رحلة الشاويش «صالح» من رعي الغنم إلى رصاصة بالرأس
هكذا كان نص القَسَم الجمهوري كما ورد في 18 يوليو/تموز 1978 على لسان الرائد بالجيش اليمني الشمالي «علي عبد الله صالح»، بعد فترة وجيزة من ترقيته إلى رتبة مقدم، وتعيينه رئيسًا للأركان.والآن بعد 40 عامًا من هذا القسم المُغلَّظ، شهدنا من كان الآمر الناهي خلالها، صريعًا على ثرى اليمن، في مشهد نهاية دراميٍّ قذافيٍّ، بعد أن أدار جمهوريتَه الاسمية عقودًا كقبيلة، أو كملكية خاصة، وتركه الآن ممزقًا، تقتات عليه حربٌ أهلية إقليمية لا نعلم لها نهاية منظورة، راح ضحيتها منذ بدء ضربات التحالف السعودي، والحصار الغاشم على اليمن، حوالي 9 آلاف يمني، وأصيب أكثر من 50 ألفًا، و أصبح 20 مليونًا (من أصل 27 مليون يمني، أي أكثر من 70% من الشعب) بحاجة للمساعدات الإنسانية.
من القصر إلى القبر
في منطقة ما تزال تتخبط في العصور الوسطى، وتحيا بميراثٍ سياسيٍّ شبيه بعصر المماليك، ليسَ من المستغرَب أن تظل قاعدة (القصر أو القبر) هي الحاكمة على ذهنية ومصائر الكثير من زعمائها. ها هو «علي عبد الله صالح»، بدلًا من أن يستمتع بتقاعدٍ آمن، على الأقل كالذي ناله رفيقه في الصورة الرباعية الشهيرة التي تظهر مخاليع الربيع العربي، حسني مبارك، ليتنعَّم مثلًا بالملايين التي جناها في صفقة واحدة كتسليم ميناء عدن للإمارات، أبت عليه شهوة السلطة إلا أن يتقاعد أبديًا على طريقة رفيقٍ آخر توسط الصورة نفسها!لم يكن غريبًا في بلدٍ كاليمن، يمثل السلاح فيه مصدر القول والفعل الرئيس، أن ينجح صف ضابط محدود التعليم والثقافة في القفز – في خضم اضطرابات سياسية وعسكرية كبيرة – إلى قصر الحكم. ولم يكن غريبًا أن يحاول بكل ما استطاع أن يبقى في القصر.التحق صالح في عمر 18 عامًا بمدرسة ضباط الصف 1960، فالجيش هو السبيل الوحيد لمن يحب أن يفكر قليلًا، ويفعل كثيرًا، ومن لا يريد قضاء عمره في رعي الأغنام كما كان يفعل في صباه. شارك صالح في ثورة سبتمبر/أيلول 1962 ضد نظام الإمام البدر، وما أعقبها من التدخل العسكري المصري لدعم الحكم الجمهوري الجديد. كان لصالح دور في الدفاع عن صنعاء إبان أحداث حصار السبعين يومًا، عندما كاد الملكيون 1967 يسقطون الحكم الجمهوري الجديد. وأخذ يترقى شيئًا فشيئًا في مدارج النفوذ داخل جيش اليمن الشمالي على مدار 3 أنظمة حكم متعاقبة.
جزء من تصريح لعلي صالح بعد عودته من رحلة العلاج بالسعودية بعد محاولة اغتياله في تفجير مسجد القصر الجمهوري يونيو/حزيران 2011
لم يتوقعْ الكثيرون أن نشهدَ الآن نهاية صالح ذي السبعة أرواح، الذي حكم اليمن الشمالي في ظرفٍ عصيب، في عمر 36 عامًا. حينها تكهنَّت المخابرات المركزية الأمريكية أنه لن يُكمل 6 أشهر في حكم بلدٍ شهد اغتيال رئيسيْن من خلفية عسكرية مثل صالح، وفي نفس سنه، في أقل من عام.كان أولهما المقدم «إبراهيم الحامدي» (1974 – 1977)، الذي قتل قبل أيامٍ من زيارة مرتقبة كان ينتويها إلى عدن عاصمة اليمن الجنوبي. أشارت أصابع الاتهام إلى بعض شيوخ القبائل، ومواليهم بالجيش. فالحامدي كان يحاول شيئًا فشيئًا تقليص نفوذ الجيش، وشيوخ القبائل، وكذلك التقارب مع دولة الجنوب اليمني الاشتراكية. وينسب للحامدي عقد المؤتمرات الشعبية، والتي كانت نواة حزب المؤتمر الشعبي العام الذي أسسه صالح، وهيمن به على مقدرات اليمن.الثاني هو «الغشمي»، الذي لم يُكمِل عامًا في الحكم، وقتل في عمر 37 عامًا بحقيبة مفخَّخة حملها مبعوثٌ رئاسي جنوبي، وحينها أشارت أصابع الاتهام شماليًا وإقليميًا إلى نظام عدن. تولى مجلسٌ رئاسي مؤقت الحكم، وسلَّم السلطة بإيعازٍ من الجيش، خلال شهر، إلى «علي عبد الله صالح» قائد لواء تعز العسكري، وصاحب النفوذ المتزايد بالجيش.اكتسب صالح من مصائر سابقيه المغامرين الدموية – بجانب دهائه وطموحه – قدراته التي طالما تفاخر بها في الرقص على رءوس الثعابين، ويقصد بها اللعب بمفاتيح اليمن القبلية والعسكرية، وخلق توازناتٍ مفيدة.لم تمضِ أسابيع على توليه السلطة، حتى أحبط علي صالح محاولة الناصري محمد فلاح الانقلابية المدعومة ليبيًا، وانهالت الإعدامات على مؤيديها. نجا صالح من أول اختبار حقيقي له في أتون اليمن، وأخذ بعدها يوزع المناصب الحساسة خاصة في الجيش على أقاربه من قبيلة حاشد، وأصحاب الولاء له.بدأت المرحلة الصدَّامية في حياة علي صالح، الذي كان معجبًا للغاية بالرئيس العراقي الطموح، حتى كان يتشبه به مظهريًا. أيَّده في حربه الطويلة ضد إيران، وتبادلا الزيارات، وكانت آخر زيارات صدام لصنعاء 1989. وكان الموقف الأصعب عندما انحاز صالح لصدام في تداعيات احتلال الأخير للكويت 1990، لم يؤيد اليمن إدانة العراق بمجلس الأمن وبالجامعة العربية. دفع ثمن هذا الموقف عشرات الآلاف من اليمنيين العاملين بدول الخليج.وعلى مدار 12 عامًا لصالح كرئيسٍ لليمن الشمالي 1978 – 1990، ركز على التغلغل بنفوذه، ودوائر ثقته في قطاعات اليمن الحيوية، وكذلك مراكمة الثروة. لم يندفع كثيرًا في ملف الوحدة الشائك مع الجنوب اليمني الاشتراكي، فمعظم القيادات الشمالية العسكرية والقبلية، كانت على خلافٍ كبير مع الجنوب اليمني، ويخشون من تمدد الأفكار الاشتراكية والشيوعية إلى الشمال اليمني المحافظ. استثمر صالح في تخوفات نخب الشمال الفكرية والاقتصادية من الجنوب، ليعزز سلطته، ويرسخ حكمه. وساعده دعم الجنوبيين لفصائل اشتراكية انفصالية شمالية.جاءت الفرصة لصالح على طبق من ذهب لكي يصنع من نفسه صولجان وحدة اليمن. فقد ضعف نفوذ الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينات، وتجمَّدت الحرب الباردة. أصبح الحكم الاشتراكي الجنوبي في وضعٍ حرج أمام منافسه الشمالي الذي يحظى برضا إقليمي أوسع. فبدا أكثر قبولًا لتحقيق الوحدة المنتظرة. خصوصًا مع تكرار الاضطرابات الداخلية الجنوبية كأحداث 1986 الدموية.في مايو 1990، يكلل صالح هذه الفرصة الذهبية، ويوقع اتفاق الوحدة مع الجنوبي علي سالم البيض، ليصبح هو الرئيس الأول للمجلس الرئاسي لليمن الموحد. لكن لم تمض الأمور في السنوات التالية بهذه السلاسة بين الإخوة الأعداء.
صالح موحد القطرين
توجد بردية شهيرة للفرعون المصري القديم مينا، يمسك برأس أحد خصومه الراكعين، إبان حرب توحيد مملكتي الشمال والجنوب. لم يختلف تعامل صالح مع الجنوب كثيرًا عن هذه الصورة. أمسك الشماليون مفاصل الجنوب . ومع مرور الشهور، لم يرَ الجنوبيون فائدة تُذكر من الوحدة. قاسمهم الشمال في مواردهم، ولم ينعكس عليهم مقابل تنموي كبير. تتطور الأحداث إلى اشتباكات هنا وهناك، واغتيالات متبادلة.
شهد منتصف 1994 حربًا شاملة بين الجنوب والشمال، وأعلن سالم البيض استقلال الجنوب مجددًا. خلال شهرين من الحرب، تمكن صالح بدعم قبائل الشمال من الاستيلاء على عدن، وفرت قيادات الانفصال إلى المنفى. وعاد نار الجنوب تحت الرماد إلى حين.
في السنوات التالية، لم تشهد البلاد تحسنًا يتناسب مع الآمال العريضة إبان الوحدة. فالطبقة الحاكمة الفاسدة وعلى رأسها صالح، ابتعلت الدخل النفطي، ومعظم المقدرات. في محاولاته للهروب للأمام، مارس صالح الشد والجذب مع السعودية لخلافاتٍ حدودية، تطورت لمناوشاتٍ تمَّ احتواؤها.جاءت فرصة ذهبية لصالح ليعيد تموضع نفسه دوليًا، بعد الهجوم على المدمرة الأمريكية كول عام 2000، وبروز تنظيم القاعدة في اليمن. أصبح صالح طرفًا في الحرب الأمريكية على الإرهاب، وتلقى المعونات العسكرية والاقتصادية. استخدم صالح كل هذا لإعادة هيكلة القوات المسلحة اليمنية دعمًا لنفوذه. فعزَّر قوات الحرس الجمهوري لتكون صمام أمان حكمه، وأعطى قيادتها لابنه الأثير أحمد. وخفتت مطالبات أميركا له بتعزيز الديموقراطية.شهدت هذه الفترة أيضًا فوز صالح في انتخابات رئاسية معدومة المنافسة عام 1999، وتعديلًا للدستور 2003 للسماح له بفترة رئاسية جديدة، بعد أن كان أعلن مرارًا أنه لم يكن ينتوي الترشح مجددا.
الحوثيون وصالح …. صدام وانتقام، وبينهما ثورة
من إحدى خطب صالح ضد الحوثيين أثناء حربه معهم في سنوات ما قبل الربيع العربي 2011
كانت انتصارات حزب الله على إسرائيل، مصدر إلهام تجربة الحوثيين التي بدأت من صعدة، أقصى شمال اليمن. صنعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة كذلك زخمًا للمظلومية الحوثية. استبدَّ القلق بصالح من مظاهرات الحوثيين الهاتفة بالموت لأمريكا ولإسرائيل، والتي تصفه بالعميل الأمريكي. بدأ صالح حملات القمع ضدهم وضد مناصريهم، وتصدير المكونات القبلية الأخرى في منطقتهم لمواجهتهم. أخذ الحوثيون يتسلحون شيئًا فشيئًا. وبدأت المعارك.خاض صالح 6 حروب ضد الحوثيين قبل ثورة 2011، أولاها في 2004، وقتل خلالها زعيمهم حسين الحوثي. ولاكتساب الداخل والخارج في صفه، اتهم الحوثيين بمحاولة إسقاط الجمهورية، وإعادة الإمامة الزيدية، وخلق ذراعٍ إيرانية شمال اليمن لتطويق الخليج جنوبًا. لم ينجح صالح في القضاء عليهم، رغم اشتراك السعودية معه في حرب 2009-2010.وجد الحوثيون في ثورة الشباب 2011 التي كانت جزءًا من الربيع العربي، فرصة سانحة للانتقام من صالح، فدعموها. وبعد عام من العناد، والمحاولات الدموية لإجهاض الثورة، أذعن صالح وترك الرئاسة مطلع 2012، بعد اتفاق الحصانة المبني على المبادرة الخليجية، وسُمِح له بالبقاء باليمن، وفرِّغَت الثورة من مضمونها بتسلم نائبه هادي السلطة.لم تكسر سنوات عمره السبعين، ولا محاولات اغتياله المتعددة حدة طموحه، فأخذ يناوش الوضع الجديد بنفوذه وأولاده في الجيش. وأخذ يستعيد الخيوط التي كان فقدها. تزامن هذا مع صدام الحوثيين السياسي مع الحكومة، والذي ظاهره الأوضاع الاقتصادية، وباطنه لا يعلمه إلا الله. ولما صعَّد الحوثيون الأمور، وشلَّت اعتصاماتهم صنعاء، ثم تطورت الأمور للمواجهة العسكرية مع قوات هادي، لم يجد صالح غضاضة في العودة للواجهة بالتحالف مع ألد خصومه. وهكذا سهَّل بنفوذه في الجيش استيلاءهم على صنعاء ومعظم اليمن 2014 – 2015. استفاد صالح من التواطؤ الخليجي الصامت أولًا على سحق الحوثيين للإخوان – التجمع اليمني للإصلاح – الذي أيد الثورة ضده، وشارك بحكومة هادي.على مدار 3 سنوات من تحالف العدوَّيْن، كان كل طرف ينام بعين واحدة، ويده على الخنجر. لم يكن من مصلحة الحوثيين القضاء على صالح الآن، وهم يعانون من حرب التحالف الغاشمة التي دمرت اليمن الذي استولوْا عليه. ولذا حذروه أغسطس الماضي عندما نظم استعراضًا شعبيًا حاشدًا، وبدت منه تصريحات تكشف بعض ما في الكواليس من اتصالات سرية بينه وبين التحالف. ويبدو أنهم كانوا متجهزين جيدًا للحظة عصيبة يفاجئهم فيها بالغدر.لم تكد تمر 4 أيام على انقلاب الذئب العجوز على الحوثيين، حتى كانوا قد ظفروا به، بعد حرب شاملة شهدتها صنعاء، تبادل الطرفان الاستيلاء على المصالح الحيوية في ساعاتها الأولى. لكن ما لبثت الكفة أن مالت للحوثيين رغم ضربات التحالف المؤيدة لصالح، وهكذا انتهى الفصل الإجباري من غرام الحوثيين مع عدوهم، والذي فرضه عليهم صعوبة سيطرتهم الأحادية على اليمن.رحل صالح المتلوِّن، الذي حاول تنصيب نفسه رمزًا لاستقرار اليمن ووحدته، غيرَ مأسوف عليه هنا أو هناك، بعد أن سلَّم طمعه البلاد إلى أقلية عسكرية كانت تمثل ألد خصومه. وترك بلده ممزقًا في حرب أهلية ظاهرًا، و إقليمية بالوكالة باطنًا.