فيلم «صاحب المقام»: إلا السذاجة أعيت من يداويها
رجلان نصابان ينجوان من حادث طائرة مروع بصدفة قدرية بحتة، يشعران بعد نجاتهما أن تلك رسالة من الله كي يتوبا وينصلح حالهما، ويشعران أن التوبة ليست كافية، فيقترح أحدهما على الآخر أن يذهبا لأكثر مكان مقدس لمن يحمل ديانتهما ويطلبا الغفران، هناك يعثران على رسائل تركها متدينان آخران ليطلبا من الله تحقيق أمنياتهما، تبزغ في عقولهما فكرة أن يحققا ما في هذه الرسائل ليتقربا أكثر من الله وليثبتا أنهما أصبحا شخصين جيدين بالفعل.
تلك هي – باختصار – قصة فيلم «مكتوب» الإسرائيلي، الفيلم متاح على منصة نتفلكس، ومن إنتاج 2017 وحاصل على تقييم عال على موقع التقييم الجماهيري IMDB، ويعتبر فيلم مكتوب هو أكبر نجاح سينمائي إسرائيلي منذ عام 1986.
صاحب المقام
رجل أعمال شاب غير مرتبط بأسرته ولا يوليهم أي اهتمام، يفضل البيزنس على أي شيء آخر وله علاقات متشعبة بأكابر الدولة، في سبيل بنائه لكومباوند جديد ضمن مشاريعه المتعددة يقدم على هدم زاوية تحتوي «مقام» أحد الأولياء الصالحين الذين يتبرك بهم عامة الشعب، وبعد هدمه للمقام تبدأ أعماله في التعثر ويتعرض لمشكلات كثيرة ولكنها لا تؤثر فيه ويصر على أن هذا لا علاقة له بما فعله، حتى تسقط زوجته مغشياً عليها نتيجة نزيف في المخ وتدخل في غيبوبة.
يبدأ بعدها في فهم العلامات التي تخبره أنه فعل شراً بهدمه للمقام وأنه يجب عليه أن يصلح ما فعله، ولذلك يبدأ في زيارة مقامات أولياء الله الصالحين في القاهرة، ويعثر في مقام الإمام الشافعي على خطابات تركها المتبركون يطلبون فيها شفاعته ويستنجدون بكراماته في تحقيق أحلامهم وإنقاذ حياتهم، يقرر رجل الأعمال أن يحقق أحلام من تركوا هذه الخطابات مستعيناً بثروته أو علاقاته، أملاً منه أنه بذلك سوف يخرج من محنته الخاصة ويشفي الله زوجته حبيسة الغيبوبة التي لا يعرف لها أحد سبباً.
فيلم صاحب المقام الذي كتبه إبراهيم عيسى وأخرجه محمد العدل، من بطولة آسر ياسين وبيومي فؤاد ويسرا وأمينة خليل، وقد بدأ عرض الفيلم مع بداية عيد الأضحى على منصة شاهد المدفوعة، وحقق مشاهدات كبيرة وردود أفعال واسعة، ونحن هنا اليوم لنفند الفيلم ونفند ردود الأفعال على حد سواء.
سينما إبراهيم عيسى
يمكنك أن تميز سينما إبراهيم عيسى بسهولة، فهي دوماً تدور في دائرة علاقة الدين بالمجتمع المصري، وكيف تحدد هذه العلاقة كل التفاصيل في حياة المصريين تقريباً، أيضاً تتميز سينما إبراهيم عيسى بالضعف أياً كان المخرج، فأفلامه أشبه بمقالات رأي، وتعتمد بشكل أساسي على طرح وجهات النظر بطريقة حوارية، دوماً ما تكون الحبكة في أفلام إبراهيم عيسى هي آخر همه، ولكن الطرح الفلسفي والمونولوجات العميقة هي شاغله الأكبر، إبراهيم عيسى كاتب مقالات جيد جداً، وباحث لا بأس به، وله وجهة نظر حقيقية، ولكن كل هذا لا يبرر أبداً اتجاهه، مؤخراً، لكتابة الأفلام، فمناظرات مقارنة الأديان ليس مكانها شاشة السينما، ولكن إبراهيم عيسى فيما يبدو يريد أن تصل قضيته لكل أطياف المصريين فلم يكتف بالمقالات والروايات، وأصبحت السينما هاجسه الجديد.
ورغم ذلك، فإن فيلم صاحب المقام هو أفضل أفلام إبراهيم عيسى، على الأقل أفضل من فيلمه الأخير (الضيف)، فقد احتوى صاحب المقام على بعض الدراما، أي نعم هي دراما مؤطرة بالتنظير، ولكنها نجحت في تحريك إحساس المشاهد، فكل مشاهد مرسلي الخطابات تقريباً مؤثرة، مشهد محمود عبد المغني مثلاً نجح في أن يجعل الكثير من مشاهدي الفيلم يبكون، إنطلاقه نحو الشرفة بتلقائية وحديثه للسماء نجح في تحريك مشاعر الشفقة والتعاطف، ربما الضعف والرثاء للذات، أيضاً مشهد فريدة سيف النصر الذي نجح في خلق قصة كاملة رغم أنها لم تقول سوى أربع كلمات بالعدد ثم سقطت ميتة، وبكاء إبراهيم نصر الذي أبكى المشاهدين، من ناحية لأن قصته كانت مفعمة بالمشاعر الدرامية، ومن ناحية أخرى لأن إبراهيم نصر نفسه توفي مؤخراً وقد كانت مشاهده تلك هي آخر ما قام بتمثيله قبل رحيله. ثم اللغة التي كتبت بها الخطابات كانت لغة رقيقة ومتوسلة وخاضعة لله، تذكرك بضعفك البشري الذي بالتأكيد نسيته أو تناسيته في خضم انشغالك بالعالم السريع من حولك، كل هذه أشياء «تبيع» جيدًا لدى الجمهور المصري الذي يعتبر الدين مكون أساسي لشخصيته، والتدين الدرامي هو أحد أهم مكونات هذه الشخصية.
الدين أفيون الشعوب
«الدين أفيون الشعوب» أحد أشهر المقولات لكارل ماركس، وتنطبق بشدة على الشعب المصري الجميل المتدين بطبعه، ويستخدمها إبراهيم عيسى بذكاء في فيلمه «صاحب المقام». الفيلم غازل الدرامية الشديدة في الشخصية المصرية، مع مسحة التدين التي يمكنك أن تصفها بالدروشة، فخرج لنا فيلم مسلي، غير مهم على الإطلاق، ولكنه يحمل الكثير من ملامح مصر، مآسي وتراجيديا يطعمها المصريون بالمزيد من التراجيديا عندما يرسلون رسائل للأولياء، ومشاهد مبكية لعاهرة تائبة ومدمن كاره لنفسه، كل هذا يحل بلمسة غرائبية فيها الكثير من السذاجة المحببة.
الحديث عن الأولياء والرسائل الربانية والمآسي الإنسانية التي يحلها الله حلاً إعجازياً دون أي تدخل أو مجهود بشري هو موضوع محبب جداً للمصريين، يمنحهم الأمان بشكل ما أن القدرات الإلهية سوف تتدخل في الوقت المناسب وتنقذهم، وتزيح من على كاهلهم أحياناً عبء البحث عن حلول بشرية، فنحن نؤمن جداً بمقولة “تبات نار تصبح رماد ليها رب يدبرها” أكثر من مقولة “اسع يا عبد وأنا أسعى معاك” أو مقولة “اعقلها وتوكل” أو أي مقولة أخرى تتطلب مجهوداً بشرياً أكثر من مجهود الأمل في وجه الله الكريم.
إلا السذاجة أعيت من يداويها
نحن هنا لا نتحدث عن المعضلة الأبدية بين السنة والمتصوفة وما إذا كان التبرك بالأولياء مباحاً أم لا، نحن هنا نتحدث من منظور صناعة الفن. هل كل تلك السذاجة مفيدة فعلاً في صناعة السينما؟ أم أن الفيلم جمع كل الكليشيهات وحشرها حشراً مع بعضها ليبكي المشاهد ويجعله يتنهد قائلاً «مدد» ثم ينسى الأمر برمته؟
كان الفيلم مليئاً بالسذاجة بدءاً من جعل شخصية بيومي فؤاد توءماً متشابهاً كل منهم يؤمن بعكس ما يؤمن به الآخر، مروراً بشخصية يسرا التي لم يكف حائط الإيهام بين المشاهد والفيلم ليقنعك أن تبتلعها، وصولاً لنهاية الفيلم الكلاسيكية الطيبة، كل هذه السذاجة ليست مفيدة، حتى لو كان هدفك الأساسي أن تغازل الجزء الساذج الطيب في البشر، أن تساعده على الظهور والتنفس، سذاجة الطرح لن تساعدك في هذا، بل ربما تجلب عليك السخرية.
يمكنك أن ترى ذلك بوضوح في ردود أفعال الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي، فالفيلم تم تسريبه بعد ساعات من وجوده على منصة شاهد المدفوعة، ومع أجازة العيد فقد شاهده كل المصريين تقريباً في الثمانية وأربعين ساعة الماضية، والآراء التي تسخر من الفيلم أكثر بكثير من الآراء التي تجده محركاً للمشاعر بشكل إيجابي، فالسوشال ميديا تشتعل بآراء الجمهور الذي يرى أن الفيلم لم يكن على مستوى توقعاتهم خاصة مع وجود آسر ياسين ويسرا على البوستر والذي وعدهم بأكثر ما وجدوه، رغم أن الفيلم على مستوى الآداء كان جيداً إلى حد كبير بالنسبة لآسر ياسين، خاصة أن أمينة خليل كانت في غيبوبة معظم الفيلم لأجل الحظ الحسن للمشاهد، أما يسرا، حسناً لم يكن هذا أفضل أدوارها على الإطلاق.
أيضاً موضوع سرقة الفيلم من الفيلم الإسرائيلي «مكتوب» أثار موجة ضخمة من الانتقادات، فالفيلم فعلاً يتطابق مع الفيلم الإسرائيلي من حيث الحبكة والمسبب، ولو كان فعلاً الفيلم منسوخاً من الفيلم الإسرائيلي وليس هذا توارد للأفكار -رغم سذاجة هذا المبرر أيضاً في حد ذاته- فهذه سذاجة أخرى تضاف لسذاجة الفيلم، فالفيلم متاح على منصة نتفلكس والعالم أصبح قرية صغيرة، وهذا الفيلم بالتحديد حقق أصداء واسعة، فمن الصعب جداً ألا ينتبه أحد أن الفيلم نُسخ ليصنع منه عيسى والعدل والسبكي نسخة مصرية!