صحيح البخاري: قصة الكتاب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس
خلال أحد المجالس العلمية لأبي حفص الكبير الملقب «شيخ ما وراء النهر»، إمام الحنفية في زمانه، وبينما كان يشرح حديثًا للناس، راجعه ولد في الحادية عشرة من عمره، 3 مرات. جذب عِلم الصبي وتمكنه انتباه الشيخ، فسأل: مَنْ هذا؟ فقالوا: ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بَرْدِذبه، فقال: «احفظوه، فإن هذا يصير يومًا رجلًا»[1].
وقتها كان نجم الصبي الأعجوبة محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزبه (لفظة بخارية معناها الزرَّاع) الجعفي، قد بدأ يعلو في علم الحديث الذي برع فيه مبكرًا جدًا. يحكي عن نفسه، أنه أُلهم حفظ الحديث وعُمره أقل من 10 سنين [2]. ويضيف في رواية أخرى أنه لما بلغ 16 عامًا، حفظ كتب ابن المبارك ووكيع (أشهر مصنفات أهل الحديث وقتها)[3].
يروي سليم بن مجاهد أنه لما كان عند عالم الحديث محمد بن سلام البِيكندي، أخبره أنه لقي صبيًا يحفظ 70 ألف حديث، فخرج في طلبه وسأله عن ذلك، فأجابه مؤكدًا: «نعم، ولا أجيئك بحديثٍ من الصحابة أو التابعين إلا عرفتُ مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم»[4]، هذا الصبي سيصير أبو عبدالله البخاري، صاحب الكتاب ذي المكانة الرفيعة عند أغلب المسلمين.
وُلد البخاري سنة 194 هـ لأسرة مسلمة سكنت قرية بخارى، التي كانت جزءًا من المُلك الشاسع للدولة العباسية وقتها، وتقع الآن بجمهورية أوزبكستان. جد جده كان فارسيًا مات على المجوسية، وعرف سلسال البخاري الإسلام عبر الجد المغيرة الذي آمَن على يدي والي بخارى يمان الجعفي فنُسب له [5]. وعاش البخاري وحيدًا بصحبة أمه وأخيه بعدما مات الأب صغيرًا وخلّف وراءه ميراثًا طيّبًا، استعان به البخاري بقية حياته للاشتغال بالعلم [6].
في مدينته، تتلمذ على يد عبدالله بن محمد المسندي ومحمد بن سلام البِيكَندي، ثم خرج بعدها إلى الحج مع أسرته، لكنه آثر عدم الرجوع معهم، فعاش في مكة 6 أعوام يأخذ العلوم عن شيوخها.
ما قبل البخاري
يحكي أبوبكر كافي في كتابه «منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها»، أن جهود البخاري في تنقية المرويات كانت سلسلة ممتدة منذ عهد تدوين الأحاديث حتى عصره، وأنه استفاد بشدة من جهود الأئمة الذين سبقوه سواءً من حيث المادة العلمية أو من حيث الطريقة والمنهجية.
ويضيف كافي أن من الأخطاء الشائعة الظن أن الأحاديث لم تُجمع إلا على يد البخاري، وأن المسلمين لم يعرفوا العمل بها إلا بعد وضع كتابه، وهو أبعد ما يكون عن الصواب، فخلال القرنين الثاني والثالث، خرجت إلى النور المئات من كتب السنة في كافة مجالاتها؛ فظهرت كُتب «السُنن» المُرتبة على الأبواب الفقهية كالإيمان والطهارة وغيرها، وأشهرها سُنن أبي الوليد عبد الملك بن جريج الرومي (ت 151هـ)، سنن سعد بن منصور (ت 227هـ)، سنن محمد بن الصباح (ت 227هـ)، سنن الدارمي (ت225هـ).
كما أُلّفت «المصنفات» و«الجوامع»، وهي كتب مرتبة على الأبواب الفقهية لكنها أكثر اشتمالاً من «السُنن» في إيراد كل ما هو في حيزها أو تعلق بها، من أهمها جامع أبي عروبة الأزدي (ت153هـ)، وجامع سفيان الثوري (ت161هـ)، ومصنف حماد بن سلمة (167هـ)، ومصنف وكيع بن الجراح (197هـ)، وجامع سفيان بن عينة (ت198هـ)، مصنف عبدالرازق الصنعاني (ت 211هـ)، وهذا يشتمل على 21033 أثرًا، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ) ويضم 19789 أثرًا، والمصدران الأخيران استفاد منهما البخاري بشدة خلال إعداده كتابه.
كما وُضعت كتب «المسانيد»، وكانت تُبوّب على أسماء الصحابة تحكي كل ما رواه الواحد، صحيحًا كان أو ضعيفًا، مرتبين على حروف المعجم أو على القبائل أو السابقة في الإسلام، وقد يقتصر على صحابي واحد كمسند أبي بكر، أو أحاديث جماعة منهم كمسند الأربعة أو العشرة، أو طائفة مخصوصة مثل مسند الصحابة الذين نزلوا إلى مصر. وهذه المسانيد كثيرة جدًا، أشهرها على الإطلاق مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) وهو أعلى المسانيد على الإطلاق، بالإضافة إلى مسند إسحاق بن راهويه (ت 238هـ)، ومسند أبي بكر ومسند عثمان بن محمد بن أبي شيبة، ومسند أبي بكر عبدالله بن الزبير (ت219هـ)، وجميعهم من كبار شيوخ البخاري، والأخير نفسه صنّف لنفسه مسندًا يُسمى «المسند الكبير».
أما «المغازي والسير»، فأبرزها ما وضعه موسى بن عقبة (ت 141هـ)، ونقل عنه البخاري في مواضع كتاب المغازي من جامعه: باب غزوة الخندق، وباب غزوة بني المصطلق، باب غزوة الطائف، وأيضًا كتاب السيرة النبوية لمحمد بن إسحق الذي نقل عنه البخاري في صحيحه بمواضع مختلفة.
لماذا وضع البخاري صحيحه؟
على الرغم من كثرة كتب الأحاديث التي خرجت للناس في القرن الثاني من الهجرة، فإنها لم تكن تعتني بتصحيح الروايات، وإنما تضم بين جنباتها الضعيف والمعلول، وكان أصحابها يفعلون ذلك ثقة منهم بأنه في إمكان أي مُحدِّث أو فقيه أن يميز هذا من ذاك. لكن في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، بعدما استطال السند وكثر الرواة وتشعبت الطرق بُحكم مرور الزمن، أصبح من العسير جدًا على غير الأئمة المتمكنين أن يميزوا الحديث الصحيح عن غيره وسط عشرات المرويات والطرق للحديث الواحد، وأصبحت هناك حاجة ماسة لوضع كتاب يضم الصحيح ويتحاشى الضعيف والمعلول، وأن يكون مختصرًا للناس لأن كل المؤلفات القديمة كانت كبيرة الحجم.
أعلن هذه الحاجة شيخ الإمام البخاري الإمام إسحاق بن راهويه في أحد مجالسه، قال لتلاميذه: «لو جعلتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله»[7]، فوقع ذلك في قلب البخاري، وتزامن ذلك مع رؤيته النبي في منامه، وهو واقف بين يديه، وبيده مروحة يذبٌّ بها عنه، فسأل بعض المفسرين، فقالوا: «أنتَ تذب عنه الكذب»[8]. وهنا، ترسّخ في نفس البخاري أن تنقيح سُنة النبي هي مهمته الموعودة. ومن مدينة الرسول بدأت سياحته العلمية في شتى أرجاء العالم الإسلامي لجمع الأحاديث.
يضيف أبوبكر كافي في كتابه «منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها» أنه كان لديه سبب ثالث لوضع مؤلفه، وهو انتشار موجات البدع خلال عصره مثل الإرجاء والاعتزال والتجهم والتشيع والتصوف المغالى، لذلك كله جرّد نفسه لوضع كتاب يرد على كل هذه التوجهات، ويُظهر مذهب أهل السنة والجماعة على حقيقته وفقًا لأصح الروايات المُسندة للنبي ولصحابته.
منهج البخاري
من مكة والمدينة إلى البصرة وفِرَبْر، انطلقت رحلة البخاري الدؤوب في أرجاء العالم الإسلامي على مدار 16 عامًا، مستمعًا لعلمائه ناقلًا عنهم كل ما حفظوه من سيرة الرسول، في مسعى منه لغربلة كل هذه المنقولات في كتاب واحد يُجمع فيه أصح الصحيح.
ووفقًا لما رواه عنه ورَّاقه محمد بن أبي حاتم، جاوز عدد أصحاب الحديث الذين لاقاهم ألف نفس [9]. سمع في مكة من أبي عبدالرحمن المقرئ، خلاّد بن يحيى، حسان بن حسان البصري، أبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي؛ وفي المدينة من عبدالعزيز الأويسي، أيوب بن سليمان بن بلال وإسماعيل بن أبي أويس؛ ومن بلخ مكين بن إبراهيم؛ ومن مرو عبدان بن عثمان وعلي بن الحسن بن شقيقة وصدقة بن الفضل؛ ومن مصر سعيد بن أبي مريم وأحمد بن إِشكان وعبدالله بن يوسف؛ ومن الكوفة عبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد وطلق بن غنام؛ ومن البصرة أبي عاصم النبيل وحجاج بن المنهال [10]… وغيرهم كثيرون.
وضع البخاري شروطًا عسيرة قبل قبول أي رواية بكتابه. وبعكس مسلم بن الحجاج، فإنه لم يضع مقدمة لكتابه يوضح فيها هذه الشروط، وإنما استنبطها العلماء عبر استقراء صحيحه وباقي كتبه، وهو وإن حافظ على ما أقرّه شيوخ الحديث سابقًا لقبول أي رواية بأن تتوفر بها 5 شروط، هي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وعدم الشذوذ، وعدم العلة؛ إلا أنه زاد عليها في حالات «الإسناد المعنعن» (فلان عن فلان) أن يثبت لقاء طرفيه ببعضهما ولو مرة، فلم يكتفِ بمجرد المعاصرة كما درج سابقوه.
كما كان البخاري أكثر تساهلاً في قبوله «الرواية بالمعنى» ولم يشترط «الرواية باللفظ» كما فعل مسلم، لذا كرّر في صحيحه ذِكر الحديث الواحد بإسناد واحدٍ، بألفاظ مختلفة، ومثال على ذلك حديث «كل سُلَامَى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقةٌ»، أخرجه البخاري في 3 مواضع باتفاق في الإسناد واختلاف في المتن، أحاديث رقم 277، 2891، 2989.
وكان يختصر الحديث إذا دعت الحاجة لذلك، فيُورد منه ما يتعلق بالحُكم الذي يودُّ مناقشه ولا يكتب الباقي، مثال: ما أخرجه في العتق من حديث ابن مسعود: «إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون». هذه الجملة قطعة من حديث طويل ورد في الكتب، أوله: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إني أعتقت عبدًا لي سائبة، فمات وترك مالاً ولم يدع وارثًا؛ فقال: إن أهل الإسلام لا يسيبوه…
كما أنه كان يقتطع الحديث الكبير إذا اشتمل على جمل متعددة لا تتعلق إحداهما بالأخرى، فالبخاري يقطّع الحديث، ويُخرج كل جملة في باب مستقل فِراراً من التطويل، وكان يفضل دائمًا الاعتماد على أحاديث «الإسناد العوالي»، وهي التي قلَّ عدد رواتها بينه وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، وسلمت من الضعف، وكانت أعلى الأسانيد في الصحيح «ثلاثية» (بين البخاري وبين النبي ثلاثة رواة فقط)، وله في الصحيح من هذا القسم 22 حديثًا، وأطول ما عنده هو الإسناد التساعي، وهو مرة واحدة أورده في باب يأجوج ومأجوج من كتاب الفتن.
ونتيجة لهذه الجهود، رضي البخاري 4 آلاف حديث فقط من 60 ألف رواية جمعها في رحلاته.
ورقم 60 ألف حديث ليس بالمبالغ فيه لأن طريقة عدّ أهل للحديث للروايات كانت مختلفة قليلًا، فكل خبر مروي عن صحابي أو إمام ثقة تتعدد الطرق والأسانيد إليه، ويعدّ كل واحد من تلك الطرق والأسانيد حديثًا في العدّ. يقول الذهبي بكتابه «سير أعلام النبلاء»: «كانوا يعدّون في ذلك المكرر والأثر ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك».
مثلاً قول النبي: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، رُوي عن أكثر من 70 صحابيًا؛ فهو على طريقة المحدثين يكون وصلهم كأنه 70 حديثًا، وليس حديثًا واحدًا.
بل أكثر من ذلك، إذا أدخلنا الأسانيد المروية لكل حديث في الحسبة، فبهذا يصل تعداد الطرق إلى المئات.
كما اختار البخاري أن يرتّب كتابه على الأبواب لا تراجم الرجال، أي أنه كان يُعنون الأبواب ويرتّب أسفلها كافة الأحاديث التي تصلح للاندراج أسفل هذا العنوان، ولم يلتزم بذِكر الحديث في موضع واحد، وإنما كان يكرره بحسب الحاجة له، فمثلاً: حديث عبدالله بن عمرو في صيامه وقيامه، كرره البخاري في 17 موضعًا في كتاب الصلاة والصيام والنكاح والقرآن والتفسير والأدب، وحديث عاشة عن حجة النبي كرره في 35 موضعًا في كتبٍ عِدة تبدأ بالحيض وتنتهي بالأدب، إذ كان ذلك يحقق غرضه الأسمى في عدم الاكتفاء بسرد الأحاديث وإنما استنباط معانيها وأحكامها.
الإضافة الأخرى التي قام بها البخاري في عمله أنه جعله وافيًا للعقيدة والفقه والتفسير والمغازي والسير والزهد والرقاق والفضائل والآداب، بينما كان من سبقه يركز على علم واحد منها، ويفرد لها مؤلفه.
ولمّا فرغ من تأليف كتابه عام 232هـ [11]، كان قد جمع به علوم الإسلام فكان «جامعًا»، واقتصر فيه على المرويات المحكوم عليها بالصحة فقط فكان «صحيحًا»، واشترط أن تكون عالية ومرفوعة السند فكان «مسندًا»، ولم يقصد به استيعاب كل الأحاديث الصحيحة فكان «مختصرًا»، لذا خرج كتابه إلى النور يحمل اسم «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه» الذي عُرف اختصارًا بـ«صحيح البخاري».
- محمد أنور الكشميري: «فيض الباري على صحيح البخاري»
- أبو بكر البغدادي: «تاريخ بغداد»
- ابن مقصد العبدلي: «القاضي على تعليقات البخاري»
- عبد القادر بن محمد جلال: «إعلاء البخاري»
- «منهج الإمام البخاري في الرواية» رسالة ماجسيتر أعدتها الطالبة إندونيسيا بنت خالد محمد حسون في جامعة أم القرى بمكة المكرمة
- مصطفى السباعي: «السنة ومكانتها في التشريع»
- شهاب الدين القسطلاني: «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (ط. العلمية)»
- الإمام الحافظ الزبيدي: مختصر صحيح البخاري
- السلوم: مرجع سابق.
- نبيل أبو القاسم: «ألفُ معلومة عن الإمام البخاري»