صليب باشا: أول وزير حربية قبطي في مصر
رغم أن اسم «صليب باشا سامي» ليس متداولاً لدى المثقفين والمؤرخين مثل غيره من أقباط مصريين وصلوا إلى مواقع وزارية كبيرة في الدولة خلال النصف الأول من القرن الـ20، كمكرم عبيد أو بطرس باشا غالي مثلاً، فإنه شخصية جديرة بالدراسة والبحث والتأمل، كما أن الذكريات (وليست المذكرات كما أراد هو أن يسميها) التي كتبها بعد اعتزاله العمل السياسي في 1953، جديرة بالقراءة لا سيما أنها تحكي عن فترة مهمة في تاريخ مصر من سنة 1891 وحتى قيام ثورة يوليو، من خلال شخص ينتمي إلى طبقة النخبة المثقفة المتعلمة، كما أنه ينحدر من كبريات الأسر القبطية في مصر مالاً وجاهًا، حيث قيل إنها كانت تمتلك نحو 1500 فدان من الأراضي.
معاناة المحامين
صليب سامي مولود في القاهرة سنة 1885، لكنه نشأ بدمنهور في البحيرة، حيث كانت تقيم أسرته، ثم انتقل إلى عدة محافظات مصرية أخرى تبعًا لتنقلات والده في وظائف الدولة. أسرته الصغيرة كانت عبارة عن والده وعمته فقط، ولكنه يشير إلى أنه كان يعيش في كنف أسرة كبيرة تشمل في الواقع عدة أسر تربط بينها صلة القربى أو النسب، وكانوا يعيشون في «روكية» يتولى أمرها أرشد رجال الأسرة، وهي طريقة كانت تدار بها أمور العائلات في روما القديمة. وكانت أسرته تتكون من 33 عضوًا من بينهم بعض الجواري، اللائي يقمن على خدمة بعض أطفال الأسرة.
تعلم صليب جيدًا، والتحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم المدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة، والتي حصل منها على شهادة البكالوريا في سنة 1901، فالتحق بمدرسة الحقوق الخديوية، والتي كان مقرها شارع عبد العزيز بوسط القاهرة أولاً، ثم انتقلت إلى جوار قصر عابدين.
عَمِل صليب سامي بالمحاماة بعد تخرجه في مدرسة الحقوق، وسفره في جولة دراسية قصيرة في أوروبا، وقد حكى في ذكرياته عن بعض من القضايا التي ترافع بها في بداية حياته، والتي لم يكن يقصد بها إلا إبراز معاناة المحامين، لكنه ذكر في ثنايا هذا الجزء تحديدًا أمرًا أثار دهشته وربما غيّر حياته، فقد جرى أن القضاء الأهلي – منذ نشأته وحتى سنة 1934- يطبق أحكام دين الموصى دون أحكام الشريعة الإسلامية على وصايا غير المسلمين، ولكن في السنة المذكورة (1934) قررت محكمة النقض العدول عن هذا الأمر، فقضت بسريان أحكام الشريعة الإسلامية على وصايا الجميع، مسلمين أو غير مسلمين، وفي رأي كاتب الذكريات أن ما حدث دافعه شريف للغاية حيث يحقق المساواة بين أهل البلد الواحد، ولكنه كان يرى أنه يتجاوز أحكام التشريع، ولكن المفاجأة أن المشرعين استجابوا لقرار محكمة النقض، وأصدروا القانون رقم 25 و26 لسنة 1944، والذي كان يرى أيضًا أنه جاوز الحقيقة القانونية.
الغريب أن صليب سامي المحامي قد ترافع في عدة قضايا تخص وصايا غير مسلمين، وقد خسرها جميعًا بالطبع!
قبطي.. سياسي.. من حزب «الاتحاد»
كانت المعركة مشتعلة بين حزبي مصر الكبيرين: «الوفد» بقيادة سعد زغلول و«الأحرار الدستوريين» بقيادة عدلي يكن، وهي الحرب التي مورس فيها كل أنواع الصراع، وصولاً إلى الاغتيال. كانت الأزمة بين الحزبين هي طبيعة التعامل مع الإنجليز، فـ«الوفد» كان يضع رحيل الاستعمار على رأس جدول أعماله، بينما كان «الأحرار الدستوريون» يؤجلون الصدام مع الإنجليز إلى مراحل تالية، حتى تتم مراحل اكتمال قوة الدولة المصرية، ومن بين تلك المراحل كتابة دستور قوي. وهذا الخلاف جعل «الوفد» يتهم منافسه – المنشق منه في الأساس – بالخيانة والعمالة للاستعمار.
لقد نشأ صليب سامي في هذا الصراع، بل كان جزءًا منه!
الدكتور سامي أبو النور، محقق الذكريات وكاتب مقدمة الكتاب الصادر عن مكتبة مدبولي في 1999، يؤكد أن كاتب الذكريات، صليب باشا سامي، لم يشر في ذكرياته إلى مرحلة تكوينه السياسي أو انتمائه الحزبي، رغم أنه اعترف في أحد الفصول أنه كان منضمًا إلى حزب «الأحرار الدستوريين»، بل كان عضوًا في إدارته عام 1926، وقد كان أحد ثلاثة أطلق عليهم خصومهم اسم «شعبة المتطرفين»، وبالفعل اغتيل الاثنان الآخران وهما: حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي، وهذا الحادث جعله ينفصل عن حزبه في أوائل الثلاثينيات، مفضلاً الانضمام إلى حزب «الاتحاد».
وهذا الحزب تحديدًا قد تشكل بدعم من الملك فؤاد الأول بنفسه، وذلك بهدف إيجاد نوع من التوازن بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين. وتأسس الحزب على يد حسن باشا نشأت في مطلع عام 1925، وتم استقطاب جريدة «ليبرتييه» لتصبح ناطقة باسم الحزب، مع جريدتين أخريين هما: الاتحاد والشعب المصري.
يذكر صليب باشا سامي أنه في سنة 1926 قامت هدنة بين سعد باشا وعدلي باشا، وكان من أعراضها توزيع الدوائر الانتخابية بين الحزبين، فدعاه عدلي باشا لمقابلته بنادي محمد علي، ورشحه لأن يخوض غمار الانتخابات البرلمانية في دائرة «بشتيل» وسوف يخوضها بدعم من زعيم أسرة غراب بـ«أوسيم» وهو وفدي! ولكن الاتفاق بين كبيري الحزبين قضى بذلك، لكن المفاجأة أن الهدنة انقضت، وأعلن زعيم أسرة غراب أنه سيخوض غمار الانتخابات، وبالفعل خسرها صليب، فكانت كما يقول: «المرة الأولى والأخيرة التي يخوض فيها انتخابات البرلمان»، حيث كان يفضل أن يُعيَّن في مجلس الشيوخ على أن يكون عضوًا في مجلس النواب.
قضايا مهمة على الساحة
في 1929 صار صليب باشا سامي مستشارًا ملكيًا للملك فؤاد، وهذا بالتبعية العُرفية يجعله مراقبًا ومستشارًا لعدد من الوزارات المهمة، ومتداخلاً في بعض القضايا الكبرى، ومنها مثلًا اتفاقية «جغبوب» والتي قضت بتنازل مصر عن منطقة «جغبوب» للمستعمر الإيطالي الذي كان يحتل ليبيا في هذا التوقيت، وذلك تحت ضغط بريطانيا على مصر لإرضاء الإيطاليين.
ومن القضايا التي شهدها صليب سامي وكتب عنها في ذكرياته قصة تمثال نفرتيتي، ويقول في هذا الشأن إنه كان يعرف أن الرقابة على ثرواتنا الأثرية ليست محكمة، وأن معظم قضايا تهريب الآثار أو التنقيب غير المشروع عنها تفضي إلى لا شيء، وكانت وجهة نظره في ذلك أن معظم المنقبين حينها كانوا من الأجانب الممولين من حكوماتهم، وقد كان صليب باشا سامي شاهدًا على عملية تهريب تمثال نفرتيتي، فقد أجرى تحقيقًا بعد ظهور القناع في ألمانيا، وتبين له أن أحد علماء الآثار الألمان عثر عليه وأدرك في الحال قيمته، فطلى التمثال بطلاء قابل للزوال، وقد شهد مفتش الآثار بألا قيمة له، فصرح بإخراجه!
كما ذكر صليب سامي ذكرياته حول تتويج إمبراطور إثيوبيا، هيلا سلاسي، حيث كان أحد أعضاء البعثة التي سافرت لمشاهدة الأمر الجلل، كما ذكر تداخلاته في بعض قوانين وزارة المعارف والآثار وغيرها.
مرحلة الوزارة
يحكي صليب باشا سامي إنه في صيف 1933 دعاه محمد شفيق باشا، نائب إسماعيل صدقي رئيس الوزراء حينها، لاجتماع وعرض عليه أن يتولى وزارة الخارجية خلفًا لنخلة المطيعي الذي استقال من الوزارة لمرضه، وكان ذلك باتفاق مع الملك فؤاد. وكان أول اختبار حقيقي له كوزير للخارجية عندما التقاه الوزير الإيطالي المفوض كونت باليانو، وقد طلب منه أخذ الإذن من الحكومة المصرية بمرور الطائرات الإيطالية من طرابلس عابرة الأراضي المصرية في طريقها إلى إريتريا التي كانت حينها مستعمرة إيطالية، فوعده بدراسة الموضوع، ولكن تبين له أن إيطاليا تريد أن تقوم بالإغارة على بلاد الحبشة (إثيوبيا)، فكتب للملك فؤاد يخبره بذلك، مؤكدًا رفضه لهذا الطلب، وهو ما أيده الملك.
من الاختبارات الأخرى التي يرويها صليب باشا في مذكراته حول علاقته بالحكومات الأجنبية، ومدى تأثيرها في الداخل المصري، أن البارون فون شتورر الوزير المفوض لألمانيا في مصر كان غاضبًا من حملات اليهود المصريين وقتها لمقاطعة البضائع الألمانية، وكانت من طرق الدعاية لهذا الأمر أن كتبوا على أوراق النقد عبارات للتحريض على تلك المقاطعة، وهو ما ذكره البارون لصليب باشا لدى مقابلته، بل طالبه بأن يتدخل لدى الحكومة بأن تمنع هذا التحريض، لكن الوزير المصري القبطي ومن دون إجراء حكومي أشاع – بالحيلة – بأن الحكومة ستسن قانونًا بإلغاء أوراق النقد المكتوب عليها عبارات تحريض، وبالفعل نشرت الصحف تلك الإشاعة، فكف اليهود المصريون عن تلك الطريقة، وابتكروا طرقًا أخرى.
هي شهور بسيطة قضاها صليب باشا سامي في وزارة الخارجية، ليفاجأ بمهمة أخرى، وهي اختيار الملك فؤاد له بأن يكون خلفًا لإسماعيل صدقي في وزارة الحربية والبحرية بعد أن استقال صدقي في سبتمبر 1933 عن رئاسة الوزراء والحقائب الأخرى التي كان يتولاها.
أمر الملك فؤاد بأن يقوم عبدالفتاح باشا يحيى بتشكيل الوزارة الجديدة، وقام الأخير بإصدار مرسوم – دون علم صليب باشا سامي – بتعيينه وزيرًا للحربية والبحرية، كأول قبطي يتولى تلك الوزارة.
صاحب الذكريات يقول: لقد كانت مفاجأة لي غير سارة، لأنه كان أولى بهذه الوزارة في نظري ضابط من ضباط الجيش، لا رجل من رجال القانون أو من رجال السياسة.
وقد وردت إلى مسامع الملك عدم رضا صليب سامي عن القرار، فدعاه إلى مقابلته وأخبره أنه هو الذي اختاره لهذا الأمر الجلل، طالبًا منه أن يستغل سياسته الهادئة وعقله القانوني في تحسين العلاقة مع إنجلترا، كخطوة في تغيير بعض الاتفاقات المعقودة بين الحكومتين، والتي تخص زيادة قوات الجيش! وقد كانت تلك مهمته الأولى وربما الأهم في حياته المهنية، وقد تحقق لهما ما أراد.
لكنه يعتبر وجوده على رأس وزارة التموين في حكومة إسماعيل باشا صبري سنة 1940، وقد كان صاحب عددًا من القرارات المهمة التي ربما استمر أثرها حتى الآن، ومنها توزيع (الكيروسين) بالبطاقات، وكذلك محاربته لاحتكار بعض مصانع النسيج ومغالاة تجار المنسوجات في أثمان الأقمشة الشعبية، وقد هددهم بالاستيلاء على مخازنهم وتعيين حراس عليهم.
تولى صليب باشا سامي أيضًا وزارة التجارة والصناعة في حكومات حسين سري باشا، وفي عهده أنشئت دار لسك النقود بدلًا من سك العملة الذهبية في إنجلترا والفضية في الهند والنحاسية في بلاد أخرى، وهو المشروع الذي وضع أسسه أثناء توليه الوزارة في حكومة نجيب الهلالي باشا.
نهاية فاروق.. وثورة يوليو
لم تكن علاقة صليب باشا سامي بالملك فاروق على ما يرام، فقد تنامى إلى مسامعه أنه يعارض تعيينه كوزير في الحكومات المتتابعة، لأنه «قليل الأدب» أو «صريح زيادة عن اللزوم» وفقًا لرأي فاروق، ولكن السبب الرئيسي في ذلك هو رغبة الملك في السيطرة على كل الشركات الصناعية في مصر، أو إقحام أنفه في تعييناتها، وهو ما جعل هناك صدامًا دائمًا بين فاروق وصليب، لكنه في نهاية عهد الملك، وعندما جمع بين وزارتي التموين والصناعة شعر بكم الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة.
حاول الرجل أن يعيد الأمور لنصابها، ولكن صوت ثورة يوليو كان أقوى من أي محاولة للإصلاح لتسدل الستار على عهد الملكية، وعلى ذكريات صليب باشا سامي كذلك والتي قال إنه انتهى منها في 1953، ولكن ما أثبته محقق الكتاب دكتور سامي أبو النور أنه انتهى منها في 3 مارس 1958، وهو عام اعتزاله المحاماة.