عشقته ملكة فرنسا واعتنق المسيحية: صلاح الدين في الأدب الأوروبي
عشقت زوجة ملك فرنسا لويس السابع السلطان المسلم صلاح الدين الأيوبي، وكانت تراه أكثر وسامة وشهامة ورجولة من زوجها، وحاولت الهرب من زوجها واعتناق الإسلام من أجل أن تتزوج من صلاح الدين، ولكنها فشلت وأُلقي القبض عليها.
ما سبق هو جزء من قصة خيالية نُسجت في أوروبا وليس في الأراضي العربية، كتبتها أيادٍ لا تعتنق الإسلام، ولكنها أيادٍ معجبة بصلاح الدين، رغم الدماء الأوروبية التي سالت على يديه، ورغم الهزائم التي أوقعها بهم، ورغم طردهم من القدس.
وهي ليست القصة الوحيدة التي تتغزل في صلاح الدين، فبعض الأساطير الأوروبية التي نُسِجت حولت – كذبًا – صلاح الدين إلى بطل مسيحي، من شدة الإعجاب به، والتمني بأن يكون معتنقًا لدين الأوروبيين.
في السطور المقبلة نتعرف على صورة أسطورية مليئة بالعظمة، رسمها الأدب الأوروبي لصلاح الدين الأيوبي، ونبين كيف نشأت هذه الصورة وكيف شاعت في الأوساط الشعبية الأوروبية خلال القرون الوسطى.
قصص خيالية عن صلاح الدين
عشرات من القصص الأسطورية نُسجت عن صلاح الدين في المخيلة الأوروبية، الفرنسي منها تحديدًا كان ينظر إليه بشكل إيجابي جدًّا، إحداها تخيلت أنه رُسِّم كفارس صليبي، وأخرى جعلت صلاح الدين يحاسب حاكم مدينة قيصرية الصليبي لأنه يظلم رعاياه المسيحيين.
وانتشرت هذه القصص حتى إن البعض تمنى أن يكون صلاح الدين سلطانًا عليهم، وأن يعتنق المسيحية، كما أن هناك أساطير قالت إنه اعتنق المسيحية بالفعل لكنه تركها استياءً من رجال الدين المسيحي، وقصص أخرى زعمت أنه اعتنق المسيحية قبل وفاته بدقائق، حسبما يوضح المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول في كتابه «صلاح الدين وسقوط مملكة أورشليم – Saladin and the Fall of the Kingdom of Jerusalem».
من أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت صلاح الدين مجموعة قصص فلكلورية سُمِّيت بـ «حكايات منشد ريمس»، والتي تعود إلى منتصف القرن الثالث عشر ميلادي، وكان يرددها منشدو التروبادور، هذا النمط الشعري الغنائي الذي ازدهر في جنوبي فرنسا، ومنها انتشر في كل أوروبا.
هذه الحكايات موجودة في الأدب الشعبي الأوروبي، تتناقلها الأجيال، ووثقتها كتب التاريخ والأدب الأوروبي، يمكن الاطلاع على بعضها في مصادر مثل «صلاح الدين وسقوط القدس» للمستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول، و«الرومانسية الإنجليزية في القرون الوسطى English Medieval Romance» للباحث الأدبي «وليم بارون W. R. J. Barron».
صلاح الدين وزوجة لويس السابع
من أهم القصص التي حاكها التروبادور تلك التي حكت عن علاقة رومانسية جمعت سلطان المسلمين بإليانور دوقة أكوتين، وزوجة لويس السابع ملك فرنسا.
الحكاية الخيالية تقول إن إليانور ارتحلت مع زوجها إلى الشرق ضمن الحملة الصليبية الثانية (1147م – 1149م)، وهناك كرهت زوجها واشمأزت منه بعد أن خاف من مبارزة سلطان المسلمين بالسيف، فبدا لها رجلًا جبانًا، في مقابل فارس مسلم وسيم شجاع قوي اسمه صلاح الدين.
بعثت إليانور، الجميلة الثرية ذات السلطة، إلى صلاح الدين رسالة اعترفت فيها بعشقها له، وعرضت عليه أن تعتنق الإسلام إن وافق على مبادلتها الحب والزواج منها، وهو الأمر الذي تجاوب معه سلطان المسلمين، وأخذت الرسائل تذهب وتعود بينهما حتى اتفقا على وضع خطة لتهريب إليانور من مدينة صور التي كانت تقيم فيها الملكة الفرنسية خلال الحملة الصليبية، إلى مدينة عسقلان التي كانت في أيدي المسلمين.
في عتمة الليل وصل مركب إلى صور لتهريب إليانور، ونزل منه أحد رجال صلاح الدين وتمكن من التسلل إلى غرفة نومها، وكانت قد جهزت مجوهراتها للهرب بها، لكن إحدى وصيفاتها وشت بها عند الملك، فأُلقي القبض عليها وهي تضع قدمها في المركب، لتجد لويس السابع بنفسه يواجهها ويسألها عن حقيقة هروبها إلى صلاح الدين.
وهنا ردت إليانور بمنتهى القوة وقالت له: «صلاح الدين أفضل منك بكثير، فأنت رجل جبان غير جدير حتى بتفاحة نتنة، أما هو فقد سمعت عنه أشياء رائعة جعلتني أقع في حبه».
ويعلق أستاذ التاريخ العراقي الدكتور ناصر عبد الرازق على هذه الحكاية خلال دراسته المعنونة بـ«صلاح الدين في القصص الرومانسية الفرنسية والإنجليزية» بأنها غير حقيقية، مشيرًا إلى أن صلاح الدين (ولد في 1138م) وزمن وقوع القصة (1147م) وكان صبيًّا في العاشرة من عمره تقريبًا، موضحًا أن بعض القصة حقيقي، فقد كانت إليانور تحتقر زوجها الملك، وكذلك أُشيع أنها ارتبطت بعلاقة عاطفية خلال وجودها في الشرق، ولكن هذا الشخص الذي أحبته كان من أقربائها، ولم يكن من المسلمين، وقطعًا لم يكن صلاح الدين.
كذلك فإن ضمن أسباب حياكة القصة أن إليانور كانت جميلة واسعة النفوذ وذات علاقات عاطفية متعددة، وكذلك كانت ترعى الفنون وخاصة الأدب والشعر، ولذلك كانت مصدر إلهام لخيال الكثير من الشعراء، خاصة أنها كانت ابنة وليم يواتيه أحد أوائل شعراء التروبادور.
صلاح الدين يرعى مستشفى صليبيًّا!
إحدى قصص التروبادور الخيالية تقول إن أحد كبار المحاربين الصليبيين الذين كانوا يحتلون مدينة عكا بنى مستشفى خيريًّا كبيرًا، فوصل الخبر إلى صلاح الدين فأُعجب بالأمر وقرر أن يزور المستشفى ويشاهد بنفسه كيف يبذل القائمون عليه جهدًا كبيرًا في رعاية المرضى وينفقون على علاجهم بلا أي مقابل.
تنكر صلاح الدين في زي حاج مسيحي، ونزل إلى المستشفى وادعى أنه مريض، وبذل القائمون على المستشفى كل ما في وسعهم لعلاجه، لكنه قرر الامتناع عن تناول الطعام واستمر على ذلك لمدة 3 أيام، حتى تدهورت صحته، وبعد محاولات قال لهم إنه مستعد لإنهاء صيامه إن قدموا له وجبة من لحم الحصان، وحدد لهم حصانًا بعينه وهو حصان رئيس الطائفة المسيحية التي تدير المستشفى. وهنا قرر رئيس الطائفة أن يضحي بحصانه الوحيد، والذي كانت تبلغ قيمته حوالي ألف دينار ذهبي، لأجل إنقاذ هذا الحاج المسيحي من الهلاك.
عندها وافق صلاح الدين على إنهاء صيامه ولم يرضَ بذبح الحصان، فقد كان كل هدفه أن يعرف إلى أي مدى تصل الرعاية والكرم الذي يُعامَل به نزلاء المستشفى.
أكل صلاح الدين وغادر دون أن يعرف القائمون على المستشفى هويته، وبعد أن عاد إلى دمشق، أصدر مرسومًا بوقف ألف دينار من الذهب سنويًّا للإنفاق على هذا المستشفى المسيحي الصليبي، لما لمسه من تفاني القائمين عليه في خدمة مرضاهم، واستمرت هذه الأموال تُدفَع للمستشفى حتى بعد وفاة صلاح الدين.
القصة خيالية كما ذكرنا، ولكن مؤلفها اختار أن يكون بنو جلدته محسنين وخيرين، ولكن صلاح الدين أُعجب بهم ورد على إحسانهم بإحسانه.
ملك لا يملك إلا كفنه
القصة الخيالية هذه المرة تتغزل في عدل الملك الناصر صلاح الدين وزهده وتسرد حكايا عن هذه الصفات، معتبرة أنه أعظم ملك بين ملوك الكفار (يقصد المسلمين).
ومما ذكرته القصة أن صلاح الدين أرسل أحد خدمه يطوف في أرجاء سلطنته حاملاً رمحًا في يده، معلقًا عليه قطعة قماش من الكتان طولها 3 أذرع، ويقف الرجل في الأماكن العامة وينادي بأن صلاح الدين لم يستبقِ من أمواله وكنوزه إلا هذه القماشة لتكون كفنًا له بعد مماته، وكل ما تبقى من ثروته أوقفه لعمل الخير.
واقع دعم الخيال
ليس هناك خيال من العدم، وما كتبوه وغنوه عن صلاح الدين في أوروبا القرون الوسطى، من كلمات تصوره كفارس قوي وسيم شجاع كريم نزيه عادل، كانت له جذور في الواقع لمسها الصليبيون خلال تعاملهم معه، فكتبها مؤرخوهم، وعلى عادة الشعراء بالغوا فيها وأعملوا خيالهم تجاهها.
تعامل صلاح الدين مع الصليبيين، وكرمه لهم، بعد هزيمتهم عسكريًّا، جعلهم يُعجَبون به أشد الإعجاب، ومن ذلك سلوكه الكريم معهم عقب تحريره القدس، والذي قارنوه بجرائمهم التي حدثت حين احتلوها عام 1099م، وذبحوا عشرات الآلاف من المسلمين، حسبما يوضح أستاذ التاريخ عزيز سوريال عطية في كتابه «The Crusade in the Later Middle Ages – الحملات الصليبية في العصور الوسطى اللاحقة».
وسجل المؤرخ الصليبي «إرنول Ernoul» ما شاهده بنفسه من معاملة صلاح الدين للأسرى، حيث منح أهلها الأمان، وأطلق آلاف الأسرى من الصليبيين، إكرامًا لأخيه العادل صديق ريتشارد الأول ملك بريطانيا الشهير بقلب الأسد، وإكرامًا لبطريرك القدس. كما زاد على ذلك بأن أطلق سراح كل شيخ وامرأة عجوز، حسبما ينقل عنه لين بول.
ويحكي إرنول الكثير من القصص الإنسانية المؤثرة حول ذلك، ومنها أن مجموعة نسوة صليبيات ذهبن إليه يبكين أزواجهن وآباءهن الذين قتلوا في الحرب أو أسروا، فترأف صلاح الدين بحالهن وأمر بإطلاق سراح من كان بالأسر من أقاربهن، كما عوض الأرامل بأموال كبيرة، وأمَّن للجميع الحماية كي يغادروا بسلام إلى أوروبا.
كما نقل مؤرخون صليبيون آخرون دهشة أسقف مدينة سالزبوري، أحد كبار رجال الدين الإنجليز، لكرم صلاح الدين وأخلاقه العالية أثناء لقائه به عقب انتهاء الحملة الصليبية الثالثة عام 1192م، ما جعل رجل الدين المسيحي يثني على حكمة صلاح الدين وطيبته التي لا حد لها، حسبما يوضح المؤرخ الأمريكي نورمان دانييل Norman Daniel في كتابه «The Arabs and Medieval Europe العرب وأوروبا القرون الوسطى».
سرعان ما انتشرت هذه القصص في أوروبا لتمثل رواية مناقضة لما كان يشاع عن صلاح الدين والمسلمين قبل الحملة الصليبية الثالثة، تلك الروايات التي كانت تبثها الكنيسة للتحريض على غزو بلاد الشام، عن تدمير الكنائس وتكسير الصلبان وقتل رجال الدين المسيحي، حسبما يوضح الدكتور ناصر عبد الرازق.
هذه الصورة الجديدة أخذت طريقها إلى الخيال الأدبي الأوروبي، خاصة الأدب الرومانسي الذي بدأ يزدهر في أوروبا في تلك الأثناء، وما عرف بشعر التروبادور الذي تأثر بالعرب أشد تأثير كما شرحنا في مقالة سابقة، وبالتالي ليس غريبًا أن يتأثر الخيال الشعري الأوروبي الشعبي بشخصية صلاح الدين، بعد هذه السياقات التي ذكرناها.