سارّة — قصة قصيرة
(1)
– عمّي، أين سننتظر؟
– على الدوّار، فالشباب هناك.
تقدّم حسن وعمّه ببطء حدّدته خطوات عمّه الثقيلة. فرغم نحافة فتحي الشديدة، إلّا أنه اعتاد أن يمشي الهوينى، وهو شاب مشى الهوينى أيضًا. يستر نحافته بملابس فضفاضة يسمّيها هو ملابس الشغل. وهي عادةً ما تكون ملابس مستعملة، تعطيه إياها نساء من العائلات التي يقضي لهن أشغالًا عابرة في ساحة البيت أو في الحديقة. ملابس يُخصّصها للعمل ولا يرتديها أبدًا في القرية أو في قضاء شئونه الخاصة.
أول مرة تقبّل فيها عرضًا من هذا النوع، كان من زوجة شاب استأجره بيومية لتنظيف حديقة بيته من الأعشاب. اقتربت منه الزوجة الشابة تحمل قنينة ماء وبعض الحلوى، وسألته على استحياء إن كان يريد أخذ بعض الملابس القديمة لزوجها وبعض ملابس الأطفال التي ضاقت على ابنها الصغير. تردّد في الإجابة، تردّد كثيرًا فسمعها تقول: «ممكن أن توزّعها عندكم على محتاجين». ملابس جيّدة، ممتازة، أكبر من مقاسه بدرجة أو اثنتين. وعندما فتحت أمه الأكياس، رمقته بنظرة شفافة، نظرة لا تقول شيئًا ولكن لها صوت يشفق عليه.
– يمكنك ارتداؤها للعمل، سأخيِّطها من جديد حتى تناسبك.
لم تناسبه الملابس حقًا، لكنه اقتنع من يومها ألّا يستهلك ملابسه في العمل. وزّعت أمه «سارّة» ملابس الأطفال على أحفادها وبعض الجيران، فقد وضعت المرأة الشابة الكثير من الملابس النظيفة في الأكياس، وكما يبدو جمعتها، ولم تكن كلها لعائلتها كما أخبرته بخجل.
(2)
أحد القمصان كان من الممكن أن يناسب «حسن» ابن الخامسة عشرة يومها، لكنّ جدّته ما كانت لتلبس ابن الشهيد ملابس مستعملة. أقرب ما يمكن أن يوصف به حرصها على «حسن» بأنه حرص المرء على روحه، بل أكثر بقليل. وُلد حفيد سارّة الأول وهي في الأربعين، ابنًا لابنها البكر. وتيتّم من أبيه وهو في الرابعة من عمره، في فاتحة الانتفاضة الأولى. زُوِّجت أمه وسافرت مع زوجها وهو ابن سبع سنين، ومن يومها أصبح حسن السارّة.
حرصت سارّة على «حسن» حرصًا غريبًا ليس مألوفـًا بين الناس في القرية. طوّرت هدوءها الفطري، فأقلّت بالكلام وبإيماءات الوجه، وخصّت «حسن» بكل ما تخزنه من مشاعر وحديث. تُطلّق ابنها فتحي بعد أن تأكّد عقمه، ونزل ليسكن مع أمه وأبيه، وتنازل لأخيه الأصغر عن بيته ليتزوّج فيه.
ترمّلت سارّة بعد سبع سنين من موت ابنها، يستعجلون الموت في بيت سارّة. اعتاد «حسن» أن يرجع من المدرسة إلى الأرض حيث تنتظره جدّته، وتريه كل ما ترى. كانت تقف على طرف الأرض بعد أن تُجهّز على طرفها الآخر بعض ثمارها، وتبعثه ليأتي بالزرع ركضًا، وتنتظره بوجه مشعّ وابتسامة تحثّه على السرعة.
عرّفته على كل حشائش الأرض وأزهارها، أوردته كل الوديان والجداول في محيط قريتهم البعيد والقريب، أخرجته من البيت في البرد وتحت المطر، وأرته كيف يمكن أن يفتح رئتيه كي يستنشق هواءً باردًا نظيفًا. أطعمته من الزرع أوله، وكسته من اللباس أحسنه، حفظت لأجله كلّ الأغنيات والأهازيج وردّدتها وهي تخبز له الخبز صباحًا.
(3)
في أول ليلة لفتحي بعد طلاقه قالت له:
– ربك صاحب التدابير يا ولدي. أخذ أخوك وأعطاني «حسن». وأخذ منك وأعطاك «حسن»، فهل تقبل ما أعطى؟
أطرق فتحي رأسه، فأكملت:
– «حسن» آخر العنقود لأمك، فاجعله ابنك.
– صحيح، كلامك صحيح يا حاجّة.
– لكن أريد منك وعدًا، «حسن» يتربّى على أحسن ما يكون.
– يعني… العين بصيرة واليد قصيرة.
– لا لا يا فتحي، العين مع البصيرة. ابن اخيك الشهيد، يجب أن يكون علمًا وأدبًا وأخلاقًا وحبًا للأرض وللناس. كريم صاحب كرامة، والكرم والكرامة لا يملكها ضعيف، يملكها القوي، والعلم والأدب والأخلاق وحب الأرض هي القوة.
– والمال؟
– والمال؟ صحيح، لكن أنا سأعطي أحسن ما عندي، «حسن» سيكون نسرًا طائرًا في السماء، يأخذ من القليل أحسنه، وليس كل القليل سيئًا.
استسلم فتحي لحياة سارّة، تعلم منها كيف يربّي «حسن». فهو المسئول عن دراسته وتحصيل الكتب والقصص له، بل وقراءتها حتى يرويها لحسن. رجع للكتب والدراسة، عاد للحساب والعربية والإنجليزية ليساعد «حسن»، وفي وقت قصير وجد نفسه يجتهد حتى يروي فضول الطفل وتفتح ذهنه وأفكاره. وتعلق كسارّة بالفتى، تعهّداه بكل جميل.
ما آن يشعر أحد أترابه أو أقربائه من الأطفال بالغيرة منه، حتى يغمره خُلق «حسن» ويمحو أي حقد أو غيرة. ويحميه دواء سارّة الشافي له كل يوم.
– الله يحبّب خلقه فيك يا ستي.
(4)
توقّف فتحي عن العمل في المطعم في أواسط التسعينيات. تحوّل الى عامل باليومية، ليس كل يوم، لكن عامل اليومية قد يكون أحيانًا عاملاً بوظيفة كاملة حتى إذا لم يشتغل يومًا من شهر كامل.
ساءت الأحوال جدًا في الفترة الأخيرة، كل يوم يحاول الخروج للعمل، كفّ عن محاولة تحصيل تصاريح، واكتفى بالتهريب الآمن تحميه رفقة مُجرّبة من ناحية، وقوة استشعار حول الأيام المناسبة للخروج. لكن اليوم مختلف، اتفق مع «حسن» في اليوم السابق أن يصحبه. أنهى الفتى التوجيهي بتحصيل ممتاز، تسجّل للجامعة في بيرزيت وتسجّل لجامعة في الأردن، لكنه يحتاج إلى منحة، ترشّح لواحدة ولم يتلق جوابًا بعد.
– لا تخبر جدّتي يا عمي. لن تدعني أذهب معك.
– معها حق.
– أنا أريد أن أساعدكما، لا يمكن أن أبقى هكذا دون عمل.
– يمكن يمكن… يمكن أن تبقى دون عمل إن بقيت هنا قاعد في القرية.
خرجت سارّة من باب الدار واقتربت منهما وهي تمد أكمامها فوق رسغيها بعد انتهائها من الوضوء، جلست قربهما تنتظر آذان المغرب، الجو لطيف، لطيف جدًا، تهب نسمات باردة وتسترق إليهم الخطى من بين أغصان الليمونة، فتجرّ معها رائحة منعشة.
– ماذا وراءكما؟
ابتسم فتحي بخبث:
– «حسن» يريد…
قاطعه «حسن» بإحباط:
– عمّي…
– سمعتكم، لن تتحرّك من هذه الدار إلّا إلى الجامعة.
– يجب أن أساعد، يجب أن أشتغل، أنتِ وعمي فتحي تعبتم كثيرًا معي.
لأول مرة منذ ثلاثة عشر عامًا، نطق اليتيم. تبادل فتحي النظرات مع أمه.
– نحن لم نتعب معك يا حسن، نحن أهلك.
– عمي، سـأذهب معك غدًا.
ملأ صمت سارّة الهواء بينهم ولم يقطعه إلّا صوت الآذان يبشر بالوحدانية ككل يوم وككل أوقاته. ارتاح ثلاثتهم إلى لحظات الصمت الجليلة، لكن ما إن انتهى المؤذن بدعوى الفلاح حتى انطلق لسان الجدّة:
– لا أريد لك هذا. لن تكون عاملًا عند اليهود ولا عند العرب، لن تنتظر أن يُشغّلك أحد، ويناقشك بأجرك آخر النهار، ولا أن يُزيدك لأن عملك في تنظيف بيته أو قطع أشجاره أعجبه، ولن تعطيك امرأة طيبة ملابس ولدها الضيّقة. لن أدعك تكسر نفسك ولو بإرادتك، لن يكون هذا وفيّ نفس.
ركّز «حسن» نظره في وجه عمه بينما تجلده أمه، أمهما، واغرورقت عينا «حسن» بالدموع في الوقت الذي تجمّدت فيه ملامح فتحي.
استمرّت المرأة.
– لا تفجعنا فيك يا حسن، أنا وعمك ذُبنا من أجلك.
– ظلمت عمي يا جدة.
– لا يا حسن، لم تظلمني جدتك، بل أنصفتني إذ أعطتني إياك.
– فتحي ابني، فلا تفهم أنني أحبك أكثر منه أو حتى أحب أباك الشهيد أكثر منه.
توقفت للحظة تسترد كلماتها من زمن بعيد، من طفولة حرّة في بيت والدها خطيب قريتهم، عندما استضافوا عائلات اللاجئين أيام الحرب.
– لن نخرج من هذا الدمار يا «حسن» إذا لم يكن بيننا ناس تتعلّم وتكبر وتعرف البلاد لتحبّها وتحميها. كيف ستنقذ هذه العائلة إذا لم تنجُ أنتَ؟
(5)
عندما استيقظ فتحي في الصباح نظر إلى «حسن» نائمًا على سريره، توضّأ ثم لبس ملابس الشغل وخرج. لم يؤذّن الفجر بعد لكنه سيصلي في الطريق. التقى مع اثنين من العمّال عند جراج البرّاك حيث ستأتي سيارة النقل. لم يتأخّر السائق، ركب فتحي أولًا، وبعد ان ركب زميلاه صعد شخص رابع.
– السلام عليكم.
– «حسن»!
– لا تغضب يا عم.
جلس بقربه، ووضع يده على كتفه.
– أريد أن أرافقك ولو لمرة.
تلاقت نظرات فتحي مع السائق يلومه. فقال السائق:
– سيدخل شارون الأقصى في الغد. لا أحد يعرف إلى أين ستصل الأمور بعدها، فليأتِ ويرى.
علّق أحدهم.
– لتقم القيامة، ما الذي بقي؟
– ستولع الدنيا من جديد.
وقفت سيارة النقل لتحميل عمّال آخرين، فنزل فتحي و«حسن» وصلّيا سريعًا على حافة الطريق.
مشي «حسن» خلف عمّه في شوارع القرية التي يعمل فيها فتحي في العادة. أخذ حسن ينظر إلى المحال حوله، اختلطت العربية بالعبرية في مزيج بدا له منفّرًا وغير مفهوم. وقف مجموعة من الرجال عند الدوّار، قرفص فتحي قرب جدار قريب، ووقف حسن بقربه وألصق ظهره بالحائط مستكشفًا المكان. تفاوتت أعمار المنتظرين ما بين مراهقين يصغرونه سنًا وكهول خمّن أنهم أكبر من عمه فتحي.
اقتربت منهم سيارة بيضاء قديمة، فأسرع نحوها بعض العمال، نجح اثنان منهما بالاقتراب من الشبّاك ودار نقاش منخفض الصوت، ركب في آخره أحد الاثنين وعاد الآخر مع مسحة ملل.
– مجانًا، هذا ما يريده منا أولاد الحرام.
اقتربت سيارة أخرى فتقدّم رجلان من بينها بدا وأنهما يعرفان صاحبها. ففتحا الباب وركبا، لم تتحرّك السيّارة.
فتح أحد العمّال زجاج نافذة السيّارة وقال:
– أبو العبد يقول إنّ جيب حرس الحدود تجول في البلد. يبحثون عن عمّال، تفرّقوا واحذروا، ستصل في دقيقة أو أٌقل.
أمسكت يد قوية بكتف «حسن» وسحبته باتجاه الشارع.
– أسرع يا «حسن» أسرع.
بدأ فتحي بالركض ومن خلفه ابن أخيه. نظر «حسن» الى الوراء فوجد العمال قد تبخّروا. دقائق معدودة، وغاب الاثنان في بستان جوافة قريب من الدوّار ومفتوح على سهول القرية. توقّفا ليلتقطا أنفاسهما.
– لا تخف، ليست المرة الأولى، سنرجع ونقطع للضفّة من بين السهول.
ثم استمر بالسير وبالغضب:
– لماذا جئت؟ أرأيت؟ أسمعت؟ لسنا من البشر، نحن لسنا منهم.
ثم استجمع قوّته كلّها، كلّها.
– سافر لعمّان يا «حسن»، سافر. أنت لم تفهم ما حكته لك الحاجة سارّة في الأمس، القهر والذل يتلفان الإنسان يا «حسن»، أنا تلفت والكثير مثلي. سافر، هذا الأسبوع ستسافر، لن ننتظر، لن أسمح لك.
– كيف أسافر إلى عمّان دون منحة، من أين؟
– من قال إنك لن تأخذ منحة؟ وإذا لا، فمن السماء، من تحت الأرض، من حفر الصخور… لا يهم، ستسافر لتتعلّم.
– في البلاد، يمكن أن أبدأ في البلاد.
– بل في عمّان.
– أريد أن أريحك يا عمّي من كل هذه البهدلة والتعب والخوف.
– وكيف سينقطع خوف الضعيف؟
ثم استطرد بابتسامة:
-أمّا عن راحتي، فسأستريح في القبر، هناك الراحة الحقيقية الوحيدة، لكن إذا حدث لك شيء فلن أستريح حتى فيه.
– كلّ الذين يسافرون لا يعودون، ألا تخاف أن أكون منهم؟
– لا تعد، إذا أردت ألّا تعود، فلا تعد. لكن لا تنسَ أن تمرّ بسارّة، زرها.
– وبك، أمرّ بسارّة وبك.
– وبي؟ أنا حياة مقطوعة يا حسن، أنا ميّت أخو شهيد حي، أبوك حي بك فلا تجعله مثلي.
أبطآ السّير، ما زال الصباح بِكْرًا لطيفًا يُذكّر بالخريف المقترب. استقبلا الشمس وهما يقطعان السهول كأنهما أب وابنه يتجولان سيرًا على الاقدام في أرضهما الممتدّة. يفكّر كلاهما كيف ستستقبلهما سارّة.