سامية يوسف عمر: العداءة التي قتلها حب الصومال
في فناء بيت طيني صغير تم بناؤه من خليط الطين والأغصان، هناك في مقديشيو على الساحل الغربي للمحيط الهندي، تقف سامية عمر الفتاة الصغيرة تغمرها السعادة وتتحقق بأصابعها من عصابة الرأس البيضاء المزينة بعلامة نايك، والتي أهداها إياها والدها لتخوض سباق المدينة السنوي لتؤكد له أنها ستفوز اليوم في السباق، بل إن طموحها يتعدى ذلك بكثير.
قبل ذلك اليوم بعشرة أعوام ولدت سامية يوسف عمر في مارس 1991، وقبل ولادتها بثمانية أسابيع بدأت المشاحنات بين قبيلة أبجال التي تنتمي لها أسرة سامية وقبيلة دارود التي ينتمي لها صديق طفولتها علي، كانا سامية وعلي يسكنان في المنزل نفسه نظرًا للعلاقة القوية بين أبويهما اللذين لم ينساقا وراء تلك المشاحنات القبلية حتى بعد أن تلقى والد سامية رصاصة في قدمه اليمنى دفاعًا عن صديقه. هكذا تربت سامية على أن كل الصومال إخوة، فالخطر يكمن في الكره الذي يتسلل لقلوب البعض وليس في الأصول التي ينتسب لها أحدهم دون الآخر على غير فضل منه أو رغبة.
طفولة مُبشرة
في ظروف الحرب والفقر والتناحر التي اجتاحت الصومال لم يكن للأطفال من وسيلة للهو سوى الركض. كانت سامية دومًا أسرع من الجميع. كانت تتمتع بخفة وسرعة لا تخفى على أحد، وبينما كانت الحرب الأهلية تشتت الصومال يومًا بعد يوم كانت علاقة سامية وعلى على النقيض تقوى تمامًا حتى صارا كأخين. فعلي الذي عرف صغيرًا أنه لن يهزم سامية أبدًا في سباقات السرعة وجد لنفسه دورًا آخر، أصبح علي مدرب سامية الخاص.
كان في مثل عمرها ولكنه كان يشرف يوميًا على تدريباتها، حيث قررت سامية في عمر صغير جدًا أن تصبح عداءة، وكانا يمارسان العدو في شوارع مقديشيو الترابية، في كل مكان مادام بعيدًا عن البحر، فالشاطئ هو أحد الأماكن المفضلة للميليشيات المسلحة، حيث تصوب طلقات البنادق بشكل مباشر.
فازت سامية عمر بسباق مقديشيو السنوي وهي في عمر العاشرة لتعود بأول ميدالية لها وبصورة لمحمد فرح العداء الإنجليزي الجنسية والصومالي الأصل لتعلقها في حجرتها،لتذكر نفسها كل يوم أنها ستصبح مثل «مو» عداءة أولمبية، ولكن تحت علم الصومال لا بلد آخر.
كانت الخطوة التالية لسامية أن تصبح أسرع عداءة في الصومال، وهذا يقتضي أن تشارك في سباق «هرجيسا» في الشمال الذي أعلن استقلاله وتوقف عن الحرب، وبينما أعلن الشمال استقلاله كانت مقديشيو في الجنوب تتغير معالمها كثيرًا، حيث بدأت تظهر «جماعة الشباب».
في غضون أسابيع قليلة أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا، حيث منع الاستماع إلى الموسيقى وأغلقت دور السينما وتم إجبار الرجال على ارتداء السراويل الطويلة والنساء على ارتداء البرقع الأسود وتقرر إطفاء أعمدة الإنارة، حتى الركض تم منعه أيضًا، إلا أن تلك الظروف كانت أقل قسوة على سامية لنفس السبب الذي أقصاها عن الانزلاق في الكراهية القبلية «والدها».
يوسف عمر محدثاً بنتيه سامية وهودان التي كانت عضوا في فرقه موسيقية.
إلا أن هناك دوما ما هو أسوأ في صومال سامية، حيث تحالفت قبيلة «هاوييا» التي ينتسب لها الأبجال عشيرة سامية مع جماعة الشباب، وهذا يعني أن قبيلة «دارود» في خطر، فرحل علي وعائلته، فقدت سامية أخا تعرفه منذ ولادتها، ومدربا كان يحسب لها أوقات عدوها ويصنع الأثقال باستخدام العلب المعدنية الممتلئة بالرمال لتقوية عضلاتها، وكان الحل دومًا عند سامية هو أن تركض، كانت تركض لسبع ساعات يوميًا لتعود قبل حظر التجوال تتعثر مرارًا و تكرارًا في التنورة وتزداد الحرارة تحت البرقع، وتفقد القدرة على تنظيم أنفاسها، كانت تخاطر كل يوم بأن تفقد الوعي، لكنها كانت تهرب من كل شيء و لا ترى سوى سباق «هرجيسا».
استطاعت سامية أن تفوز بسباق «هرجيسا» وهي بعمر الخامسة عشرة لتصبح أسرع امرأة في الصومال وتحصل على ميدالية أخرى تجاور الأولى، وبينهما صورة محمد فرح، تلك هي كل المقتنيات التي تحافظ عليها سامية، إلا أنها وبعد شهر واحد ستفقد أهم ما تملك.
الطريق إلى بكين
كان سوق بكارة هو أخطر أماكن الصومال، حيث يقوم رجال ميليشيا القبائل أو أفراد جماعة الشباب بإلقاء قنبلة داخل سلة تسوق إحدى السيدات ليحصد الموت عشرين أو ثلاثين شخصا دفعة واحدة، إلا أن ذلك اليوم ما حدث كان مغايرًا للمعتاد، فقد اقترب أحد الملثمين من يوسف عمر وأطلق عليه الرصاص من الخلف، مات والد سامية وبقيت كلماته تتردد في أذنها.
تواصل مسئولو اللجنة الأولمبية مع سامية بعد أن شاهدوها في سباق «هرجيسا»، واستطاعت أن تمثل الصومال في مسابقة دولية في جيبوتي، ثم تحقق الحلم، حيث قررت اللجنة أن تكون سامية هي ممثلة الصومال في أولمبياد بكين 2008.
بساقين هزيلتين خاليتين من العضلات تمامًا كانت سامية عمر تشارك وسط بطلات العالم صاحبات الأجساد الرياضية المثالية على نفس المضمار، لم تستطع بالطبع أن تجاري باقي المتسابقات، بل إنها وصلت متأخرة عن البقية ببضع ثوانٍ وسط تصفيق الجماهير التي تعلم أن مشاركة سامية في حد ذاتها هي الإنجاز، كما أن هناك إنجازًا آخر، فقد شاهدت سامية «مو فرح» بنفسها، الصومالي الذي رحل برفقة عائلته وهو في سن التاسعة فأصبح إنجليزيا متدربا يعدو على أرض المضمار بأريحية كاملة، بينما كانت سامية تبدو كأنها عنصرا دخيلا على المشهد بأكمله.
فقط من أجل الصومال
سامية يوسف عمر مع البعثة الصومالية في أولمبياد بكين عام 2008.
كان الوضع في الصين بمثابة الحلم لسامية، فقد استطاعت أخيرا أن تحقق حلم حياتها. احتفت بها الصحافة لدعم مشاركتها كفتاة دون تدريب أتت من الصومال المشتت، كان ردها على كل ذلك أنها كانت تتمنى احتفاء لنصرها لا لمجرد مشاركتها، عادت سامية إلى الصومال وتلقت العديد من الرسائل من كل البلاد، فقد أصبحت رمزًا في عيون العالم.
ولكن الأزمة أن سامية قد أصبحت معروفة لدى جماعة الشباب، وأصبح تجولها في المدينة بالغ التعقيد، فهي فتاة قررت أن تظهر على الشاشات دون حجاب، فالفتاة التي كانت تمثل الصومال منذ أيام وسط احتفاء الجميع كان عليها أن ترتدي البرقع وألا يتعرف عليها أحد في بلادها، لم تكن تعرف إلى متى ستظل تحب الصومال من طرف واحد، إلى متى ستحلم بأن ترى علم بلادها مرفوعًا بينما تصر بلادها على أن تعاملها كنكرة دون تدريب ولا حتى تقدير.
بعد عودة سامية من الصين كانت قد تعرفت على صحفية أمريكية تتابع الرياضات في بلدان غرب أفريقيا، عرضت عليها الصحفية كثيرًا أن تساعدها في الرحيل نحو إثيوبيا وتوفير مدرب لها، إلا أن سامية كانت ترفض دائمًا وتصر على أنها ستتمكن من تحقيق الفوز في دورة الألعاب الأولمبية وهي امرأة صومالية مسلمة، حتى حدث ما لم تكن تتوقعه سامية مطلقا، رغم كل ما رأت.
في وسط الغابة
في أحد الأيام لاحظت سامية أثناء عودتها للمنزل حزمة ملقاة في فناء المنزل، قامت بفتحها لتفاجأ بالكثير من الأموال، أموال تكفي عائلة لتعيش بشكل جيد لعامين، إلا أنها سمعت ضوضاء في الغرفة المغلقة منذ أن رحل منها علي وعائلته، دخلت سامية الغرفة لتسمع صوتا يناديها، صوتا وإن تغير قليلا إلا إنها تعرفه، إنه «علي».
تغير شكل علي كثيرا، فقد أصبح رجلًا ملتحيًا يشوب وجهه ملامح القسوة، شعرت سامية بأن صديقها قد عاد إلا أنه أكد أنه جاء ليترك لها المال ويرحل، قال ذلك باكيًا وبدأ يحكي ما حدث.
كان علي قد تم انضم إلى جماعة الشباب التي قدمت له منزلا لائقا وحماما وثلاث وجبات، أشياء لم يحصل عليها طيلة حياته، واستطاع أن يتميز بين الجميع حتي حاز رضا رئيس جماعة الشباب نفسه، والذي كان يعرف سامية وأختها ويطلق عليهما «الفتاتين التخريبيتين»، ويعرف والدهما الذي لم ينصع أبدًا إلى الأوامر. فطلب من «علي» كإثبات ولاء للجماعة أن يطلق النار عليه في سوق بكارة، فعلها علي ملثمًا من خلف الرجل الذي شارك في تربيته كوالده، ثم عاد بأموال نادمًا على ما حدث.
لم تستطع سامية أن تصدق ما تسمع، لقد مات والدها علي يد أخيها، انهار كل شيء فجأة، فقدت سامية القدرة على البقاء في ذلك البلد الوحشي الذي جعل من الناس وحوشًا لا روح لها، في هذا اليوم فقدت سامية أي رغبة في البقاء في الصومال.
الأمل في الرحلة
بعد ستة أشهر رحلت سامية إلى إثيوبيا، شعرت أخيرًا ببعض الحرية، إلا أنها وجدت نفسها برفقة إحدى عشرة فتاة أخرى في شقة واحدة، هذا ما استطاعت أن توفره الصحفية. لم تستطع سامية أن تتحمل نفقاته بعد أن رفضت المال الذي أتى به علي. كانت لتفعل أي شيء حتى تتدرب وتلحق بأولمبياد لندن، إلا أنها قبل أن تستخدم الملعب كان يجب أن تصل من الصومال بالمستندات التي تثبت أنها إحدى الرياضيات المسجلة لدى اللجنة الأولمبية واللاجئة السياسية في إثيوبيا، وهو ما لم يحدث. شهور تمضي اضطرت فيها سامية إلى أن تتدرب ليلاً كما كانت تفعل في الصومال، وأن تعمل في تطريز الملابس حتى تستطيع أن تفي بالتزاماتها، ومع الوقت أدركت سامية أن لا أمل سوى «الرحلة».
الرحلة هي مصطلح متعارف عليه في الصومال للتعبير عن الهجرة غير الشرعية، وهي أمر معتاد في الصومال، وكانت هودان أخت سامية قد اجتازت الرحلة ومستقرة في أوروبا، ولذا قررت سامية أن تبدأ الرحلة. من أديس أبابا إلى السودان ومن السودان إلى ليبيا، ثم أخيرًا إلى إيطاليا، هكذا كان سير الرحلة، إلا أن الأمر لم يكن بهذه البساطة.
في صندوق سيارة لا يحتمل الكثير قرر المهربون أن يرصوا 72 شخصًا، وكان على كل شخص أن يبقي ركبتيه مفتوحتين كي يدخل بينهما شخص آخر لا يعرفه، وكانت سامية البطلة الأولمبية في زمرة الـ72، مجرد رقم لا أهمية له.
قرر المهربون أن الأمر يحتاج إلى أموال أخرى للوصول للخرطوم، ثم يبدأون في مناداتك «ادفع يا حيوان». فالأمر الآن أصبح في أيديهم فقط. هنا اضطرت سامية ان تحدث أختها لكي ترسل لها أموالا، وبعد عدة أيام وصلت الأموال واستأنفت الرحلة إلى الخرطوم. تكرر الأمر عدة مرات، فبعد كل مرحلة يقرر المهربون أن الأمر يحتاج لأموال أكثر، وإذا لم يكن بمقدور الفتاة الصومالية أن تدفع فستتعرض للاغتصاب.
عاشت سامية رحلة عصيبة قرابة ستة الأشهر، منها ثلاثة أشهر ونصف في حي الصوماليين في ليبيا، حي كامل داخل كل شقة ثلاثون أو أربعون شخصا ينتظرون الإبحار إلى إيطاليا، مرت سامية بمحاولة فاشلة على متن زورق ولحسن الحظ كان قريبا من الشاطئ، فعادت مرة أخرى إلى طرابلس، ثم أخيرًا ستبحر سامية إلى إيطاليا.
على متن قارب حقيقي لا زورق كالمرة السابقة، أخيرًا تستشعر ساميه الحرية، فالبحر أفضل من الصحراء ومن سجون السودان وليبيا، ورغم نفاد الطعام فإن الأمر أصبح قريبًا، فالشواطئ الإيطالية قريبة، لكن في منتصف اليوم الثالث توقف القارب تمامًا. بعد خمس عشرة ساعة يصل قارب إيطالي، والرسالة واضحة لن تدخلوا إلى إيطاليا، بل ستعودون إلى طرابلس، بدأ الجميع في الصراخ والجنون، بدأ البعض في القفز نحو البحر ليصل للمركب الإيطالي، فالعودة إلى ليبيا بعد كل هذا مستحيلة.
كانت سامية تترقب المشهد كله في صمت تام، كانت تنظر إلى البحر، البحر الذي منعت من الاقتراب منه طوال حياتها، البحر الذي بخلت عليها الصومال بأن تلامسه، لم تشعر سامية بنفسها سوى وهي تقفز إلى البحر وتبقى به إلى الأبد.
أحداث المقال مأخوذة عن الرواية الإيطالية «لا تقولي أنك خائفة» للكاتب الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا و الذي قام بالاتصال بهودان أخت سامية و ببعض ممن قابلتهم سامية في الرحلة.