قصة مثقف: صلاح عيسى وحكاية شخصية «لها العجب»
لاحقته الصحافة كوباءٍ لا شفاء منه أينما ذهب… يلتحق بمعهد دراسات اجتماعية فيكون أول ما يفعله أن يعمل بالجريدة الناطقة بِاسمه، وعندما يدخل السجن يُؤسس أول مجلة تصدر من وراء القضبان في مصر، وكلما خرج من السجن كتب وكلما كتب غضب عليه واحدٌ من السادة فيتلقّى الجزاء الوِفاق وهو العودة مجددًا إلى الزنزانة في متوالية لم تتوقف طوال حياته تقريبًا.
من كُتب التاريخ حتى جدران الحمامات العمومية لم تنقطع ابتكارات الرجل في تقديم خطاب صحفي «غير مألوف».
في أحد الأيام، دار على حمامات القاهرة العمومية وسجّل المكتوب على جدرانها ليوثق لنا بأصدق ما يكون حالة المصريين خلال فترة ما قبل حرب 1973م.
كما حوّل حكايات المقريزي وابن إياس من قصص صعبة اللغة مدفونة في كُتب تاريخ علاها التراب إلى باب صحفي يثير الإعجاب والقلق ولا يكفّ عن إزعاج «الإخوة اللي فوق»!
جذوة الثورة لم تتوقف عن الاشتعال في أعماقه منذ شارك لأول مرة في مظاهرات حريق القاهرة 1952م، من يومها لم يترك مصر وحدها في لياليها الكُبرى، شارك في مظاهرات «سلاح الطيران» و«انتفاضة الخبز» و«ضد التطبيع مع إسرائيل»، وحينما تخلو الأجواء من الهتافات لا يتوقف قلمه عن نثر الغضب هنا وهناك حتى حنق عليه كل قادة مصر فسُجن في جميع العهود.
تجلّت عظمة تجربته في أنه أجاد تحويل كل خبر إلى قطعة من المجتمع، واعتنق وجهة نظر خلدونية جعلته يعتبر أن النظرة الصحيحة لأصغر خبر لا تتعلق فقط بمحتواه وإنما بما يُحيطه من «هوامش» وهي الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نشأ فيها وتأثر بها وتفاعل معها.
لهذا عندما كتب عن حوادث قد تبدو مستهلكة وقديمة كوعد بلفور والثورة العرابية وقضية ريا وسكينة وسيرة فؤاد سراج الدين، فإنها تحوّلت على يديه إلى أطروحات دسمة بدا وكأننا نسمعها لأول مرة.
حتى اعتبره كثيرون «آخر أسطوات الصحافة المصرية» كواحدٍ من جيل عملاق فعلوا كُل ما يُمكن لرفع رأس صاحبة الجلالة.
قال عنه الأديب أحمد الخميسي:
في هذا المقال قرّرنا أن نتحدث عن صلاح عيسى مستخدمين طريقة صلاح عيسى، فلا نستعرض فقط أهم أخبار حياته وإنما نُقدِّم بكل ما علق حولها من هوامش.
مقدمة لا بد منها
وُلِد صلاح السيد متولي عيسى عام 1939 في قرية بشلا، التابعة لمركز ميت غمر في محافظة الدقهلية المصرية، ونشأ في بيئة «فسيفسائية الفكر»: فالأب وفدي وعمه ينتمي للحزب المنافس الأحرار الدستوريين بينما انضم عمه الآخر إلى جماعة الإخوان، أما الأم فهي أمية لا تجيد الكتابة ولا القراءة لكنها تعشق الكتب وتحرص على اقتنائها، وبعدما شبَّ وأتقن الطفل صلاح فنون القراءة والكتابة لعب كثيرًا دور الراوي لها، وكان يقرأ عليها كُتب «سير الأنبياء».
وربما يُلخِّص هذا المشهد جانبًا كبيرًا من تجربة الرجل الإبداعية، فهو لا يتوقف عن حكي السِيَر مع اختلافٍ طفيف في الجمهور الذي لم يعد مقتصرًا على أمّه ولكن على كل قرائه بكل الأنحاء.
يحكي صلاح أنه شهد في طفولته (فترة الأربعينيات) مصر وهي تتعمَّد بالدمِّ، بسبب سلسلة الحروب المتتالية التي عاشتها المنطقة خلال هذه الفترة.
في العام 1948م غادر قريته إلى القاهرة حيث تكشَّف له عالمٌ جديدٌ بالغ الاتّساع… رأى «العيش الفينو» وسمع فريد الأطرش وعرف من أصوات الإنذارات والقصف المدفعي، لأول مرة، أن مصر تخوض حربًا لحماية أرض أشقائنا في فلسطين.
ربما لعب عمه «الإخواني» دورًا في التقارب الذي أبداه صلاح مع الجماعة في صغره، إلا أنه سرعان ما طلّقها بالثلاثة منطلقًا في جنبات الفكر يتأرجح يمينًا ويسارًا حتى استقر على اليسار وسخّر له قلمه وعقله، وبدءًا من العام 1956م راح يكتب الدراسة الواحدة تلو الأخرى حتى ذاع صيته بعد تخرّجه، وتنبأ الجميع بأن صحفيًا كبيرًا قادمًا في الطريق.
المُشكلة أن طريق صلاح عيسى لم يكن على هوى السُلطة وقتها، أو في أي وقت، يحكي مثلاً أن أستاذة في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية حاولت في إحدى مراحل توهجه المُبكرة ضمّه إلى أسرة مجلة «الطليعة» الناطقة بلسان أهل اليسار المصري.
لم يُرفض طلبها فقط، وإنما عُوقبت بالإيقاف 6 أشهر لأنها تعرف أمثاله من المتطرفين!
لذا كان طبيعيًا أن نعلم أن جرائد مصر لم تفتح ذراعيها للصحفي النابه في بدايته، فلم يتفرّغ للصحافة وإنما اضطرَّ إلى العمل أخصائيًا اجتماعيًا في وزارة الشؤون الاجتماعية، كما حلّق قلمه خارج الحدود بعدما أكرمت وِفادته مجلة «الحرية» البيروتية، وتركت له مساحة للتعبير عن آرائه كما يشاء مقابل 20 جنيهًا في الشهر لم يتقاضَ منها مليمًا لكنه دفع ثمن كل ما كتبه في الإصدار البيروتي غاليًا.
في لحظة تهوّر قرّر صلاح عيسى الاحتفاء بمناسبة مرور العام الرابع عشر على قيام ثورة يوليو (عام 1966م)، عن طريق كتابة تحليل نظري شامل لمسيرة الثورة، ونشر الدراسة بعنوان «الثورة بين المسير والمصير»[1].
يحكي أنه حرص على أن تكون نظرته للثورة «لبقة» و«في جوٍّ واضح من الحرص على ثورة يوليو» إلا أن هذا لم يحمِه من غضب عبد الناصر الناري بحق ما كتب، فأشّر على مقالته بكلمتين كانتا كفيلتين بتغيير حياته «يُعتقل.. ويُفصل».
في سبتمبر من العام ذاته، تم القبض عليه بصُحبة 200 فردٍ في المؤسسات التعليمية، شملت الاعتقالات كل مَن كان له علاقة بتنظيم صغير يُدعى «وحدة الشيوعيين»، تمرّد على قرار السُلطة بحلِّ كافة التنظيمات الشيوعية فوجبَ تقريع أعضائه بتهمة «محاولة اليسار المتطرف التسلل في الجناح الشبابي للاتحاد الاشتراكي».
في سجون عبد الناصر
تلقّى في السجنٍ تعذيبًا قاسيًا، وتمَّ ضربه بالفلكة وسُحب على البلاط وعُلِّق بالزنزانة في إطار مساعي الأجهزة الأمنية الحثيثة «للبحث عن مؤامرة»، وكانت الخلفية السيريالية لكل هذه المعاملة الدموية هو صراخ زملائه الذي لم ينقطع بالخارج من فرط ما يقاسونه، وأحدهم يهتف «أنا في عرض عبد الناصر»!
اعتبر عيسى هذه التجربة هي «الأقسى في حياته»، وربما حينها ندم على التخلي عن الكتابة في مجال القصص القصيرة واتجاهه شطر مهنة البحث عن المتاعب بسبب ما اعتبره «موجة غباء» جعلته يُفضِّل النضال السياسي على الإبداع الفنّي.
وفي اليوم الأخير للتحقيقات قال له الضابط فيما يُشبه الاعتذار: «أنا قلت لهم من الأول إنك هايف وموراكش حاجة مصدقونيش»!
ما لم يعلمه صلاح عيسى وقتها، أنه ما كان ليخرج أبدًا من سجنه لولا زيارة تاريخية لاثنين من ألمع مُفكِّري فرنسا؛ سيمون دى بوفوار وجان بول سارتر، اللذين وُجِّهت لهما دعوة رسمية لزيارة القاهرة، فوافقا بشرط الإفراج عن المعتقلين السياسيين قبل وصولهما.
وهو ما استجابت له القاهرة ولفظت السجون صلاح عيسى وأمثاله على هامش زيارة سارتر التاريخية لمصر في فبراير 1967م.
والمفارقة أنه خلال اجتماع سارتر بعبد الناصر أثار معه قضايا حقوق الإنسان في مصر، وأخبره أنه ما إن وصل إلى القاهرة تلقى فندقه عشرات الخطابات يشكون له مما يتعرضون له من مضايقات، فما كان من عبد الناصر إلا أن أجابه بأنه سيطلب من أجهزة الأمن البحث عنهم!
بعدها تحدث نكسة يونيو فتهدم ما أسماه صلاح «عالمًا من الورق المقوّى»، ويعتبر أن الجيش في عهد عبد الناصر «غرق، حتى أذنيه، في المخدرات والخمر والجنس»، ويتجلى في قلمه أن النكسة الحزيرانية لم تكن مُجرد هزيمة عسكرية ولكن شبح أسود مقيت خيّم على المصريين ودمر نفسيتهم.
لكن أمثاله لم يكُن مقدرًا لهم البقاء أحرار كثيرًا، ففي العام 1968م اندلعت مظاهرات كبيرة في القاهرة، قادها طلبة الجامعات وانضمّ إليها الشعب فيما بعد، للتنديد بالأحكام الصادرة ضد قادة سلاح الطيران، معتبرين إياها أخف مما ينبغي لعقوبة المتسببين في كارثة يونيو!
انضم صلاح عيسى إليها، وراح يوزع المنشورات المُروِّجة لحالة الغضب التي تموج بين أفرادها، واعتُبرت أكبر غضبة شعبية شهدتها البلاد ضد حُكم زعيمها المُفدّى الذي تلقّى من أشهر دعمًا غير مسبوق فيما عُرف بـ «مظاهرات التنحي».
بدا للجميع أن «شيك البياض» الذي كان ممنوحًا لناصر سُحب منه، وأنه لو لم يسر كما ينبغي سيسمع ما لا يُرضيه، لذا لم تمتلك صُحف الدولة ما يكفي من البجاحة لانتقاد هذه المظاهرات بما فيهم هيكل عرّاب عبد الناصر الأول، فالمصيبة جعلت أيادي الجميع مرتعشة ومن ضمنهم حَمَلة الكرابيج، وأبدى الجميع تفهمًا وتعاطفًا مع أصحابها.
لكن بعدما استمرّت هذه التحركات لأكثر من يومين، وبدا أنه ستُشكِّل خطرًا على استمرار النظام، بدأت الداخلية في التعامل وضرب المتظاهرين بالخرطوش واعتقال كل مَن تطالهم أيديهم، وكان منهم عيسى.
استجابت الدولة لطلبات المتظاهرين وأعادت محاكمة ضباط الطيران، لكن سِعة الصدر هذه لم تشمل صلاح عيسى، فعندما حاول خالد محيي الدين التوسّط لصلاح عند عبد الناصر، أقسم الأخير غاضبًا: «طول ما أنا عايش مش هيطلع من السجن».
وعندما كرّر الزعيم الفلسطيني نايف حواتمه رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، العرض على عبد الناصر أتاه الرد نفسه.
كان هذا أحد الوعود القليلة التي صدق فيها زعيم مصر، ولم يخرج عيسى من سجن طُرة إلا عام 1971م بعد وفاة عبد الناصر بعدما بقي حبيس الزنازين 3 سنوات، لم يتوقف فيها عن الكتابة مستخدمًا مكتبًا مصنوعًا من الأقفاص ثم منضدة من صفيح ومستعينًا بدعم «رفاق الزنزانة» له عبر إعفائه من واجبات الكنس وتنظيف دورة المياه كي يتفرغ للإبداع، فنشر 15 مقالاً في جريدة المساء بِاسم مُستعار، ووضع اللبنات الأولى لكتابه التاريخي الأول الثورة العرابية (نُشر عام 1979م)، كما ألّف عدة قصص قصيرة كان حظها أفضل من محاولة عيسى الروائية الأولى «أحزان شارع القمر» التي حاول كتابتها في السجن عام 1968م، لكنه كُشف وتم إحراقها[2] على أيدي «جنود طُرة».
ظهرت هذه المجموعات القصصية في كتابٍ واحد نشره عيسى عام 1992م، بعد 20 عامًا تقريبًا على تأليفها، اختار لها عنوانًا أوليًا هو «جنرالات بلا جنود» عدّله بعدها إلى «بيان مُشترك ضد الزمن».
ليكون هذا هو البيان الوحيد الذي وافق على إصداره وهو مُعتقل، بعدما طُلب منه -بصُحبة المعتقلين اليساريين- أن يُصدروا بيانًا لتأييد عبد الناصر، وافق الكثيرون معتقدين أنه طوق النجاة لخروجهم من السجن إلا أن صلاح رفض!
ظنَّ عيسى أن «البِلية ستلعب معه أخيرًا» بعد زوال عهد رئيس أقسم على قصف قلمه، واستبشر خيرًا بعهد السادات فقرّر التفرّغ للصحافة لأول مرة، فالتحق بجريدة الجمهورية التي عمل بها 6 أعوامٍ مُتتالية، لم تمرُّ بلا منغصات بالطبع، وتعرض للاعتقال عدة مرات (أعوام: 1972م، 1975م، 1977م، 1979م، 1981م).
لكن يكفي «الجمهورية» فضلاً عليه أن عرّفته على شريكة الدرب والقلب أمينة النقاش شقيقة صديقه رجاء النقاش، ولم تُتوَّج هذه القصة بالزواج إلا عام 1977 بالرغم من اعتراض أخيها، لتكون ثاني زيجاته بعد السيدة فريدة أحمد، مديرة التحرير السابقة في وكالة أنباء الشرق الأوسط، وأم ابنته الوحيدة سوسن، أستاذ الهندسة بجامعة القاهرة.
حكايات صلاح عيسى
يحكي عيد عبد الحميد:
في هذه الأيام، بدأ عيسى في تنفيذ حلمه القديم «حكايات من مصر»، ويعتبر أن الفكرة تولّدت في رأسه من متابعته المعتادة للصحف المصرية والعربية، بعدما بدأت الأهرام في نشر باب يتضمن مختارات مما كانت تنشره في سنوات صدورها الأولى، وفيما بعد انتقلت هذه العدوى إلى باقي الصحف، وهو الأمر الذي تابعه اهتمام لكنه أخذ عليه «الاقتطاف من الماضي» ونشر الأخبار بلا عقلٍ يختار وينسق ويفسر ويحلل فقرر أن يقوم هو بهذا الدور، وذلك في مسعى منه لتزويد القارئ الذي يعتمد على الصحف لتكوين معارفه، بما يلزمه من معلومات تاريخية لا يستطيع معرفتها من المراجع التاريخية صعبة اللغة.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي اتّبع أسلوبًا فريدًا مزج فيه بين الصحفي جامع المعلومات النهم، وبين الأديب المعني بجودة الكلمة وأدق الجزئيات، وبالتحديد جزئيات التاريخ الصغيرة ودلالاتها هي التي شغلت اهتمامه.
نُشرت هذه الحكاوي بأسماء متعددة: «أنابيش مصرية» في مجلة الإذاعة والتليفزيون استمرت 3 أعداد، ثم في الجمهورية تحت عنوان «الهوامش» وكان يُوقّعها بِاسم المقريزي، ونُشرت بشكل شبه مستمر طوال 3 أعوام تقريبًا من 1972م حتى 1975م عندما اعتُقل مُجددًا بتُهمة «مناهضة وزارة الثقافة»!
وقطعًا لم تكن مقالات مُحصَّنة عن مقصلة الرقيب، ففي مناخ أمني بامتياز كالذي عاشته مصر في زمن السادات، لم يكن يتخيل أحد أن يكتب عيسى عن «الخليفة الحمار» وتدخل الفاطميين في عمل شيوخ الأزهر، والأمير «خمارويه» الذي كان مشغولاً بالسفه والتبذير، والعبد الأسمر الذي حكم مصر (كافور الإخشيدي)، والوزير «البباوي» الذي تغنّى المصريون بغبائه، فقال الشاعر: (كُن حمارًا مثل البباوي :: فالسعد في طابع البهائم)، دون أن يعتبرها إسقاطات على الواقع، و«اللي على راسه طوبة»، والمشكلة أنه ما أكثر من ذوي البطحات الذين «حسّسوا» فتوقف الباب مرارًا وتكرارًا لفترات تراوح طولها بين 3 أسابيع و8 أشهر!
كانت واحدة منها إرضاءً ليوسف السباعي الذي اتهم صلاح بأنه هاجمه بضراوة من خلال عرض إسقاطات تاريخية على شخصيات تحمل اسم «يوسف»، وعندما تحدّث عيسى يومًا عن التأثير السيئ لزينب الوكيل زوجة مصطفى النحاس على زعيم الوفد اعتُبر أن كلامه تعريضٌ بجيهان السادات!
أخلص عيسى لليسار وسخّر قلمه في الدفاع عنه والحطِّ من «أصحاب اليمين»، لكنه عاب على اليساريين مراهقتهم السياسية التي كلفتهم أن ينحصر دورهم في «الطنطنة على المقاهي» تاركين الساحة لغيرهم ليملؤوا آذان السُلطة بما يُريدون.
وعندما حدثت حرب أكتوبر اعتبر أنها «عرّت مجتمع المثقفين المصريين»، مستشهدًا على ذلك الرأي بالاجتماع الذي عقده يوسف السباعي وزير الثقافة، حينها، مع الأدباء والصحفيين من كافة التيارات؛ لبحث موقفهم من دعم الجنود على الجبهة فتبادلوا السباب والعراك وانفض «المولد بلا حُمص».
في أحد الأيام ما بعد حرب أكتوبر، فوجئ عيسى بمنشورٍ يُوزع داخل «الجمهورية» يُهاجم مَن أسماهم «الصحفيين الشيوعيين»، ووُضع صلاح من ضمنهم بسبب «هوامش المقريزي»، التي اعتبرها كتّاب المنشور الغامض «تُهاجم الحرمات، وعددًا كبيرًا من الوزراء وكبار المسؤولين والكتاب الوطنيين في مصر».
ليسري عليه ما كتبه بنفسه في إحدى حلقات هوامش المقريزي، بأن الاتهام بالكفر والإلحاد والخروج عن دين الله، هي التُهم التقليدية التي دأب الطغاة والخونة والعملاء على توجيهها لكل صاحب رأي.
وبسبب هذه الأزمة اختفت الهوامش 9 أشهر كاملة من 4 فبراير 1972م وحتى 30 أكتوبر 1973م، فتح عيسى على نفسه فيها أبواب معركة أخرى بعد توقيعه على بيان الأدباء الشهير الذي طالَب السُلطة بالتوقف عن موقفها المائع من الحرب، فيثور عليهم السادات ويأمر بسحقهم جميعًا، رغم أن القائمة حملت فطاحل الثقافة المصرية على رأسهم توفيق الحكيم، وشملت: يوسف إدريس، فريدة النقاش، جمال الغيطاني، صلاح السعدني، أمل دنقل وغيرهم، تم إقصاؤهم عن مناصبهم باعتبار أنهم «أخلّوا بواجباتهم الاشتراكية»، وهي المشكلة التي حُلّت بسبب نصر أكتوبر، الذي أجّج في السادات رغبة لفتح صفحة جديدة مع خصومه فأعلن في 28 سبتمبر 1973م عن عودة الصحفيين إلى وظائفهم.
بعد انتهاء المعارك وانقشاع الغبار عن كيفية استغلال هذا العمل العسكري الباهر في تحرير باقي أرض مصر، بدأت الاعتراضات تطفو إلى السطح، فكتب صلاح في مجلة الكاتب مقالاً بعنوان «مستقبل الديمقراطية في مصر» أقام الدنيا وأقعدها بعدما أثار غضب يوسف السباعي، وكتب عنه مقالاً ضاريًا في الجمهورية اعتبر فيه أن عيسى «انحرف عن الخط الوطني»، وأنه (يقصد نفسه) مسؤول بحُكم وظيفته الوزارية عن ألا يتكرّر ذلك مُجددًا، فردِّ عليه عيسى بمقالٍ لا يقل سخونة منحه عنوان: «دع مائة زهرة تتفتح ولو أدمتك أشواكها» اعتبر فيه الوزير «معاديًا للفكر اليساري»، وأنه يستغل منصبه لتصفية خصومه، لذا شنُّ «حربًا صليبية» على اليساريين تتهمهم بأنهم قرامطة!
لم يشفع له ما كتب عند السباعي الذي لم يكتفِ بمنع عيسى من الكتابة وإنما أطاح بالهيئة التحريرية للمجلة كلها.
بعدها، بدأ السادات في إجراء سلسلة من التغييرات الهيكلية في الاقتصاد لم يتحمّلها الشعب فانتفض ضدها يومي 18 و19 يناير عام 1977م والتي سُميت بـ «انتفاضة الخبز» أو «ثورة الحرامية» وفقًا لموقع صاحب المصطلح من السُلطة.
لم يكن حدث بهذا الحجم ليفوت على المشاغب الأبدي، ولم تكن العقوبة لتفوته أبدًا، ففُصل من جريدة الجمهورية، ولم يعد إليها إلا بعد 10 أعوامٍ كاملة، مات فيها السادات وخلفه مُبارك، بعدما نظّم عيسى إضرابًا عن الطعام في نقابة الصحفيين.
إلا أن هذا لم يعنِ أن يعود إلى الهدوء في ظل «مصر كامب ديفيد»، ففي العام 1981م علم أن إسرائيل افتتحت لنفسها جناحًا في معرض القاهرة الثالث عشر للكتاب، فوقف أمامه وهو يُعلِّق على صدره علم فلسطين!
يحكي أنه لم يحتمل أبدًا تحوّل إسرائيل من «عدو ودولة مزعومة» إلى «شبه صديق». وفي اليوم التالي، كانت نيابة أمن الدولة تُحقّق معه وتتوعّده بـ «تأبيدة» إذا ما أُدين بتهمة: «القيام بعمل عدائي ضد دولة أجنبية».
وفي الواقع، كان صلاح سيد العارفين بأنه لا تُوجد حاجة لـ «تفصيل عقوبة» تُبرِّر سجنه، فهو خير مَن تحدّث عن «مزاج الحاكم» الذي كتب عنه مرارًا في هوامشه المقريزية، وأرّخ للناس الذين عانوا الأمرّين لمجرد أن السُلطان غضب عليهم.
ما إن حلَّ ضيفًا غير معززٍ ولا مُكرِّمٍ على سجن القلعة ذي البنية المتداعية، حتى كتب على جدرانه «صلاح عيسى.. التهمة إهانة إسرائيل» وكان أول عربي ينال هذا الشرف.
ربما حينها استرجع ذكريات خاله الذي رأى شحاذًا فلسطينيًا يطلب طعامًا بعدما تخلّى عن بلاده خوفًا من مذابح اليهود، فما كان من الخال إلا أن أوسعه ضربًا وهو يصرخ به «سبت أرضك ليه؟». ربما لو عاش الخال في الثمانينيات لجاوَر ابن أخته في الزنزانة وما خرج منها أبدًا.
رئيس تحرير «مجلة المساجين»
تحدث اعتقالات سبتمبر، ولم تكن كشوفات رجال الأمن لتُخطئ عيسى أبدًا، وُضع مع فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد[3]، ومحمد عبد السلام الزيات، وزير الخارجية السابق، في زنزانة واحدة حملت الرقم 14.
وكعادته خصّص الرجل سجنه للإبداع فأسّس مجلة «الزنزانة» الإذاعية يُحرّرها من وراء القضبان، وعيّن فؤاد باشا مُحرّرًا رياضيًا بها!
يحكي أن دعايته الوحيدة لمجلته، أن «تشعبط» في باب الزنزانة، وراح يهتف لرفاقه المساجين: «ترقبوا.. يوم السبت تصدر مجلة الزنزانة.. أخبار مثيرة.. تحقيقات جريئة».
أجرى حديثًا مع رفيقه في الزنزانة المجاورة وابن كاره اللدود محمد حسنين هيكل، ودعا المعتقلين لتوجيه رسائل إلى أهلهم بالخارج. وفي الختام، ودّع العدد الأول من مجلته الإذاعية ببيت شعر شهير قاله حافظ إبراهيم هجاءً لرئيس وزراء مصر إسماعيل صدقي: «ودعا عليك الله في محرابه :: الشيخ والقسيس والحاخام»، فرد عليه أحد المساجين قائلاً: «بس الحاخام ما بيدعيش عليه يا صلاح» (إشارة إلى السادات وصُلحه مع اليهود).
هل رفع راية الاستسلام؟
خاض الرجل رحلة حافلة بين جنبات الصُحف المصرية والعربية، فشارك في تأسيس الإصدار الثاني من جريدة «الأهالي» عام 1982م، وأصبح مديرًا لتحريرها عام 1986م، واستقال من هذا المنصب في مايو 1988م، ثم بعد ذلك تنقّل في عِدة صحف كـ «الثقافة الوطنية» و«الصحفيون» و«اليسار» إلا أن محطته الأكثر جدلاً هي جريدة القاهرة التابعة لوزارة الثقافة المصرية في عهد وزيرها فاروق حُسني.
وفتحت هذه الخطوة النار على الطرفين، فمؤيدو النظام الحاكم استنكروا أن يكون «شيوعيًّا» على رأس جريدة تُمولها الحكومة، أما معارضو النظام فاعتبروا أن ما فعله عيسى هو «بيع للقضية» و«ارتماء في حظيرة الحكومة» خاصة بعد تعيينه عضوًا في المجلس الأعلى للإعلام، وظنَّ البعض أنه نكَّس راية النضال، وهي التُهمة التي ظلَّ يتبرأ منها حتى مماته.
وفي أبريل من العام 2000م، صدر البيان الأول لجريدة القاهرة يُحدِّد هويتها بأنها «ليست جريدة للنخبة أو المختصين، ولكنها جريدة ثقافية عامة تخاطب قارئ الصحيفة اليومية والأسبوعية بمختلف مستوياته»، وحمل عنوان «دع مائة زهرة تتفتح ولو أدمتك أشواكها»، وهو نفس عنوان المقال الذي تحدّى به عيسى وزير الثقافة يوسف السباعي خلال أزمة جريدة «الكاتب».
وقال الصحفي محمد الشماع مدير تحرير جريدة «القاهرة» الأسبق، والذي يُعدُّ كتابًا عن صلاح عيسى لـ «إضاءات»: «من خلاصة تجربتي وقعدات سنين طويلة أقدر أعتبره «محقق» وليس كاتبًا صحفيًا أو مؤرخًا عاديًا للماضي، وهو ما يظهر في معظم تجاربه الأساسية التي كان يعتني بتدقيق أحداثها ومعلوماتها بل ومصطلحاتها اللغوية.
ويضيف الشماع الذي عمل في جريدة القاهرة من 2007م وحتى 2012م: «عُمره ما كان بوق للنظام، واللقاءات التي جرت بينه وبينه مبارك لم تكن «لطيفة» بسبب الخلاف بين الطرفين في الحريات وحقوق الإنسان، كما أنه سمح لي خلال ثورة يناير بأن أكتب يومياتي مع الثورة في صفحات الجريدة، وكانت كتابتي حافلة بالسخرية من مبارك ولم يمنعها».
ويؤكد: «محصلش طوال وجودي إن صلاح عيسى منع موضوع ضد فاروق حسني أو حسني مبارك».
عانَى الرجل من مشاكل كبيرة بشرايين القلب التاجية، تكفّلت الدولة بعلاجه، وسافر إلى إنجلترا حيث على يدي أفضل طبيب متخصص في عمليات القلب المفتوح، وبخلاف ذلك لم يكن يُعاني من متاعب صحية مزمنة، فقط الضغط والسُكر وحساسية بالصدر، حتى أنه تواجَد في جريدته قبل رحيله ببضعة أيام.
حتى فوجئ الجميع في نهاية العام 2017م بتعرض الرجل إلى أزمة قلبية حادة لم يستطع الأطباء إنقاذه منها فأودت بحياته، ولفظ أنفاسه الأخيرة في مستشفى المعادي العسكري.
- المفارقة الكبرى، أن صلاح نصر مُؤسِّس جهاز المخابرات في عهد عبد الناصر، والرائد الأول للعقلية الأمنية التي حكمت النظام وقتها، وكانت سببًا في اعتقال صلاح عيسى وغيره من المثقفين، عندما قرّر كتابة مذكراته لم يجد عنوانًا أفضل من عنوان صلاح عيسى، وصدر كتابه بعنوان: «ثورة 23 يوليو بين المسير والمصير».
- نُشرت هذه الرواية لأول مرة عن دار ابن رشد في بيروت عام 1980، إلا أن هذه الطبعة شابتها الكثير من المشكلات التي تم حلها في الطبعة التي أصدرتها دار الهلال بعد 35 عامًا على كتابتها.
- فيما بعد، ألّف عيسى كتابًا كاملاً عن فؤاد سراج الدين وعن تنكيل محكمة ثورة يوليو به حمل عنوان «محاكمة سراج الدين باشا».