سكن ومحمود الوراق: عما فعلته الجواري بالأسياد
عريب جارية المأمون، خنساء جارية هشام النحوي، ومتيم جارية علي بن هشام -أحد قواد المأمون-عنان جارية الناطفي، ودنانير جارية البرامكة، مؤنسة جارية المأمون، بنان جارية المتوكل، وقلم الصالحية جارية الواثق، وغيرهن.. جوارٍ تألقن في العصر العباسي وتلألأن نجومًا في كتب التراث، علمًا وأدبًا وجمالًا، حتى كن الملِكات على الحقيقة وإن كن مملوكات، وحُقَّ للحرة أن تحسد الجارية إن كانت الجارية على مثالهن. وعلى كثرة الجواري ورواج تجارتهن في العصر العباسي، والعناية بتعليمهن وتأديبهن، وكثرتهن في قصور الخلفاء والوزراء والقادة.. حتى لا تكاد تميز الواحدة منهن أو تعرفها لشخصها؛ فبروز إحداهن وشهرتها حتى يترجم لها الأدباء ويتنافس فيها النبلاء، مرتقىً صعب لا ترتقي إليه إلا من تستحق بحق!
سكن جارية الوراق شمس أشرقت وفاقت نجمات القرن الثاني والثالث الهجري، سكن جارية بارعة الحسن والجمال، فاتنة زمانها، عذبة الحديث، أديبة، تتقن نظم الشعر، ومواهبها في العزف والغناء لا تخفى على أحد، هي سكن للجمال والرقة وحسن البيان، إذ يسكن فيها الجمال الفتان ولا يبرحها، حتى لا تحتاج لزينة تجملها، بل هي من تجمل الزينة، ولا تحتاج لشيء ممَّا تتكلفه الجواري من رقة الصوت وفتور العين، ونعاس الطرف، ولا تعرف الحيل التي تصطاد بها القلوب، وتخضع بها النفوس -كما كان حال الجواري في ذلك العهد- بل كانت تأتيها القلوب منقادة، والنفوس خاضعة لجمال آسر، وجاذبية شادن، تضرب على العود في صوت من شعر الغزل، فينسى من يسمعها زمانه ومكانه ويرتفع إلى سكرة من النشوة والطرب وكأنه لوهلة في دنيا غير هذه الدنيا، وعالم غير هذا العالم.
ملكت قلب سيدها محمود الوراق وعقله، ومحمود الوراق شاعر مجيد، برع في شعر الزهد والحكمة، تذكره متى تذكر أبو العتاهية وصالح بن عبد القدوس وشعراء الحكمة والزهد في عصره، كان مشتغلًا في أول أمره بالنخاسة قبل أن يشتغل نساخًا وراقًا، لخبرته بالمعادن نفيسها وزائفها، وعلى كثرة ما ورد عليه من الجواري الحسان، سبته تلك الجارية سكن فاستخلصها لنفسه، ولم يرض ببيعها حتى لو عرضت عليه الجواهر والدرر، وهو النخاس الذي لا يحب أن تبيت عنده الجارية.. أكثر مما يحب أن يبيت عنده ثمنها.
كان شاعرنا يعشقها ويغار عليها غيرة العاشق الذي لا يصبر على معشوقه، حتى أني تفحصت سيرة الوراق وشعره وقد امتلأ ديوانه بفن الحكمة وشعر المواعظ، وليس له حظ من أبيات الغزل إلا نادرًا، وقلت لنفسي حينها.. لماذا يكتب الغزل ويشكو الهجر والسهاد والأرق، ويبث الشوق والوله؟! وقد حظي بمحبوبه فهو قرير العين هانيها، لا يلاقي ما يلاقي هؤلاء فيبثه في شعره!
وكان لسكن دور في تأجج قريحة محمود الوراق، كان يعرض عليها ما ينظم من الشعر، وكانت صاحبة رأي ونظر تعلق على شعره وتنتقد، وكان لشاعرنا محمود الوراق جاريتان يحبهما؛ نشوى وسكن، إلا أن سكن لا تقارن بنشوى؛ لما ذكر من محاسنها وبهجتها، حتى وقعت في نفس الخليفة المعتصم بالله فأرسل إلى محمود الوراق أن يشتري منه سكن بما يحب ويرضى في ثمنها، لكن سكن رفضت وآثرت سيدها الوراق على الخليفة، وتسامع الناس بهذا، وبعضهم قال لعلها خرقاء حمقاء؛ كيف لها أن تؤثر بيت الوراق على قصر الخليفة؟! ومرت الأيام وتُوُفِّيَتْ نشوى وبقيت سكن تخدم سيدها الوراق وتملأ بيته حبًا وسعادة، واكتفى بها واستغنى عن الجواري والنساء مع قدرته على الإكثار.
وصفت سكن بأنها: «من أحسن خلق الله وجهًا وأكثرهم أدبًا وأطيبهم غناءً، وكانت تقول الشعر فتأتي بالمعاني الجياد والألفاظ الحسان»، تقلبت الأحوال وضاقت الدنيا بمحمود الوراق على رحابتها، فأعسر حاله بعد اليسر، وذاق طعم القلة بعد الوفرة، حتى إنه لم يجد ما يطعم به سكن، وكان يشفق عليها وعلى حالها معه، وفكر أنه لن يبقيها معه على الشقاء والفقر والفاقة، وهي أحق أن ترفل في الدمقس وفي الحرير، وقد طال عليه الضيق ولم تهب عليه نسائم الفرج، فكر في بيعها فأوعز إليها أن تكتب للمعتصم في شرائها، وأملت أن يغدق على سيدها مالًا، فينفرج بثمنها من الهم والفقر والحزن، ولما قرأ المعتصم رسالتها، مزق الرقعة وأعرض عنها ليشتفى منها، حين أبت أن يشتريها وفضلت الوراق عليه، فكتبت إليه أبياتًا طويلة:
وطفقت تمدحه مدح الخلفاء:
ولم يَخفَ على المعتصم حينها أنها أرسلت إليه يشتريها لا رغبة فيه، ولكن لِما حل بسيدها من كرب وعوز، وهي في أبياتها حتى لم تكتب إلا ما ينبئ عن ذلك، وكأنه قد غرها جمالها وأدبها فتعاتبه وهو الخليفة، فهي كما قال مهيار الديلمي:
فلم يرد عليها المعتصم، ليذيقها شيئًا مما أذاقته، ويخفض من كبريائها وغرورها، ولما يئس الوراق من رد الخليفة أو أن يجود عليهم بشيء من المال، روي أنه قال لها: «قد ترين يا سكن ما أنا فيه من فساد الحال وصعوبة الزمان، فليس بي وجلال الله ما ألقاه في نفسي ولكن ما أراه فيك؛ فإني أحب أن أراك في أنعم حال وأخفض عيش، فإن آثرت أن أعرضك على البيع فعلت ولعل الله أن يخرجك من الضيق الى السعة»، وعرض بيعها وكبده يتفتت على فراقها، تراهما كما قال الصمة القشيري:
ولعله لو كانت نشوى حية لعرضها للبيع وآثر سكن. تدافع عليها المشترون من كل حدب وصوب كل يحب أن يحظى بها، وغالى الناس في ثمنها حتى وصل إلى مئة ألف درهم، دفعها أحد الطاهريين، ولما رآها الطاهري وردة ذابلة لا ترقأ عينها ظن أنها راغبة عنه، وكان رجلًا جوادًا كريمًا فأخبرته أنه يتفتت قلبها على فراق سيدها ولما رآها الوراق تخرج كأنها البدر الطالع، كاد يلفظ روحه على أنه لن يبقيها معه على الكرب والضيق، فقالت له: «يا محمود هذا كان آخر أمري وأمرك أن اخترت عليّ مائة ألف درهم!» قال لها: «أتجلسين على الفقر والخسف!» قالت: «نعم؛ أأصبر أنا وتتضجر أنت؟!» فما كان أن أشهد الناس على عتقها وأصدقها بيته، ولما رأى الطاهري ما كان بينهما، وهبهما المائة ألف درهم ولم يرد أن يكون غراب البين يفرق بين المحبين، وكانت سكن فأل خير على سيدها وسببًا من أسباب سعده ويمن طالعه على كل حال، وتحسنت حاله بتلك الهبة الطاهرية السخية، وكان يصحب سكن معه في كل أسفاره، ولا يصبر عنها، يضره ما ضرها، ويسعده ما يسعدها، وظلت وفية له تخدمه حتى بعد أن دب الوهن والمرض في جسده، ولما توفي حزنت عليه، وتروي المصادر أن المعتصم ما زال يتحين شراءها حتى اشتراها من ميراث الوراق بعد وفاته.
ولست أدري لماذا لم يحفظ لنا التراث ما نظمت سكن من شعرٍ جله أو كله، إذ كل المصادر تشهد لها أنها شاعرة مجيدة، ومحسنة، فهل يكفي إيراد عدة أبيات من الشعر، والشهادة لها بأنها شاعرة مفلقة؟! وقد بحثت لعلي أجد لها أبياتًا غير تلك التي في قصتها مع المعتصم، وتأسفت على الرواة الذين ضيعوا أكثر شعر المرأة، لا سيما الجواري؛ إذ كن محجوبات في القصور، ولم يرد لنا إلا أقله وقد يقصرونها على الرثاء وحسب، ولو وصل لنا شعر الجواري كاملًا موفورًا لوجدنا فيه علمًا وأدبًا وظرفًا لا حد له، ولعله أبان عن جوانب خفيت من الحياة الأديبة في العصر العباسي.