وهو السماء، أما رؤية الحلاج للمطلق فكانت على العكس من ذلك باعتباره كائناً لا نهائياً لا يحده زمان ولا مكان.

يرى الحلاج إلى جانب ذلك أن تجليات المطلق لا نهائية أيضاً، وكل شيء وشخص ونفس وفكرة هي تجلٍ له، كل الأشياء بما فيها الأرض والسماء والنجوم والبشر والحلاج وإبليس نفسه، ولا شيء يفلتُ من تجلياته، تجليات المطلق اللانهائية في الزمان اللانهائي.

لأن الحلاج كان مسلماً؛ فقد آمن بأن ذلك المطلق له أسماءٌ عديدة على رأسها الاسم الأعظم «الله»، وآمن إلى جانب ذلك بأن الله هو الدهر، أي الزمان، وبوضع هاتين المسلمتين إلى جوار بعضهما البعض وإلى جوار مسألة (تجليات المطلق)، يكون الله هو الزمان يتجلى في الزمان، أي يتجلى في ذاته، والموجودات جميعها ليست إلا تجليات لحظية لتلك الذات/الزمان. من هنا تنشأ فكرة وحدة الوجود، حيث الموجودات جميعها تجليات للذات الواحدة.

بهذا الشكل يكون هناك وجودان: وجودٌ حقيقي هو الله، ووجود زائف لحظي هو التجليات جميعها التي تصدر عنه، ومن هنا ينشأ الالتباس بين تجلي الذات الإلهية في شيء والذات الإلهية نفسها، وربما هو الالتباس نفسه الذي دعا الحلاج ليخلط بين هذا وذاك «أنا أنت وأنت أنا» خلطاً نفسياً لا عقدياً، ما آل إلى اتهامه لاحقاً بفكرة الحلول وصولاً إلى تكفيره.

بهذه الطريقة لا يلعبُ إبليس دوره إلا كنقطة واحدة في بحر التجليات اللانهائية للزمان، أي للمطلق.

أستاذ الشر الضروري

بالعودة إلى الاستعارة الدرامية عن إبليس كما تصوره الحلاج، فإبليس قد حلت عليه اللعنة، وكانت اللعنة ابتلاءً من الله لأحد أقرب المخلوفات إليه، وهو بناءً على تصور الحلاج الصوفي لم يتوقف حتى بعد أن حل عليه اللعنة عن أداء دوره، حيث لكل تجلٍّ دور في منظومة التجليات الإلهية اللانهائية، المنظومة المتسقة مع بعضها البعض، وغير القابلة للكسر أو التحلل أو الانفصام الداخلي، مما يجعل المسألة برمتها صعبة على الفهم للوهلة الأولى.

يقول الحلاج في طاسين الأزل والالتباس: «فجعله يبشر الناس بالقبائح» وطبقاً للمنظور الإسلامي للعالم؛ فإن الشيء الحسن لا يظهر إلا بوجود الشيء القبيح، وهكذا يكون إبليس قد تحول عن أداء دوره الأول (قبل اللعنة) إلى دورٍ آخر بعد اللعنة لا يضاهيه فيه أحد، ومن هنا لا يكون قد خرج عن منظومة التجليات الإلهية، أي عن إرادته، وهو ما يثبت المنظور الصوفي للإرادة الإلهية باعتبارها غير قابلة للكسر، حيث تكون كل محاولة لكسرها ليست إلا طريقاً لإثباتها من جانبٍ آخر.

هكذا يتحول الشيء إلى ضده، ومحاولة كسر المشيئة الإلهية إلى طاعة المشيئة الإلهية، ويتحول الشر الذي يأتيه إبليس (التبشر بالقبائح في استعارة الحلاج) إلى ضده وهو الخير، وهذا بعينه الأمر المقصود من مفهوم (الشر الضروري)؛ فهو الشر الذي يتحول من تلقاء ذاته إلى خير، وهو ضروري من الضرورة لأنه يحافظ على اتزان المنظومة، المنظومة المتزنة أبداً.

إن مفهوم الشر الضروري قد تجلى في ديانات عديدة وفلسفات عديدة، وهو ربما قديم قدم الدين نفسه، وهو لذلك قد اتخذ صوراً كثيرة من بينها التصور الذي قدمه الحلاج عن إبليس: أستاذ الشر الضروري، وهكذا كانت رؤية الحلاج بمجملها بما فيها فكرته عن إبليس- وبخلاف فكرته عن إبليس أيضاً- خطوة إضافية في رحلة الدين الي بدأت مع نشأة الإنسان.