السلفية السودانية والصعود الحذر في بلد «ود ضيف الله»
عرف السودان أنه بلد التصوف وأضرحة الأولياء لأن الإسلام انتشر عبرهم في السودان بدون درقة أو سيف أو فتوحات أو معارك، تقول مراجع التاريخ أن جيش الفتح الإسلامي في عهد عثمان بن عفان استعصت عليه دنقلا عاصمة مملكة النوبة الشمالية «المقرة» فوقع معها اتفاق البقط والذي كان من بنوده السماح للمسلمين بإقامة مسجد وحرية الدعوة في مناطق النوبة.
ولكن لم تكن هناك دعوة بمعناها الحقيقي في مناطق النوبة شمال السودان حتى ظهر الصوفيون وانتشروا في شمال السودان في القرن الرابع الهجري حاملين دفوفهم وأورادهم ومن شمال السودان إلى شرقه. ظهر المتصوفة ناشرين رسالة الحب للنبي وأهل بيته، وأما في غرب البلاد فقد جاءها إشعاع دعوات المتصوفة من أهل المغرب ناشرين التيجانية والقادرية وحاملين مذهب الإمام مالك. وكان لانتشار التصوف واكتساحه للسودان الدور الكبير في أسلمة المجتمع السوداني في زمن سلطنة سنار واقتلاع جذور المسيحية، حتى أن الرحالة العثماني أوليا جلبي كتب في «سياحتنامه» أن سبب مقصده للسودان رغبته في زيارة أوليائها الصالحين ذائعي الصيت بالكرامات والتي دوّن أكثرها المؤرخ السوداني ود ضيف الله في كتابه «الطبقات».
تاريخ السلفية السودانية
كان أول تأسيس لنواة السلفيين في السودان على يد الشيخ أحمد حسون في عام 1936م وذلك تأثرًا منه بتاجر من أهل المغرب اسمه «عبدالرحمن بن حجر» كان من أنصار منهج ابن تيمية في العلم الشرعي وكانت الحكومة البريطانية قامت بطرد هذا التاجر المغربي إلى الحجاز بعد أن اتهمته بأنه يبث دعوات تحريضية تهدد النظام العام، فهاجر الشيخ حسون إليه هناك وطلب على يديه العلم الشرعي.
ثم أسست جماعة أنصار السنة المحمدية كأول جماعة سلفية في البلاد امتدادًا لجماعة أنصار السنة المصرية التي أسسها الشيخ محمد حامد الفقي. ورغم أن أنصار السنة عندما تأسست كان قانونها الأساسي محتويا على عدم ممارسة العمل السياسي؛ إلا أن رئيسها الشيخ عبدالله الغبشاوي كان ناشطًا في حزب الأمة، وزعيم أنصار السنة التاريخي الشيخ محمد هاشم الهدية كان ناشطًا في الحزب الاتحادي الديمقراطي وفي مؤتمر الخريجين. أي أن الفترة الأولى من عمر الجماعة – نواة السلفيين الرئيسية – كان القائمون عليها يرون تجريم العمل باسم الجماعة دون تحريم العمل السياسي ابتداء حتى لو كان من خلال الأحزاب الوطنية «غير الإسلامية».
وظل الحال على ما هو عليه جماعة دعوية فقط تنشط في محاربة المنكرات حتى جاءت الستينات وبدى أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفن الإسلاميين؛ فبعد قيام ثورة أكتوبر التي كانت في منتصف الستينات كانت ذروة المد اليساري والناصري في الدول العربية شعر الإسلاميون السودانيون بالقلق والاستهداف من أن ينال الشيوعيين السلطة وينفردوا بها لينكلوا بهم مثلما فعلوا في مصر، وهذا ما دفعهم للتكتل في جبهة عريضة ضمت المتناقضات «أنصار السنة والإخوان والطريقة التيجانية». سميت هذه الجبهة بجبهة الميثاق الإسلامي وكانت هذه الجبهة تجسد لحظة كبرى في تطور الفهم السياسي عند السلفيين من العمل الدعوي الفردي إلى فكرة العمل الجبهوي تحت لافتة عريضة.
لكن ممارسات زعيم جبهة الميثاق حسن الترابي «الاستبدادية» وقانون حظر الحزب الشيوعي الذي صدر من البرلمان عام 1968م كانا سببًا في تصدع جبهة الميثاق؛ فالشيوعيين الذي توحدت ضدهم الجبهة أصبحوا تحت الأرض وبالتالي لم يعد السلفيون مضطرون لدعم الترابي.
وجاء انقلاب 1969م الذي قاده جعفر نميري بدعم من اليساريين بما فيهم الشيوعيين فاستهدف جميع الإسلاميين في البداية وألقى بهم في السجون ثم ما لبث أن أطلق سراح الجميع شريطة عدم ممارسة النشاط السياسي وهذا ما التزم به مشايخ أنصار السنة فطلقوا العمل السياسي واتجهوا للدعوة إلى الله ومحاربة الخرافات.
عندما جاءت ديمقراطية ما بعد عهد نميري زهد السلفيون -أنصار السنة- في العمل السياسي حتى انقضت الديمقراطية وعاد نظام الإنقاذ الذي يقوده الرئيس عمر البشير والذي استطاع إقناع التيار السلفي -أنصار السنة- بالمشاركة في السلطة بوزير في مجلس الوزراء وبتمثيل في السلطات الولائية طوال فترة ما بعد نيفاشا 2005 ثم تم التأكيد على تلك الخطوة بالمشاركة في فترة حكومة القاعدة العريضة ما بعد انفصال دولة جنوب السودان في 2011م.
غير أن خطوة المشاركة جلبت انقساما في صفوف السلفيين فقد اعتبر بعض السلفيين أن المشاركة في السلطة ليست هي مهمة الدعاة إلى الله من السلفيين بل مهمتهم محاربة مظاهر الشرك والبدع وأن العمل السياسي يشغلهم عن مهمتهم الأساسية. وكانت هذه الكتلة بقيادة الشيخ أبو زيد محمد حمزة رحمه الله وانشقت تحت اسم جماعة أنصار السنة الإصلاح بينما ظلت الكتلة الرئيسية للسلفيين«أنصار السنة المركز العام» محبذة خيار المشاركة في الحكومة وعدم التفريق بين الدعوة والسياسة.
السلفيون ما بعد فترة الإنقاذ
السودان كبلد مقبل على منعطف تاريخي وتغيير، هكذا تقول تقديرات جميع الخبراء والمحللين السياسيين، والسلفيون موعودون أن يكون لهم نصيب من هذا التغيير كونهم التيار الإسلامي الذي لم يتلطخ بوسخ السلطة ولا زالت صورته أمام المجتمع مشرقة – ولو جزئيا – ولذلك ففرص السلفيين كبيرة في أن يكونوا رقما صعبًا في السياسة السودانية في فترة ما بعد الإنقاذ، أو حتى في فترة ما بعد تكون الحكومة الإنتقالية – لو قبل الإنقاذيون بمخرجات الحوار. ولكن على السلفيين أن يتهيئوا لهذه الفرصة التاريخية من الآن ليمسكوا بدفة الحكم ويديروا الدولة بكل حرفية واقتدار.
ما ينقص السلفيين ليكون لهم دور سياسي كبير هو:ـ
(1) عدم الإدراك السياسي
وأقصد به عدم وجود فهم سياسي واضح فلا زالت الجماهير السلفية لا تتمتع بالوعي السياسي وبالتالي من السهل حشدها لصالح خطوط معادية تودي بها للمهالك. يكفي أن تعطي أي سلفي آية أو حديثًا أو أثرًا حتى تسوقه نحو خطك وكذلك الدولة تستغل هذا الأمر فتنشر بين السلفيين من يروجون لأحاديث طاعة الحكام ويربطون بينها وبين طاعة الحكومة وبالتالي تدفع بعض السلفيين ليكونوا خط دفاع أول عن النظام.
(2) الحزب السياسي
ينقص السلفيين في السودان حزب سياسي يضمهم ويسهل عليهم تثقيف عضويتهم وعوام الناس على فهم سياسي سليم. ولهذا يلزمهم اجتهاد في مسألة الحزب السياسي فلا يعقل ألا يكون للتيار السلفي – وهو تيار عريض في المجتمع – حزب يتكلم باسمه ويدافع عنه.
وفي إطار عمل سياسي رشيد يحتاج السلفيون السودانيون لحزب سياسي يمثلهم وعليهم أن يستفيدوا من تجربة حزب النور المصري وحزب جبهة الإصلاح التونسي وحزب الرشاد اليمني ويبنوا على هذه التجارب تصورًا لحزب سلفي سوداني، وعلى علمائهم أن يجتهدوا في تبيان الفارق بين الحزبية المذمومة والحزبية التي لا تخالف الشرع.
(3) وضع تصورات واقعية لإدارة دولة حديثة
كذلك مما ينقص الإخوة السلفيين وضعهم لبرنامج سياسي واضح لإدارة الدولة، فلا يعقل أن تيارًا عريضًا مليئًا بعدد كبير من الكوادر في المجالات المختلفة ومع ذلك لا يملك أي ورقة لبرنامج اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي إذا ما استلم السلطة الآن وعلى السلفيين ألا يعولوا على كتب السياسة الشرعية فهي اليوم عديمة الفائدة لأنها وضعت لدولة بدائية في القرون الوسطى ودولة اليوم «الحديثة» هي دولة جبارة على الدولة فيها التزامات كبيرة تجاه شعبها ولها سلطات كبيرة لم تكن تحلم بها دولة«أحكام الماوردي السلطانية».
ولهذا عليهم أن يفكروا كيف سيديرون دولة متعددة فيها تعدد عرقي وديني كيف سيتعامل السلفيين مع قبب الصوفية إذا ما فازوا في انتخابات الرئاسة وكيف سيتعاملون مع غير المسلمين والذين هم حاليا لم يعودوا ذميين ولا يدفعون الجزية لخزينة الدولة؟ وكيف سيتعاملون مع مواطنيهم من غير المتدينيين الذين يريدون ما يراه السلفيين حرامًا مثل الطرب والاختلاط؟ وكيف سيتعامل السلفيين مع الدول الغربية والشرقية مثل أمريكا وروسيا والإقليمية مثل تركيا وإيران؟
أتمنى من الإخوة السلفيين كتابة ردود على هذه الأسئلة استعدادًا لاستلام السلطة متى ما سقطت ثمرتها في أيديهم وحتى يكون قد اتعظوا من تجربة الجبهة الإسلامية الفاشلة التي استلمت السلطة دون أي تصورات لماهية الدولة.
(4) الخطاب الرشيد
وينقص السلفيين خطاب رشيد لمخاطبة المجتمع فمنذ وفاة الداعية الراحل محمد سيد حاج رحمه الله – الداعية السلفي الكبير – لم يستطع التيار السلفي تقديم داعية محترم لمخاطبة الجماهير بخطاب يحرك القلب والوجدان ويخاطب الشباب ويحمسهم للالتزام بطريق الشرع وتركت المنابر لأشباه الدعاة من خريجي أركان النقاش الذين لا يتحلون بأدب وأخلاق محمد سيد حاج رحمه الله وهذا ما أفقد السلفيين زخمهم الذي كانوا عليه في فترة الألفية ولذلك فعلى السلفيين إرسال أبنائهم لدورات التنمية البشرية ليتعلموا أدب مخاطبة الجماهير حتى لا يسمع الناس عنهم تلك الخطابات المؤسفة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي.